خلف الجـدران – قصة : جاسم الحمود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

- 1 -crimson-pearl
على نغماتِ كلامه تفّتحتْ  أنوثتي ، صرت  أقف  أمام  المرآة  كثيراً ،  أتأمل جسدي ، أتحسس طياته ، أستكشف  مفازاته ، أسير  في صحرائه ، فتلهبني  حرارته  و سرابه ، أبحث  عن  واحةٍ أو نخلة ، أستلقي  تحت ظلها ، وأغفو  بانتظار أن  توقظني  لمساته ، لمساتٌ بحرارة جسد يحترق ، لمساتُ أصابعَ كالصواعق لجسدٍ كله قنابل موقوتة  .
هاهو  يطلّ من نافذته ، تخترق  أنفاسه  الزجاج ، تلسع  وجهي  بحرارتها و جرأتها ، تجتاحني نظراته , مثل خيول  برية  تستبيح  سهولي ، وقع  حوافرها  يوقد  في  صدري  ألف بركان وبركان ، يبتسم ، فتنسكب  أنهارٌ من  الزيت ، تزيد  نيراني  اشتعالاً ، فأحترق  بلذةٍ وخدر .
ابتسامته  تحاصرني ، تتسلق أسواري ، تدكّ  أبواب الرهبة ، و تحطم  الصفيح  الصدئ ، تتسلقني  ابتسامته ، فتنطفئ  مقاومتي ، و تستسلم  شفتاي ، وترسمان  ابتسامة  وردية . يلوح  بيده ،  فينتفض  قلبي ، وتلوح  يدي ، يغلق  نافذته . أبقى  وحيدةً ، أغمض عيني ، تكتسي  السماء  بلونٍ وردي ، أحلق  عالياً ، هل  هو  الحب ؟ .
سؤال  يكبر ، يتضخّم ، يمتد  بين  الروح  و الجسد ، بين  القلب و العقل ، هذا الذي يكسو الأشياء ثوب البهجة و الحضور الناصع ، الذي  يجعل لوناً و مذاقاً لكل شيء ، و يجعل كل مذاق  ألذّ و أشهى ، وكل  لون  أزهى و أجمل ، هذا الذي  يبعث الحياة  في  الدنيا ، ينمّي البرعم ، و يفتّح  الزهر ، و يدني الثمر ، و يُكبّر الحلم ، هل هو  الحب  ؟.

- 2 -
عندما  ولدت ، فرح  أهلي  كثيراً ، الناس  يفرحون  لولادة  الصبي ، أما  أهلي  ففرحوا  لأني  البنت الوحيدة  بعد ثلّةٍ  من  الشباب .
و مثل  برعم  صغير  نشأت  محاطة  بالكثير  من  الرعاية  و الاهتمام و الحراسة  بين  جدران  أربعة ، نشأت ، و كبرت ، أهلي  يخافون  عليّ ، جمالي قاتل كما  يقولون ، ولا يريدون  أن  يفسده  أحد ، رافقتني  الجدران  منذ  طفولتي  حتى  أخي  المغترب  أرسل لي هدية في عيد  ميلادي  الخامس ، مكعبات ملونة  لأبني  منها  جدراناً ، حتى  في  نومي  تحاصرني  الجدران ، و أحلامي  لا تتعدى حدود البيت .
مضت  سنوات  كثيرة ، و أنا  أصارع  الساعات  و الأيام ، أتأمل  نفسي  في  المرآة ، و أغمض  عيني ، فأرى فارساً وسيماً على جوادٍ  أبيض ، يدكّ  الجدران  بسيفه ، ويأخذني  بعيداً ، لم  أشعر  بطعم  الحياة  حتى  رأيته ، كان  ينظر  إلي  بغفلةٍ  مني ، ينظر  إلي  بدهشة  بريئة ، ارتبكتُ  بسعادة ، أحسست  بنظراته  تخترق  جسدي ، شعور  غريب  سيطر  عليّ ، عرفت لأول مرة  في حياتي كيف تكون  نظرة  الرجل  للمرأة .
نظراته تخدّر عقلي ، و تلهب جسدي  بالسياط ، تصل مكامن الألم ، و تكشف  ما  يجول  في خاطري .
نظراته  تعريني ، وتفضح  أفكاري ،  تكشف عن الظمأ  الحار  للآخر ، هذا  الظمأ  يتحول  إلى  نارٍ  تحرقني  بسعادة ، فأتمسك  بها ، وأقاوم  كل محاولة  لإطفائها .
هذا  الظمأ  منحني  الشجاعة ، فبادرته  الكلام ، وتكررت  اللقاءات مراتٍ  في  اليوم  الواحد .
-  3 -
اتكأت  على طرف  النافذة ، وأحلامي  ترفرف  حولي ، أطلّ بابتسامته  الهادئة ، و أنا  أرتعش  فرحاً : سأسافر .
نطقها بكل حروفها دفعةً واحدة ، لم  يخش  عليّ  من وقعها ...
يسافر ؟! .
ويتركني  وحيدة ، ماذا  أفعل ؟  .
يسافر ، و يترك الأحلام  و الأماني  و القنابل  الموقوتة ، فماذا أفعل  بها ؟ .
هل  أخنق أحلامي لتصبح  أكبر  و أشد  مرارة ، و القنابل  الموقوتة  هل  أفجرها  ليزداد  انشطاري  انشطاراً  ؟ !.
-  تسافر ؟  و أنا  ماذا  أفعل  ؟.
-  سأعود في أقرب فرصة  لأخطبك ، سأتصل  بك  كل  يوم ، أعدك  بذلك ، لقد  أنهيت  دراستي ، ويجب  أن  أعود  للقرية.
ثم  رحل ، رحل  هكذا  بكل  بساطة ، وكأنّ  شيئاً لم  يكن ، كأنّ  الليل لم  يأت  يوماً ، و كأنّ  النجوم لم تسهر.
في بدايات غيابه  يتصل بي كلّ يوم عندما  يكون  السجن  خالياً  إلا  منّي  .
و بمرور الزمن صار  يتصل مرة في   الأسبوع ، ثم مرة يتيمة في كل  شهر .
و قال في المرة  الأخيرة :
أتمنى أن  تجدي  إنساناً يستحقك ، سأتزوج فتاة من قريتي .
محال  ؟ ! .‍‍‍‍‍
يتزوج ، و  يتمنى  أن  أجد حبيباً  غيره ، وكأنّ  الحبيب  رداء  نشتري  أو  نخيط  غيره  إذا  فقدناه  ، وكأنّ  القلب  مضخة  آلية  تعمل  إذا  أدارتها  اليد.
- 4 -
فقدت شهيتي  للطعام ، وفقدت  حيويتي  و  مرحي ، أجلس بين  أهلي  صامتة  شاردة ، وفي  النهاية اعتزلت  في غرفتي ، ذبل  عودي ، وأنا أقف  أمام النافذة معظم  أوقاتي ، بل معظم  أوقاته .
ساءت حالتي ، صرت كالممسوسة .
جاؤوا  بطبيبٍ أول ، وبطبيبٍ ثان  وثالث ، كلهم  قالوا : ليست مريضة  .
آخر  طبيب  فحصني ، وضع  السماعة  عند  القلب  أولاً ، أرهف السمع ، ثم  أعلن : القلب  سليم .
تعجبت كيف  يكون  القلب سليماً ، و هو  ليس  معي ! . 
شربت الأدوية ، علّقت الحجب والتمائم  دون  فائدة ، أحلامي  تكبر ، و يزداد  انكساري ، و بما  تبقى  في جسدي  من  ضعف  ، كنت  أقف  أمام  النافذة  التي  نقلتني  إلى  عالم  آخر ، و تركتني  عاجزة  عن  العودة  إلى  عالمي  الذي  جئت  منه .
لماذا  أتعذب ؟ .
هل  ذنبي  أني  فتحت  نوافذي  و  أبوابي  ليدخلها  الحب ، و استفاق  جسدي بكل  مساماته  ليتشربه  نظرة نظرة  و همسة همسة .
فقدت  قوتي ، صرت  عاجزة  في السرير ، لا طعام  و لا نوم  .
جسدي  ينكمش ، و يتضاءل , أحلامي  تكبر ، و تتورد ، وما بين  الوهم  والحقيقة ، أتيه  مرة  و مرتين  ومرات ، تهيم  روحي  مشبعة  بحبٍ  ميت  وفضاءٍ  كاذب .
عندما  تحولت  إلى  جسد  بلا  حركة ، و قبل  أن  أفقد  القدرة على  الكلام ، طلبت  طلبي  الأخير ، أن  يضعوا  الهاتف  بجانبي .
و أنا  شاردة  في  فراشي  أراه  يمرّ  من  أمامي  مع  فتاة  أخرى , أثور ، أقف  لأناديه ، فيصطدم  رأسي  بالسقف ، أمدّ  يدي ، فتصطدم  بجدار ، أرفع  بصري ، فيرتد  عن الجدران خائباً ، أصرخ ، أناديه ، تصطدم  صرخاتي  بالجدران ، تتضخم  ، تمزق  غشاء  الطبل  و تنهك الروح ، و  رنين  الهاتف  يأتي  قوياً ، تضخمه  الجدران ، ويضج  رأسي  بالرنين ، أستجمع  ما بقي  من  عزيمتي ، تمتد  يدي ، وعندما  أضع  السماعة  على أذني ، يتوقف  الضجيج  و الرنين  الصاخب ،  ومرة  أخرى  يضجّ  رأسي ، يتضخم  بسبب  هذا  الصمت ، صمت  قاتل ، يتضخم  بين  جدران  الغرفة ، ويهاجمني  بقوة .a

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة