ضَـبــاب... – قصة : المصطفى السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

nuageكنت أسير على الرصيف الأيسر في شارع كبير، طبقا لنصائح المختصين في السلامة الطرقية ، حتى أكون مواجها للسيارات القادمة من الاتجاه المعاكس ، وأستطيع بذلك رؤية كل خطر أو مناورة غير محمودة العواقب ، سيما وأن السائقين في هذه الأيام ، بفعل الضغط وتأثير المشاكل اليومية أصبحت سياراتهم تتحكم فيهم أكثر مما يتحكمون هم فيها.. لذلك ، وأنا الحريص على حياتي ، أو ما تبقى منها على الأصح ، لم أكن قط لأجازف بها في طرقاتنا المميتة.. لذلك اطمأن قلبي وارتاحت نفسي وأنا أسير واثق الخطو سعيدا بأنني هنا في مأمن من كل خطر داهم..

كان الشارع الطويل أمامي فارغا إلا من بعض المارة الذين اضطرتهم الظروف ، مثلي ، إلى الخروج في هذه الظهيرة القائظة من يوم صائف محموم.. توقفت قليلا عند بائع فواكه احتل عنوة جزءا من الرصيف ، نشر فيه بضاعته واستلقى إلى جانبها في ظل شمسية مهترئة.. سألته عن أثمنة ما يعرضه من فواكه ، فرد علي في تثاقل دون أن يغير من وضعه.. تحسست جيبي وأنا أعلم أن ما فيه من "صرف" قليل لا يكفي حتى لربع ما طلبه من ثمن..

 

واصلت سيري دون أن أكلف نفسي عناء الاعتذار له.. ولعنت في سري رب العمل الذي ظل يماطل في أداء أجورنا بدعوى تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على الإنتاج المحلي..كان ينفحنا ، في بعض الأحيان ، أوراقا مالية هزيلة لا ندري إن كانت صدقة أو جزءا من مستحقاتنا عن العمل..هددْناه بالإضراب فهددَنا بإغلاق المعمل وتسريحنا..قال لنا بالحرف:"أنا راه غير كا نكابر معاكم..أما راه نسد هاد الهري أنمشي فحالي للخارج.. نيت ما بقى ما إدار هنا.."ثم توسلنا إليه أن يبقى هنا ، وقبلنا ، على مضض ، أن يسرح أكثر من نصفنا..كان معظمهم من الذين بادروا إلى المطالبة بمستحقاتهم..اعتصموا أمام المعمل أياما..ثم عندما بدأوا يتحرشون بالعمال جاءت هراوات المخزن تـُقوّم ما اعوجّ من تصرفاتهم ، وتدغدغ بالرفق المعهود في مثل هذه الحالات ، أجزاء من هياكلهم المنخورة وعظامهم الهشة..كنت على وشك الانضمام إليهم في اعتصامهم.. لولا أعباء الحِمل الثقيل الذي خلفتُه في البيت ، والأفواه الكثيرة المفتوحة عن آخرها في انتظار لقمة تسد الرمق ، ولولا هذه الهراوات التي لا أرى في جسمي النحيل موضعا صالحا لاستقبالها أو مكانا يمكن أن يِؤويَ ضرباتها المتلاحقة..انتابني إحساس بالضعف ، وتملكني شعور بالمهانة والخذلان..ولمت نفسي على موقفي ذاك..ودخلت في دوامة من الصمت والانطواء..وثرت في وجه زوجتي بسبب وبدون سبب..تساءلتُ بيني وبين نفسي : لِمَ نحَوّل كل الضغوط الممارَسة علينا إلى عنف وثورة نفرغهما في زوجاتنا ، وكأننا بذلك نعوض عن ضعفنا بالاستقواء على من هو أضعف منا؟؟ سلوك غريب لا يبرره أي منطق مهْما كان..بحثت عن عمل إضافي أستعين به على مصاريف الطلبات المتزايدة..اشتغلت حمّالا في سوق الخضر بعض الوقت قبل أن تطردني رعونة الشباب المفتول العضلات التي لا ترحم شخصا ضعيف البنية هزيل الجسم مثلي..فانسحبت بكل روح رياضية من مضمار لم أخلق له ولم يُخلق لي..راودتني نفسي أن أجرب رياضة الأصابع في الأماكن المزدحمة كالأسواق والحافلات وأماكن الفرجة الشعبية في الساحات العمومية..وتذكرت "العلقة الساخنة" التي كادت تودي بحياة نشال ضبطه المارة ، فأكرموه على طريقتهم قبل أن يسلموه إلى الشرطة ليكمل في ضيافتها بقية الوليمة..واكتفيت عقب كل صلاة بالدعاء الصادق حتى تزول أسباب الأزمة الاقتصادية عن دول لا أعرفها ، ولا أعرف موقعها الجغرافي ، ولا أعلم صدق ما يقال من أنها هي السبب فيما نعانيه نحن هنا من ضيق وشدة..كنت أدعو لرب المعمل أن لا تيسَّر له أسباب الهجرة إلى الخارج فيتركنا لمصيرنا المجهول..إنه على كل حال آخر خيط من الأمل يربطنا بالحياة..فإذا تركنا ضاعت سنوات طويلة من حقوقنا عن الكدح والشقاء في معمله..وضاع كل أمل في التشبث بعمل أو ما يشبهه..
لا أدري كم من الوقت استغرق كل هذا الاسترجاع ، ولا حجم المسافة التي قطعتـُها وأنا في حكم المرفوع عما يحيط بي..التفتّ خلفي فإذا بائع الفواكه على مرمى حجر مني..كيف مرت إذن كل هذه الاسترجاعات في ظرف وجيز؟؟ مرت سريعة كسرعة الحلم في قيلولة خاطفة..كسرعة البرق في يوم ماطر..هل توقفتُ عن السير دون أن أشعر..؟؟ أم كنت أسير ببطء شديد ..؟؟ أم أن المكان ضاق بي على رحابته وشساعة شارعه..؟؟ وقبل أن يرتد إلي طرفي لمحت فيما يلمح النائم المحموم سيارة تسير بسرعة جنونية تسوقها شابة في مقتبل العمر كانت منشغلة بتركيب أرقام على هاتفها المحمول..انحرفتْ بها السيارة جهة اليمين فسمعتُ اصطدام عجلاتها مع الرصيف ، ودويّ إحداها تنفجر بفعل الاصطدام القوي مع حافته..وجدتُ نفسي محلقا في الفضاء ، رغم محاولتي تفادي السيارة بالقفز إلى الخلف..وبدت لي صومعة المسجد القريب تدور في الهواء كأرجوحة من أراجيح السيرك..ثم تراءى لي بائع الفواكه ينتفض من استرخائه تحت الشمسية المهترئة ويفر بعيدا ناجيا بجلده من خطر السيارة المجنونة التي اصطدمت بصناديق الفاكهة فرسَتْ أمامها والدخان يرتفع من تحت عجلاتها..بينما كنت أنا أهوي ببطء فوق الرصيف وأحاول استرجاع ما حدث في أقل من جزء من الثانية..ثم تتابعت أمامي صور أبنائي الخمسة وأمهم التي لا تكف عن التبرم والضجر، وأمي التي تحََكّم فيها المرض فأحالها إلى هيكل عظمي ، وأختي المعوقة التي لا تقوى على الحركة ، وخالتي التي تستغل وجودي خارج البيت لتمارس هوايتها المفضلة في التسول حتى بين أزقة حينا الصفيحي..تراءت لي صورهم وقد لفها سواد من غموض المصير المجهول..وأحسست بغصة مُرّة في حلقي هي مزيج من رغبة شديدة في القيء وإجهاش في البكاء..بدت لي جموع من الناس لا أدري أي فج عميق قذف بهم ليتحلقوا حول السيارة..وتراءت لي وسط غشاوة قاتمة السائقة الشابة تغادرها مذعورة من الحشد المتجمهر حولها..ثم رأيت بعض الأقدام تتحلق من حولي..وغبْتُ فيما يشبه الغفوة..تناهت إلى سمعي أصوات بعضها يتأسف ، والبعض الآخر يلعن أصحاب السيارات وحماقاتهم..سمعتُ أحدهم يقول وكأنه يتلو حكما نهائيا في محكمة: " مسكين..إذا كانت هذه السائقة المجنونة زوجة أو ابنة أو قريبة أو حتى عشيقة أحد المسؤولين مشت على عينيه ضبابة.." أحسست بمرارة الظلم تلتهب تحت لساني ، ثم تسري في مفاصلي وتمسك بخناقي..وتردَّد صدى العبارة الأخيرة في سمعي: "مشت على عينيه ضبابة.."وعادت صور الأبناء والزوجة والأم والأخت والخالة تحاول عبثا اقتحام الضباب الذي كان يلف بصري.. حاول أحد الواقفين مساعدتي على النهوض فلم أقدر..كانت كل أطرافي كالعجين الرخو..قال أحدهم :" لا تحركوه من مكانه.." ثم سمعت صوتا قادما من ناحية السيارة يقول فيما يشبه الهمس: " إنها ابنة الوالي.." أصبح الضباب حول عينيّ كثيفا ، فلم أعد أرى سوى القحط والفراغ..     

المصطفى السهلي – سلا الجديدة

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة