المايسترو – قصة : محمد الفشتالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

peinture-abstraite-acryliquمـطـلـع
استعدادات داخل القصر تجري على قدم وساق، منذ وقت مبكر. خدم يعدون الموائد في الفناء، ويزينون حواشي الأبواب بسعف النخيل، ويضعون عليه فوانيس الإضاءة؛ فيما خادمات تهيئن ما لذ وطاب في المطبخ الكبير، ويرتبن أواني مذهبة بعد غسلها ومسحها. نافورة الماء في الباحة الكبرى؛ رذاذها المنتثر ينعش مساحات خضير نضرة. المنصة العظمى أعدت بعناية فائقة، وفرشت بزرابي ملونة. كراس وثيرة صفت في المقدمة قرب المنصة، وخلفها وضعت أخرى للخاصة، وبعهدها الكثير للعامة. غدا القصر في أبهى حلة، وكل شيء على ما يرام.

عند الغروب بدأت تصل أولى أفواج المدعوين الكبار، وشيئا فشيئا امتلأت الساحة بعامة الجمهور. لقد أتى الناس من كل حدب وصوب تمليا بفرجة لا مثيل لها. الكل أخذ مكانه ينتظر، والجوقة دلفت بآلاتها، وانكبت تسويها، وتتنصت انتظارا لإشارة الانطلاق من المايسترو. إلا أن الإذن لم يعط، لأنه لم يصل بعد. ولا يبدو أي قلق في عيون الجوقة، ولا في عيون الخاصة أو العامة. هذا انتظار حلو، وليس مرا. فهو مثل حلم يتحقق، والمنتظر تقام له الدنيا، ولا تقعد، كما يقال. الانتظار الحلو غدا يحلو أكثر على تقاسيم؛ تتناوب على العود والكمان والأرغن، والعلبة الريتمية الصاخبة أيضا. فتهتز الرؤوس نشوى، والمقطوعات تنهمر بسخاء في أرجاء القصر الكبير، و الأمير في متم السعادة؛ يوقع بيديه ورجليه، والخاصة والعامة يذوبون استمتاعا.

د و ر

حل المايسترو. هذا الموسيقي الكبير لم يأت في قافلة أو في رفقة، بل أتى وحده يتأبط شيئا ما مطويا، ويمشي بتؤدة. سلم على الأمير، ووقف الخاصة والعامة يصفقون؛ حتى علت وسامته حمرة خجل، فأمر صاحب القصر بالجلوس، وقعد الجميع. قصد المايسترو المنصة، وحيى الجوقة، فقامت وقوفا ردا للتحية، ثم أخذ أفرادها أماكنهم. بدت جبهة الموسيقي الكبير تشع تحت الأضواء. وجهه حليق؛ بلا زغب، وقسماته مليحة. عيناه يومض منهما بريق؛ يضرب بعيدا. إيماءة وحيدة، وانطلقت الجوقة تصدح بأصواتها وآلاتها، وموشحات تتتالى في تناغم تام. والناس يصفقون إعجابا؛ إلى أن كبحهم مضطرا، فتوقفوا صدا للنوتة الخاطئة. استل آلة متوارية خلف عازف كمان، وسلمه إياها، وتحول العزف منفردا؛ يعيد المذهب إلى القوة الرابعة بأثقل النغمات، فخف الهتاف، وصار الناس يتمايلون هياما إثر هذه التوطئة، والمايسترو قد طوى كميه، ولاحت يداه تعلوان، وتنخفضان في تباطؤات؛ تناسب الذبحات، وهي تتآخى، إلى أن أعدمت. احتد التصفيق على طراز الملاءمات العشر، والنشوة طالعة في رحاب القصر، وسمائه المرصعة بالنجوم؛ على سلم ألحان، هي أبهى ما في الوجود. إنها فيوض ألحان بلا أقاويل؛ اكتمل بها حس الساهرين.
قـفـل
أسر الإطراب النفوس، وسيجها بأنق لذيذ وجميل، وتاه بها في رحاب الملكوت؛ ترى ما لا يرى، ونجوم الليل في أغوارها تشهد على الحنايا؛ تنحت تماثيل الأحبة بتواشيح تتزايد وتتناقص؛ حتى تمحي، وتبقى الأفواه مفتوحة، والأبصار معلقة. ومن ملذة الألحان السارية عميقا عميقا؛ فتح المايسترو عينيه - كان قد سدهما - وحركاته خفيفة متراوحة، كمن يمشي في الهواء. فتحهما يرى من وما حوله. كان الخاصة والعامة قد استوفاهم الإطراب، وأخذهم بعيدا. وشفقة بهم؛ توقف عن تشبيعاته للاستراحة. ضجت الرحاب لفترة قصيرة؛ تناول المدعوون خلالها أطعمة وحلويات، والفرح طافح على الوجوه. أما الموسيقي الكبير على عكس أعضاء الجوقة؛ فلم يتناول إلا قليلا من حلوى، ثم توجه إلى المنصة بتؤدته الخاصة. جلس الجميع، وعم الصمت؛ عندما فتح خريطة كبيرة، وأخرج منها عودا قصبيا تلو آخر. قام بذلك على مهل. كل شيء لديه يتم على مهل خاص. أخذ يقلب العيدان على وجوهها، ثم يضعها على الخريطة، وقد بسطها أمامه، وعليها تخطيط العديد من المدن. في الأعلى صورة مدينته الفاضلة؛ التي وضعها فوق، لتنهار الأخرى تحت.

خـرجـة

لم يخرج أي أحد. الكل بالداخل يتابع بانتباه كامل؛ ما يفعله المايسترو، وقد انتهى إلى تركيب عيدانه، واستوت منها آلة لم يسبق لأحد أن رآها. لذلك كانت الأعين الساهرة خاصة وعامة؛ مشدوهة مبهورة. جسها، ولا علم لأحد بها سوى صاحبها. مستطيلة القد، وعليها دساتين؛ يقيس بها الأبعاد. بعد أن دوزنها في ترتيب متلائم، وسواها تماما؛ جلس في مقدمة المنصة، والجوقة وراءه، والخاصة والعامة أمامه، ووضعها على ركبتيه في هدوء، واندلق العزف يتلون ويتجانس، يهش ويتناوع، فدغدغ الضحك الكل. ضحكوا، وانفجر ضحك غزير، وعلت القهقهات، وانفتحت الأفواه، ولم تسد. جن الناس ضحكا، ودموعهم سيالة على الخدود. وأغمي على بعض الخاصة... ولما استنفذ الضحك؛ صار النغم طبقات تتلاءم، وتهس الصمت في ليل القصر، حتى بات مطلقا. بعدها فكك صنيعه إلى عيدان كما كانت أول الأمر. وضعها على الخريطة من جديد، وبدأ يقلبها، ويركب؛ إلى أن أتم تركيبا جديدا. والسكون تام هاته المرة؛ انسابت معزوفة بأمواج شجن، والعيون تلتم، وتذرف تذرف. بكى الجميع. لم يتباك أحد؛ وإنما بكوا حقا، والدموع كانت حارة، لأن تزييداته صارت تعتصر المقل بالنشيج والنحيب. رق أخيرا، وعطف عليهم، وعلى نفسه، فتوقف. أصبحت المناديل بالنسبة للحاضرين أعز ما يطلب للتنشيف؛ حتى نفذت من القصر. كم هي غريزية هذه الموسيقى! . لقد أبكت فعلا، وارتاح الكل. البكاء واحة الراحة من الغمة والانهمامات. لقد طهرهم، وبدا عليهم نوع من التجدد والسكينة. لما جفوا عاد صاحب «  الموسقى الكبير»1 ؛ يفكك آلته من جديد - بلا تقديم أو تأخير - إلى عيدان . قلبها على خريطة مدنه، وسواها في تركيب ثالث جديد؛ وفق أعداد دالة. تطاير العزف بتنغيمات تتطابق في سماء القصر، والناس راحوا يتهادون؛ لما انخفضت وطيئة قليلا قليلا، ثم سربل النوم الجفون، فنام كبير الدولة. كان هو أول من نام. انهد التوشيح  أكثر، ونام الأعيان والخاصة. توالى الخفوت باهتا باهتا؛ إلى أن غفا الجميع؛ بمن فيهم العامة، وأعضاء الجوقة، وعسس الأبواب، فلم المايسترو عيدانه العجيبة بكامل الهدوء والتؤدة، ولفها في خريطة المدن. تأبطها، وخرج من أصقاع القصر على بنانه؛ والناس نيام اللذة، و موسيقى الليل لا تنتهي.
سار وحده في طريق مظلم، يرنو إلى انقشاع النور. ولما كاد الفجر أن يطأ الظلام، أحس بذقنه يلتحي، فردد ما قاله أبو نصر: " كل غناء يخرج من بين شارب ولحية؛ لا يستظرف، فنزع عن ذلك، وأقبل على الطب والفلسفة "2. منذئذ وهو طالب علم؛ إلى أن أنشأ مدنا تبعا لتصاميم خريطته. ولم يدر لحد الآن هل نهض الخاصة والعامة بعد تلك السهرة البديعة؟ أم ما يزال الكل هاجعا؟!.

 

كتاب للطبيب والفيلسوف والنابغة في الموسيقى أبي نصر الفارابي، الذي يحكى عنه أنه عزف ذات ليلة في مجلس سيف الدولة، فضحك الناس، ثم عزف فبكوا، و بعد ذلك عزف ثالثة فناموا جميعا.
رواه ابن جلجل في " تاريخ الأطباء".

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة