من أحمرها.. إلى أحمرها – قصة : زهير اسليماني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسشُرع الستار الأحمر البهي.. في ظلام دامس:
.. وهو يحدثها عن الحب، قدَّرتْ وفكرتْ وقالتْ: "الحب طريق إلى الرذيلة، وأنا أريد أن أظل بتولا حتى مخدع من يكون زوجي"
"أنا أحدثك عن الحب ولا أحدثك عن الجنس، فالحب ثقافة أما الجنس فهو عودة طارئة ومتكررة إلى المنابع الأصيلة للطبيعة"
قاطعته: "الحب مجرد أكذوبة أبدعها الرجال ليقدموها رشوة لجسد  للمرأة للحصول على جسدها، فليست هاته الكلمة تحيى إلا في مجتمع الروايات، أنا أرفض قطعا أي حب قبل الزواج فهو رذيلة وعهارة وحقارة.."
علقتُ على المشهد: ربما ملاك تائه.. لا قطعا لا ملائكة تمشي على الأرض"
*   *   *   *
وهما يجلسان وعلى مرمى من نظرهما عشيقان يتبادلان الحب ويقتنصان لحظات من اللذة، قالت له وهي تسرح خصلات شعرها على ردائها الأحمر: "أنظر كيف تسمح له هاته الوقحة السفيهة بأن يمرر يده على كل مفاتنها وهي تغط في نوم عميق بعدما سحرها بكلماته وأكذوباته.."

قاطعها: " إنها هي الأخرى تسبح في عسل اللذة بمحض إرادتها وتستمتع بسحر أنامله الفنانة كاللوحة تحيى بلمسات فرشاة الفنان"
قالت: "كيف هل هي الأخرى تشعر بالمتعة في هذا الوضع الرديء؟ كم أنا غريبة عن هذا المجتمع، كأنني لم أولد لأعيش فيه، أنا أنثى لكنني أجهل تماما هذه الأمور لأنه لم يحدث لي أبدا أن جربتُ مثل هذا، اسأل المجرب قبل الطبيب.."
قال: "نعم، ربما أنت غريبة عن جسدك يا عاشقة الأحمر.."
ردتْ: "ربما نعم لكنني سأظل غريبة إلى ليلة الزفاف.. إذا كانت الأخلاق والقيم والتربية الحسنة غربة، فأنا غريبة جدا.. ولا يهمني أن أبقى غريبة إلى الأبد مادمتُ راضية على نفسي وما دام الله راضيا عني"
قال لها: "أن تكوني غريبة عن جسدك معناه خلل فني في علاقتك مع جسدك، ينعكس على سواء أو اختلال علاقاتك بالناس والمحيط والمفاهيم، لديك خلل في علاقتك بجسدك، لا شك، لديك لبس في المفاهيم وخلل في السلوكات"
قاطعته مرة أخرى: "إن كانت الأخلاق والتربية والعفة خللا، فلا مشكلة لدي أن أكون مختلة.. أيها السوي، كن أنت وهن أسوياء وسويات فقط".
علقتُ: "تعلمتُ أن أُشهر أمام كل مفهوم كانطي بطاقة الشك الديكارتي: لا، طبعا مر على الأقل ذَكر من دروبك، لابد من يد ذًكر ساهمت في تشكيل وعيكِ بجسدكِ، أنتِ التي تبرعين في رسم مفاتنه، وإفعام كل حركاته وسكناته بروح الغواية الأولى.. ولونك المفضل هو الأحمر"
*   *   *   *
توقف في ذاك المكان -في سيارة بزجاج غامق غير شفاف من جهة الخارج- بمحض المصادفة أو بحكمة القدر.. فإذا به يرمقها تخرج من مسكن أحد أصدقائه الأعزاء عليها، تُرتبُ شكلها، تخطو خطوات سريعة ومضطربة، كمن سرق أو قتل.. يليها صاحبنا بفرق في الثواني والخطوات، يبتعدان عن "البرتوش" بأمتار، يقبلها وتقبله يتوادعان..
فاه وسهى وشرد واصفر وشحب..
انتهت التمثيلية.. واشتعلت الأضواء واتضحت الأشياء..
علقتُ بعجالة: "حذار من امرأة تستغرق في الحديث عن أخلاقها -وحدها المنتوجات الفاسدة ومنتهية الصلاحية تحتاج إلى تسويق- حتما هي أدنى من عاهرة فالعاهرة تزين نفسها ولا تنافق في غرضها. التي تعترف بعهرها تكشفه لمرة، التي تحاول إخفاء عهرها تكشفه لمرات عديدة".
*   *   *   *
صرخ في وجه الجمهور تحت ضوء ساطع مُسلط عليه:
"انتهت التمثيلية المكونة من سبعة فصول في كل فصل ميقات سنة من التمثيل المتقن، في أطول مسرحية في التاريخ من إبداع امرأة تستحق أن تدخل كتاب غينس للأرقام القياسية، في الإخراج والتمثيل، وظلت لسنين تمثل بقناع الملائكة وبردة الأولياء.. كم مرة فعلتها أيتها الطاهرة؟ كم مرة زرت سريرا زارته الكثيرات مثلك؟ كم مرة طالتك أصابع طالت كثيرات غيرك: دونكِ وأرفعَ منكِ؟
وأنا ظللتُ لسبع سنين في دار غفلون، أحبها وأسبح بأخلاقها وطهارتها وفرادتها، أنا الآخر علي أن أدخل أسطورة عشتار بعد هذا الحب الكبير لها، فلا إلهة أنثى سوى عشتار.."
تعالت الصرخات الساخرة: .."بل عليك أن تدخل إلى الحظيرة"، "لا خاصك القرون".. "لا. خاصك التفوسيخة"، "عليك بشي فقيه راك  واكل.."
تبسمتُ وقلتُ: " ليس عليك سوى أن تغادر المسرحية وتحجز لك مقعدا بالبالكون وتتفرج عليها.."

سدل الستار وقد بدا باهتا "كاشْف" بفعل الأضواء الساطعة التي ادلهمت عليه من كل جانب، من السافل قبل العالي ومن القاصي قبل الداني..
قلتُ له في نفسي لابد أن ما خفي كان أعظم وأهول.. استحضرتُ شذرة نتشوية: "الممثلة الفاترة: حيث لا يلعب الحب أو البغض دورا في حياة المرأة، تكون ممثلة فاترة" والله أصبتَ يا نيتشه.
*   *   *   *
قصدتُ مقهاي المعتاد لأتأمل كينونتي الأدنى بفعل المسرحية، فأنا مولع بتخليد اللحظات ليس بنظر مؤرخ بل بنظرة فنان يفرح تارة من الأحداث ويشمئز تارة أخرى منها. كتبتُ: "مثل هاته الأنثى مقامها سلة المهملات، لا بل ابني لها قبرا في مزبلة فقط لتجد الكلاب الضالة مكانا تتبول عنده، فلها رائحة أنتن من الجيف، وجب الإلقاء بها في أبعد ثقب أسود وحرمانها حتى من لعنات الذاكرة".

بعيدا عن المقهى، عند نهاية الرصيف استوقفني عمود الإنارة الوهاج: "كم تبدو الأشياء -مهما كانت قبيحة- جميلةً عندما نسلط عليها النور وندخلها دائرة الضوء لدينا". تحت نظرة المصباح الساطع، ألقيتُ بما كتبث في حاوية للنفايات كان لونها أحمرا..

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة