فان غوخ ثانية – قصة : محمد الفشتالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس نتجسم من تدويرات لاحد لها، يمتطي هرما مقلوبا، عيناه خطوط مرتعشة،  يتنفس عاليا بأنف كبير أفطس ... أحجام خشبية حوله في تداخل . تحيط بها هامات،  يعلوها لون ترابي متدرج  القتامة من أسفل لأعلى. لن أتركه راقدا داعنا للون، سيخرج إلي متجها من اليسار إلى اليمين. وهذه النقطة الذهبية هي محل كتفه المائل ، لونها ناطق ... مشى قليلا إلى الخلف، وتفحصه من جديد، ثم اندفع يغزوه بالحرارة والضوء والإحساس. أية ملامح ستكسو وجها بارز العظام، فاقدا لطعم الحياة، لكن لا يزايله الانبهار في مدينة تلفها مساحات ترابية، وتتوغل في قلبها فوضى من إسمنت.  
الإفريز خلفه والكراسي فارغة، وظلال لا تبارح مكانها. الوقت ليل إذن ! هل سيطل القمر؟ …لا …لا معنى لذلك … كفى لن يطل، الليلة حلكة تامة،  ولا قمر. ضوء المصابيح شحيح ينذر بالتلاشي.
اكتملت ...؟ ... ليس بعد. قليلا من لمسات أخرى  مرهفة، ومزيدا من ضباب هش على صفحة الليل، وليشح الضوء أكثر، ويخمد اللون قبسا عن قبس. أما الوجه النحيل فليعتل جسد الدوائر، والقامة لتبق حسب وقفة الرائي ... هكذا أفضل، مادامت التدويرات إيقاعها متراكب ... والتفاصيل ؟ ... بعد تلك التحزيزات والتحريفات، هناك كليب يبحلق فيه، وقطة بيضاء فاغرة الفاه، ظمأى ربما، وأوراق كابية اللون تلاعبها الريح هنا وهناك.

تراجع كالعادة وحدق إليها، ويداه خلفه تلتصقان . لقد أدمنتا الألوان. ماذا تبقى؟. لاشيء تقريبا، لاشيء،  سوى العينين. لأجعلهما قرمزيتين. وهل هناك من عينين كذلك فعلا؟ كيف يمكن أن تصهر نظرة واحدة الخوف والوجل والقوة والأمل والتردد جميعا ؟ . نظرة تعني كل هاته الأشياء دفعة واحدة، فالحدس هو الطريق السليم للمعرفة. بمجرد التلفت تستقبل برقيات من هذه المعاني . متمردا على الحواس دوما؛ وضع الفرشاة في جيبه، وبدأ يشتغل بحافة أصبعه في خفة وحذق ... لا لا ... قليلا من الضغط , وبدون بصمة ... آه .. هكذا ألطف ... جميل جميل، صاح وهو يتراجع، ثم جس النبض عند معصمه المعرق، وبإبرة ثقب في سرعة خنصره، واستقى منه بعض  اللون الصرف، ومرره خفيفا وعميقا في آن، عند الركن الأيسر؛ ليجف عند الخطوط العليا الحلزونية. خطوة خلفا، وأمعن النظر، وقد قوس عينه اليمنى، وقال : أنا فان غوخ أعلمكم الكتابة باللون ...... انتبه إلي أخيرا وأضاف : تفضل.   أجلسني أرضية الغرفة على كومة من جرائد وأوراق منثورة في كل مكان. كانت الجدران والأوراق بكل الألوان. لون البن ولون الشاي، ولون القمر ولون الدم ولون السماء ولون البحر ولون الورد، ولـون الصبار… إلى ما تشاء. ربت كتفي، واسترسل : إني أقاوم… دائما أقاوم … هل أستسلم ؟. بالطــبــع لا ... لا أستسلم إلا لهذه الألوان فقط. حين تزحف علي ؛ أقيم فيها، وهي التي تقودني حيث تشتهي، وأكتبها لكم لتروا بسحرها ما لم تروه من قبل. وأستفيق أحيانا على كذبة صغيرة تسفحني، فأغادر هذه الروائح، لأن لكل لون رائحة. وأخرج أتهجى في الوجوه والدروب من جديد، ألتقط ما شكلته عليها أنامل الأيام. والدوائر هي هي . فزاعات تتنحى، وأخرى تنبثق بلا انقطاع. انظر أمامك مثلا، ذاك بحث مصغر ... أين ؟. عند رجلك على ورق (كلينيكس)... يبحث في إقامتنا في خلايا دقيقة، وعبورنا في سراب عظيم، ورحيلنا في زفرات... أخذت الورقة، ولم أر عليها سوى خطوط متعرجة، ومحززة، ومتقطعة، ومنحرفة ومتدرجة، وظليلة، ومتداخلة اللون ... استدار هو جهة النافذة، وتابع بنبرة متحشرجة : هذه كوة الضوء الوحيدة في هذا البيت، مذ صار خاليا بدون ماء، وبدون كهرباء. لقد ماتا ... نعم ماتا معا، وبقيت وحيدا. حياتي كلها في هذه الألوان. لكن  إياك، ثم  إياك... فإني لست توحشيا. أحذرك ... أحذرك فقط !.
فجعني وجهه وقد بدا نحيلا ومصفرا أكثر من أي وقت مضى، والسيجارة ملتهبة لا تفارق  شفتيه، يمتص وينفث بدون توقف...
سألني : ماذا ترى ؟ ألم يعجبك هذا الرجل ؟ هل تريده أن يخرج إلينا ؟ ماذا لو جعلته يقفز إلى السفلي؟ ... لن يحدث له أي شيء - أجاب - لقد سبق وجربت هذا، وصرت أقوى مما كنت. حدث هذا قبل أن يقتادوني للتداوي بمستـشـفى " أحراش "، هناك تملكتني إشعاعات اللون لما اكتشفتها  في بعض أدوية العلاج . واسـتـقـيت منها ما لزمني لتشكيل بورتريه للطبيب المعالج، على ورقة ( كلينيكس ). ذات صباح رآها عندي، فأخذها بين يديه، وسوى نظارته على أرنبة أنفه، وتأملها حتى دمار عينيه، وكافأني بصفعتين، وخرج  ثائرا. وبعد قليل عاد  وقبلني، واستسمحني ليطلب مني الإذن بأن يضع إطارا ذهبيا للبورتريه، ويجعله في مكتبه. هناك في ذلك المستشفى الكريه أو هنا؛ الحياة أفضل بكثير من التي عرضها علي بالدار البيضاء بعض (البزناسة). لقد  اقترحوا علي أن آكل وأشرب ، وأنام وأصبغ. وقلت لهم أنني لا أريد حياة كلب موقوفة على سيده.
كرر : هل أجعله يقفز للسفلي إذن ؟ … لا تخف لقد سبق أن قفزت كما يفعل قط، ولم يحصل شيء كما حصل في المارستان حيث عالجوني. هناك عشت قساوة الألم، وغياب الأهل، وفظاعة الأصدقاء، وتأكدت من أن العالم – كما تراه على هذه الجدارية – مكعب كبير جدا وفارغ من الإحساس، لكنه يمتلئ بأحجام لا تحصى … وما ينساه الجميع هو أن   مثلي مثل فان غوخ؛ لن يحيا إلا بعد رحيله….
سلاما عليك ... سلاما عليك ....في الدرب أفعمت العين بالألوان التي لم تر من قبل.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة