حياة مع وقف التنفيذ – قصة : مسلم السرداح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

mis-anfasseحين مات , شعر بارتياح كبير , وسعادة غامرة , فللمرة الاولى, ياخذ حقه كاملا في الموت , بعكس المرات السابقة , حين كان لايزال حيا . ذلك لانه عومل معاملة امثاله , مثل مواطن منسي , لاامل له في المكاسب التي يحصل عليها الآخرون . ولم يؤلمه للوهلة الأولى الا احساسه بان الآخرين  , لم يحزنوا لموته  , ولم يبك عليه احد , ولكن ذلك  االشعور , لم يدم طويلا , و بحكم العادة , فقد احس ان الآخرين سعداء لان الموت رحمة لمن اتعبتهم الحياة , كما تراءى له انه سمعهم , وكذلك لانه اصبح ذا حقوق كاملة مع جميع الميتين   .
فكر وهو في طريقه الى القبر , ان بامكانه الهروب , لو اراد , لان لااحد مكلف بحراسته , بل ولااحد يعنيه امره , ويمكنه ان يدفع غطاء تابوته ليهرب الى البعيد , ولكنه احس بالاستسلام الى الحالة النفسية السعيدة التي كان يشعر بها , فعاد مرة اخرى الى الاسترخاء , وهي الحالة التي لاتزال تسري في جسده , وكانها جرعة من مخدر قوي . ولكنه عاد الى قلقه السابق حين تذكر انه , وبعد قليل سوف يصل الى القبر ليودَع فيه الى الابد . وراح يصارع نفسه , بين ان يصرخ , لياتي احد ما لنجدته , وبين ان يركن نفسه الى الحالة السعيدة التي هو فيها . فوطن نفسه على الحل الاخير , ذلك لانه اراد ان لايضيع حالة التساوي التي منحت له , مساواة كاملة في الموت مع الآخرين .

حين اودعوه قبره , واهالوا عليه التراب , احس بحالة الارتياح التي لايعادلها اي شيء آخر. حرية مطلقة , ومساواة مع الاخرين , في كل شيء فهنا لا مال ولا جمال يميزه عن غيره من الناس , ودون اي تدخل من احد , كما من قبل , حين رفضته ابنة الجيران , وحين وشى لها الآخرون عن افلاسه وقلة جماله  . وتاكد له بالتجربة , ان عدم وجود الهواء , لايعني الاختناق , فكل الاجهزة التي كانت تعمل على الهواء في جسده , قد استبدلت  لتحل محلها اجهزة اخرى تعمل على الطاقة التي ولدها , وجوده تحت التراب , وتذكر القول المأثور , ان الحاجة ام الاختراع .
وهكذا عاد طليقا , حرا , مرة اخرى , وعاد يشعر ان جرعة المخدر القوي , التي اعطيت له ,لاتزال تسري في عروقه . وشعر بانه محايد تماما , بلا افكار , ولا طبقية , ولاشيء آخر يخاف عليه , او يسعى من اجله , بل راح يرى ان كل السبل ميسرة له وسهلة . ذلك انه لايطمع في شيء , ولايتنافس في شيء مع احد , حرٌ تماما , الا من امر واحد هو انه يمر بتجربة جديدة , لم تتوضح له ابعادها بعد , ولم يتكيف لها لغاية الآن  .
حين افاق , اكتشف انه لم يكن تحت تاثير المخدر . ففي الموت لاتوجد مخدرات  , كل ماهنالك ان جسده لم تعد تعنيه الحالة التي تمر بها مشاعره . واحس ان جسده لم يعد  ملكا له , ذلك ان  جسده باتت له مشاعر اخرى تهمه , منها الشعور بالالم الذي تسببه عملية التفسخ التي راحت تؤذيه .
اثناء ذلك احس بحركة غير طبيعية تدور حول جسده وتحيط به , وحين فتح عينيه , وجد الكثير من الاشخاص يقفون حوله , اراد ان يسالهم عن اسباب وجودهم والكيفية التي حضروا بها تحت هذا الكم الهائل من التراب . ولكنه وجد موقفا غير مناسب لذلك , فراح يتذكر .
تذكر ان امامه المزيد , المزيد من الحساب والعتاب فشعر بانه محبط  , وان السعادة التي اعترته للوهلة الاولى , انما هي سعادة مؤقتة , زائلة , تشبه السعادة التي تنتاب الانسان بعد تناول الكاس الاولى , وراح يتالم الما لاحدود له , للتدخل في شؤونه الخاصة  الذي لاينتهي , لا  في حياته و لا بعد موته .
كان الاشخاص الواقفون حوله لايتكلمون بشيء , صامتين , مقطبين ، وقد ازعجه ذلك كثيرا , ذلك انه كثيرا ما مر به مثل هذا التقطيب من الحكام اثناء حياته ليخرج منهم بعقوبة صارمة . ولذلك فانه , وامام صمتهم المخيف هذا سيظل منتظرا مجهولا غامضا , لايعرف متى او  كيف ينتهي . اضافة لذلك , وبسبب المحنة التي يمر بها , لايشعر بالقدرة على استقراء الوجوه , كما كان يفعل اثناء حياته , فمنذ ان كثرت مشاكله الحياتية مع الناس  راح كثيرا مايفهم , حسب اعتقاده , ذلك الحنق الذي يكنه له الآخرون .
-    ولكن هؤلاء ليس بناس , هم ملائكة . والحكم سيكون عادلا , حتما .
هكذا فكر , فشعر بارتياح شديد , امام فكرة النزاهة التي يملكها الملائكة , وعادت الثقة اليه من جديد . ولكنه اراد الاطمئنان الى هذه الفكرة الفجائية , فراح يتساءل :
ولكن الحكم العادل من يضمن ان يكون لصالحي ؟  . فانا مارست الكذب والسرقة لأعيش . وكذبت على الشرطة والحكام  , وغير ذلك لاخلص نفسي . اما الآن فلا استطيع الكذب ولا استطيع الانكار , لان كل شيء ستظهره ملامحي , وساكون احمقا لو كذبت على اناس عادلين, ويعرفون كل شيء , ومسجل عندهم كل شيء . .
وفكر في النهوض , امام هذا الحشد الهائل من القضاة الملائكة , احتراما , بعد ارتياحه لهذه الفكرة  . بحث عن شبشبه الذي حصل عليه , قبل عدة ايام , فلم يجده , وتذكر انهم لايضعون ايَ شيء مع ا لميت , وربما يلبسونه الآن بثوابه , هكذا فكر .
نهض حافيا , قدماه لاتلامسان الارض , انه خفيف تماما , حد الحرية . وكان يستطيع التحرك بسهولة حيث يريد . حاول الهرب , فاوقفه شرطي صغير , كان يقف بباب المحكمة . اصبح الآن مرتبكا , مستحيا من فعل الهرب .
ساله القاضي الذي كان يدير المحكمة , عن الاشياء السيئة التي فعلها بحياته  .
لم افعل اي شيء . قال لهم .
كيف لم تفعل شيئا ؟  اذن اين قضيت عمرك ؟.
فكر في الاجابة . كان وهو في الحياة يعتقد ان ليست هناك اسئلة , يسألونها بعد الموت , ذلك لانهم يعرفون كل شيء . وان كل شيء مسجل لديهم بسجلات خاصة . وكل ماسيقومون به هو اصدار الحكم المؤكد .
ان قدرتي على التعبير ضعيفة , وانا راض بما تحكمون به , بناء على ماهو مكتوب في سجلاتكم .
ان لم تدافع عن نفسك فسيصدر الحكم بحقك .
ولم ينتظر طويلا اذ ان الزمن كما بدا له بلا معنى الآن كما من قبل . اذ سرعان ما صدر الحكم بعد المداولة  , وكانت العقوبة صارمة . وهي العودة الى الحياة مرة اخرى ليمارس حقه في العيش , مع وقف التنفيذ .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة