إيلـيـسّـا - نص : المصطفى السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseكنتُ دوما ساردَك المطيع فيما سلف.. لكنني سأخرج عن المألوف هذه المرة، وسأشق عصا الطاعة وأعلن تمردي عليك أيها الكاتب.. سأثور على سلطتك وأتولى السرد من تلقاء نفسي دون تحكم أو توجيه منك.. لن أكون ذلك الوسيط بينك وبين قارئك.. تحَمِّلني أحيانا أكثر مما أحتمل وتمرر من خلالي أفكارا ومواقف قد لا أشاطرك الرأي فيها.. وتجعلني أحيانا أخرى، رغم أنفي،  أتلصص على شخوصك وأبطالك لأعرف أسرارهم وخباياهم ودواخل نفوسهم.. ستكون أنت نفسك موضوع سردي وبطل حكايتي.. وسأمارس عليك ما كنتُ أمارسه، بتوجيه منك، من تلصص على شخوصك.. لقد قررتُ أن أجرب ذلك منذ اليوم الذي تلقيتَ فيه تلك الزيارة غير المنتظرة، والتي غيرتْ مجرى حياتك.. يومها قلتُ في نفسي إنك ربما عثرتَ على موضوع مناسب لروايتك الأولى التي ما زلتَ تحلم بكتابتها.. فأنا أعلم أنك جربتَ الكتابة عن موضوعات وشخوص اعتقدتَ أنها ستثير لدى القراء انطباعا جيدا سيشجعك على مواصلة كتاباتك.. لكنك لم تكن تتجاوز الصفحات الأولى.. كنتَ تمزق الأوراق في كل مرة، ثم تضرب صفحا عن التفكير فيها.. مَن كان يظن أن هذه الطرَقات على الباب هي التي ستحمل معها الفرج الذي انتظرتَه طويلا؟؟..

استغربتَ في البداية حين جاء ابنك يخبرك أن امرأة تطلب مقابلتك.. ثم ذهب بك خيالك بعيدا يمتطي صهوة غرور لم تستطع إخفاءه، حين توقعتَ أن تكون قارئة معجَبة أثارتها قصتك الأخيرة المنشورة في صحيفة الأمس.. اندفعتَ نحو الباب وقد سبقك فضول زوجتك  المشبع بالغيرة، وهي تتطلع نحو هذه الطارقة الجريئة التي اقتحمتْ ما كانت تعتبره حتى الآن قلعتها المنيعة.. حدسَتْ أن تكون أمّا لأحد تلاميذك جاءت تراجعك في شأن من شؤون ابنها.. لذلك وقفتْ على بعد مسافة من الباب تسمح لها باستراق السمع لما سيدور بينكما من حديث، وهي تمسح يديها بمنشفة حملتها معها من المطبخ، وتسدل أطراف تحتيتها التي كانت قد رفعتها إلى مستوى الحزام حتى انكشف معظم سروالها الداخلي الشفاف.. ثبّتتَ نظـّاراتك جيدا، ثم سويتَ ما تشعّث من شعرك بأطراف أناملك.. وتأهبتْ كل خلاياك لاستطلاع أمر هذه القادمة الغريبة.. ترك ابنك الباب موارَبا.. لذلك وأنتَ تقترب منه لمحتَ جسدا أنثويا فارعا لم يزدك إلا ارتباكا.. حين وقفتَ مواجها له لم تدْر ما تفعل أو ما تقول.. بقيتَ مسمّرا تنظر بعينين تقطران دهشة وإعجابا.. هالك الجمال المشع من الوجه، والخصلة المتدلية على العين اليسرى، بعد أن نفرتْ من تحت الشال الأسود الذي يغطي معظم الرأس.. وأثارك معطف الفرو الفاخر الذي انسدل فوق الجسد دون أن يتمكن من إخفاء تضاريسه وجاذبيته.. قلتَ في نفسك: لابد أنها سائحة أجنبية أخطأت العنوان.. غير أن هذه الملامح التي عدتَ تحدق فيها أيقظتْ في ذاكرتك إحساسا بالألفة.. هي ليست غريبة عنك تماما.. ولكن أنى لك أن تستعيد تفاصيل العلاقة معها والذاكرة من فرط ما تعاقـَب عليها من أحداث وأشخاص أصبحتْ مثـقوبة لا تسعفك على تذكر وجبة الأمس، فبالأحرى استرجاع الأسماء والوقائع البعيدة؟.. مدّتْ نحوك يدا بيضاء ناصعة خلتها حبل النجاة الذي سينقذك.. ثم قالت بصوت لم يزد ذاكرتك إلا إرهاقا:
- "واش سي يوسف الجمالي هذا؟"
بقيتَ ممسكا بيدها كأنما تستلهمها ما يُعينك على تذكر شيء يدلك عليها.. وقلتَ كمن يستفيق من غيبوبة:
- "تماما ، أنا يوسف الجمالي.." ثم أضفتَ بنبرة فيها اعتراف بحيْرتك وعجزك:
- " لم أتشرف بعدُ بمعرفتك.." قالت كأنما لتطيل أمد حيرتك:
- "للزمان سلطة تغيير الأشياء والملامح.. ما كنتُ لأتعرف عليك بسهولة لو لم أسترجع، بعد عناء، تفاصيل المكان وأتعرف على موقع البيت.."
لم تنتبه وأنتَ في غمرة انشغالك بالنبش في الذاكرة إلى أنها قالت البيت ولم تقل بيتك.. استبعدتَ، حين قدرتَ سنها، أن تكون إحدى تلميذاتك السابقات.. ثمّ خمنتَ أن تكون إحدى زميلاتك في الدراسة أو في سنواتك الأولى من العمل.. وقبل أن ترفع راية الاستسلام سمعتها تقول:
- " أنا إيليسا..إيليسا ابنة سميحة وحاييم جيرانكم القدامى.."
ضربتَ جبهتك براحة كفك كأنك تثبِّت فوقها معلومة غابت عنك ولم تتمكن من استرجاعها، أو كأنك بهذه الحركة تقدم اعتذارا صادقا عن تقصيرك.. ثم تمتمتَ:
- "  إيليسا..إيليسا.. الملامح هي هي..رغم بعض آثار الزمان الطويل.. اعذريني..تفضلي..تفضلي.."
ناديتَ زوجتك التي تظاهرتْ بأنها قادمة نحوكما للتو.. قدمتَ لها جارتك القديمة.. حيَّتها بكثير من الريبة والتحفظ دون أن تتمكن من إخفاء انبهارها بمظهرها الأنيق.. حين جلستما في الصالون انصرفتْ زوجتك على مضض، بتلميح منك، لتـُعِدّ شاي الضيافة.. تتبعتَ نظراتِ إيليسا وهي تتفحص أركان الصالون وجنبات البهو المقابل له.. قالت بسعادة ملحوظة:
- " لم يتغير البيت كثيرا!!"
عادت بك الذكريات إلى أربعين سنة مضت، يوم كان هذا البيت بيت إيليسا وأسرتها.. قبل أن تغادره بعد نكسة حزيران 1967.. يومها اشترى أبوك هذا البيت بالثمن الذي حدده دون أن يناقشه حاييم طويلا.. قلتَ ردا على ملاحظتها:
- " الزمان هنا، يا سيدتي، منشغل بتغيير الأشخاص أكثر مما هو منشغل بتغيير البنايات والعمران.."
-" لذلك لم أتعرف على أحد وأنا أتجول في المدينة.. قلتُ لا يمكن أن يكون كل سكانها القدامى، شيوخا وشبابا، قد ماتوا خلال مدة هجرتنا.."
- " أنتِ أيضا تغيرتِ كثيرا.. لولا هذا الجمال الباهر الذي لم يغادركِ حتى الآن.."
- " شكرا.. لنكن عمليين.. واسمح لي قبل أن أحدثكَ عن موضوع زيارتي لك، أن أذكركَ بذلك الموقف النبيل الذي بدر منكَ أيام طفولتنا.. لا شك أنكَ تذكره.. كنتُ أحمل وصلة خبز الرقائق والسخينة إلى فرن الحومة عندما اعترض سبيلي جماعة من أطفال الحي المجاور.. تحرشوا بي وعيّروني باليهودية النتنة، وحاولوا إسقاط الوصلة من يدي.. وتدخلتَ أنتَ بشهامة نادرة وخلصتني منهم بعد عراك دموي خرجتَ منه منتصرا.. لم أنس موقف المروءة ذاك، ولن أنساه ما حييتُ .. مازلتُ أحكيه بفخر واعتزاز لكل من أعرف، لأثبت لهم أن الخير والشر موجودان في كل مكان.. ربما بنسب متفاوتة.. ولكن الخير دائما أقوى وأبقى.."
- " نعم ما زلتُ أذكر تلك الحادثة.. وما زالت جبهتي تحتفظ بندوب من تلك المعركة.. كان طبيعيا أن أدافع عنكِ وأحميكِ..ألستِ جارتنا؟ ثم إنكِ كانت لكِ مكانة خاصة عندي.. ووالدانا كانا شريكين في التجارة.."
- " كانت علاقتهما أكثر من أخوية.. وكنا كأسرة واحدة.. لم ينس والدي ذلك طوال المدة التي تلتْ هجرتنا.. ظل يحدث كل معارفه الجدد هناك عن صداقته المميزة لوالدك.. أحسستُ أنه كان يحكي عن ذلك بكثير من الحسرة.. سيما وأن علاقاته الجديدة هناك لم تحمل له إلا الخيبات.. الحقيقة أننا صُدمنا كلنا.. لم يتحمل والدي كل تلك الصدمات والخيبات.. مرض بعد سنوات قليلة من هجرتنا مرضا أودى بحياته.. ثم تبعته والدتي بعد سنتين.."
- " اعتقدتُ أن الحياة طابت لكم هناك بعد كل الوعود والمغريات التي قدِّمتْ لكم.."
- "بدأ كل ذلك حلما جميلا، وانتهى كابوسا مرعبا.."
لم تشأ أن تعمق جراحها أكثر، وأن تفتح صفحاتٍ مؤلمة من حياتها استشعرتَ وطأتها من الحزن الدفين الذي يلف ملامحها.. قلتَ محاولا المواساة:
- " العيش في بلد يستيقظ على هدير الحرب كل يوم أمر لا يحتمل.."
- " هو جحيم يومي.. المكتوي بناره كالمحكوم بالإعدام ينتظر ساعة الشنق في كل لحظة.. أدركتُ بعد فوات الأوان أن السلام المزعوم أغنية يُنشدها جنرالات الحرب لتنويم الأغبياء.. فقدتُ زوجي الطيار المهاجر بدوره من كندا، في حرب 1973.. وعندما كبر ولداي رحلا إلى كندا بحثا عن آثار محتمَلة لوالدهما هناك.. وجدتُ نفسي وحيدة في بلد فشل في احتوائي.. فشل في أن يكون وطني.. الوطن ليس وعدا ولا أرضا تـُمنح على حد السيف.. الوطن انتماء للجسد والروح.. والوطن ذاكرة وذكريات.. والوطن بأهله وسكانه لا ببضع بروتوكولات تحرر في لحظة اندفاع عاطفي.."    
تابعتَ بريقا أومض في عينيها بدا كشلال دمع لم تستطع مقاومته، فطأطأتْ رأسها لتخفي لحظة ضعف، لم تتحمل أنتَ نفسُك أن تراها عليها.. قلتَ لتكسر وطأة الصمت الذي خيّم على المكان:
- " قرأنا في الصحافة عن يهود عادوا إلى مواطن نشأتهم.. وقلنا ربما هي حالات معزولة.."
ردتْ بعد أن جففتْ دمعها بمنديل استخرجتـْه من حقيبتها الجلدية الصغيرة:
- " كلا.. إنها ليست حالات معزولة.. إنها علامة على وضع غير طبيعي.."
جاءت زوجتك تحمل صينية فضية وضعتْ فيها إبريقا مذهّبا للشاي وفناجين مزركشة وطبق حلوى.. أعربتَ لها، بإشارة خفية منك، عن ارتياحك لاستعارتها هذه الأواني الجديدة من الجيران.. جلستْ تصب الشاي وهي تختلس النظر إلى إيليسا في كثير من الحذر.. ثم سمعتـْها تقول بعد أن ناولتـْها كأس شاي وقطعا من الحلوى:
- " اشتقتُ كثيرا إلى هذا الشاي.. وإلى الجلسات الحميمة التي يخلقها من حوله.. لذلك اسمح لي يا سي يوسف أن أخبرك بموضوع زيارتي.. لقد قررتُ العودة إلى وطني.. وطني الحقيقي.. وفكرتُ أن أقضي بقية حياتي في البيت الذي كان بيتنا.. أنا أعرض عليك شراءه.. وأترك لك أمر تحديد الثمن الذي تشاء.. لن نختلف حوله إطلاقا.. إذا كنتَ موافقا سأعود بعد ثلاثة أشهر بعد أن أصَفي بقية متعلقاتي هناك.. أنوي إدخال بعض التعديلات عليه مع المحافظة على الأماكن التي لها ذكرى خاصة في نفسي.. أشعر أن هذا هو وطني الحقيقي.. فيه تنفستُ الحياة لأول مرة وفيه أريد أن ألفظ أنفاسي الأخيرة.. صدقني يا سي يوسف.. هذا شعور لا يحسه إلا من خـُدِع بوهم البحث عن وطن لا يوجد إلا في ذهن الذين صنعوا ذلك الوهم.."
لم تكترث كثيرا لما قالته إيليسا في الأخير.. لأن عرض شراء البيت نزل عليك أنت وزوجتك كقطعة ثلج باردة في يوم قائظ.. لم تصدق أن ينزل عليك كل هذا الحظ الجميل في يوم واحد.. ترى فيه إيليسا، وأنتَ لن تستطيع إنكار أنها كانت حبك الأول في مراهقتك، وتعرض عليك دفع  الثمن الذي تحدده أنتَ مقابل بيت، ظلتْ زوجتك تلح عليك إلحاح الذباب على جرح متعفن، كي تبيعه وتشتري بيتا في حي آخر من هذه الأحياء التي تنمو في المدينة مثل الخلايا السرطانية.. لذلك وبعد أن ودعَتكما إيليسا التي أصرت على الذهاب إلى الفندق رغم إلحاحكما على استضافتها، عدتما تلقائيا إلى الصالون كأنكما ترغبان في حسم الموضوع في المكان الذي بدأ فيه.. ورغم أنك تعلم رأي زوجتك مسبقا فقد أحسستَ في هذه اللحظة بالذات بحاجتك إلى من يدفعك نحو القرار الذي يبدو أن القدر نفسه يريده حين هيأ لك كل أسبابه.. قالت زوجتك دون أن تنتظر سؤالك:
- " لا تضيع هذه الفرصة.. اطلب ثمنا عاليا، فالمرأة متشبثة بالبيت إلى أقصى حد.. وعلى كل لن نكون أول من باع بيتا لهؤلاء الذين عادت بهم الخيبة بحثا عن مكان يُدفـَنون فيه بأمان.."    
ثم عادت إليك طبيعتك التي تكره الاستعجال خاصة في اتخاذ القرارات الكبرى، وتحرص على تقليب الأمور على كل أوجهها المحتملة.. سيما وأن قول زوجتك الأخير جعلك تستحضر ظاهرة شراء الدور القديمة من قِبَل هؤلاء الوافدين الجدد بأثـمنة خيالية.. ظاهرة بقدر ما تثير طمع الطامعين وتسيل لعاب الجشِعين، أصبحتْ تبعث على القلق والريبة..
اسمح لي ، أيها الكاتب، أن أنسحب الآن، وأن أضع حدا لسردي هنا.. فدوري كسارد انتهى.. وعليك أنتَ أن تتدبر أمر البقية.. لا شك أن القارئ ينتظر معرفة مصير البيت.. "مصير بيت".. يبدو عنوانا مناسبا، مؤقتا، لمشروع روايتك الأولى.. ثم.. لا تنتظر مني أن أتنازل لك عن هذه البداية.. ابحث لك عن بداية أخرى أكثر إثارة وتشويقا من هذه.. البداية الموفقة في الرواية أحد عناصر نجاحها.. وابحث لك أيضا عن سارد يجيد السرد بضمير آخر.. لا داعي لأن تلعب مع القارئ لعبة الضمائر.. فقد غدت هذه اللعبة مكشوفة منذ زمان.. منذ أن أربك "مارسيل" بطل " البحث عن الزمن الضائع" قراءه، وتركهم حيارى بين السيرة الذاتية والرواية.. أما أنا فتعلمُ أنني أوثر ضمير المخاطـَب على غيره من الضمائر الأخرى.. ولكنني أفضل أن لا أذهب معك فيه أبعد من هذا..

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة