على سطح المقهى تطفو الكثير من التضاربات، الشعور بالأسر رغم الحرية، وبالنقص رغم الامتلاك، وبالضيق رغم السماء..
"أنتَ الآن تنظر إلى السماء، تستطيع أن تمتلكها بعينيك، تنظر إليها لكن هيهات أن تنظر إليك..!" هكذا خاطب نفسه. نظر إلى كوب قهوته الفارغ وإلى المقاعد التي من حوله واسترسل: "فارغة هي كأصحابها، هامدة كالأموات، فهل تكون مرتاحة وهي تشعر بكل هذا الجمود والفراغ؟ قد تكون مرتاحة لكن لا قيمة لها هكذا منفردة، فهي لا توجد لذاتها ولكن لغيرها أو مع غيرها على الأقل.. قد تبدو جميلة لكن الجميل لحظي، النافع وحده يبقى، تبقيه حاجتنا الدائمة إليه".
أربكه النظر إلى كل هذا الفراغ الذي يحوم حوله، ليتساءل إلى متى سيستمر هذا الفراغ؟ فحمل عينيه المثقلتين إلى السماء، عله يرى ما يفرج عنه كربه.. "لكن لماذا تتجهم السماء في وجهي كلما حاولت الخروج من "أناي" المظلمة لألامس زرقة السماء ولو مرة واحدة في هذه الحياة؟"
"ومن قال إن السماء زرقاء؟" تجيبه..
لا يكثرت لإجابتها، فلا ضرورة لإقناع السماء بأشياء تعرفها هي أكثر منه، ولا داعي لان يراجع ميثاق الشرف الذي عقده مع عينيه، كيف له أن يشك أن ما يرى ليس هو ما يراه؟
هو في حالة ترقب صوفي، ينسج حوله: أن ليس في الجبة إلا الفراغ، وأن ليس الفراغ إلا تلك الأشياء التي توجد الآن أمام عينيه - فارغة من المعنى- مركزا عليها لا على نظرته إليها.
تتحداه السماء كعادتها دائما وتبدأ في أنشودة مطرها، ليقول مع ذاته:"أنا لستُ لا العراق ولا الخليج ولا الأطفال الذين يصرخون، نعم أنا أصرخ لكن في صمت.. وليس هذا المطر مطر الأنشودة، إن مطرها يحيي وهذا المطر قاتل.."
ليغوص من جديد في جبته الصوفية فاقدا راحة الامتلاء بالفراغ، إنه عاد للتحدث عن أشياء الوجود كمرايا لذاته، تنعكس عليها كل مكوناته.. "ياللأشياء من مرايا صادقة؟ يا لقدرتها على عكس العمق بدل السطح والوجه بدل القناع..؟"
يغوص بنظره في عمق السماء، وقد صارت بحرا هائجا، متموجا بين الأبيض والرمادي، "لا شيء واضح وغامض في نفس الوقت أكثر من السماء؟ ولا شيء يهزمنا أكثر من السماء.."
يسهو بنظره متوجسا بين الأرض والسماء، كيف له أن يبني جسرا يوصله إليها..؟
لا ينتبه إلا وهي تحرك مقعدا بجانبه، ينظر إليها باستغراب كبير: هل يعرفها؟ هل تعرفه؟ هل ينتظرها أم هي التي تنتظره؟؟ هل هي السماء اللامتناهية والماء المنتظر لإحياء رغبة الجسد وتطهيرها من كل امتداد جسدي.. أم هي العماء الذي يطبق على وجوده
نظرتْ إليه نظرة استعراضية وابتسمت..
نظر إليها وهو في حالة من الدهشة: "كيف للسماء أن ترسل كل هاته الخيوط من الضوء وهي التي لا تجود إلا بخلق الحاجة إلى الضوء، لكثرة ما تضع على وجهها من ألوان داكنة؟"
لم يرقها الحال، غيرتْ من وضعة جلستها ومن شكل ملامحها ونظرتها، أسبلتْ عينيها وأرسلتْ إليه نظرة، يفهم جيدا مدلولها. نظر إليها ببرودة: "لماذا تعتقد السماء، أننا لما نكون نطلبها لذاتها، ونستمتع بحضورها كما هي، أننا نبتهل إليها من أجل أشياء أخرى فيها.. لماذا تنسى أن حضورها الواقعي أهم بكثير من غياباتها الموعودة؟"
فهمتْ أن حضورها الخام لا يكفي وأن عليها أن تعدل من شيء ما خارج ذاتها وإرادتها، أخرجت قارورة عطرها ورشت عليها بعضا منه لعله.. لعلها تشغل حاسة شمه بعدما تعطل نظره..
سرح بفكره في مدلول العطر.. "على الأقل إنه ليس عطركِ..".
لا حظتْ أن الابتسامة التي أطلق بدأت تنكمش، فحاولتْ من جديد أن تشد انتباهه بفستانها.." وماذا تقول في هذا الأحمر؟"
نظر إليها وهو يقطب حاجبيه، طأطأ رأسه وأجابها: " إنه أحمر. لكن لماذا لم تسألي ما رأيي في الفستان؟"
استطرقتْ بعينيها وابتلعتْ ريقها، سألته "ولكنك تحب النظر إلى اللون الأحمر والحديث عن الأحمر؟"
اكتفى بالصمت وقد اغتم وجهه وتنهد بعمق، هامسا في نفسه "مالكِ أيتها السماء تصرين على إبقائي أسير الشعور بالنقص والفراغ كلما حاولتُ..؟"
أجاب: "حسنا إنها وحدها من تحضرني في الأحمر، وهي وحدها من يتجلى فيها الأحمر في كامل حمرته.."
استقامتْ على مضض.. وقالت: "إنك رجل ألغى الآخرين من وجوده، وأجَّلَ كل شيء في حياته، لدرجة أنه ألغى حتى نفسه وأجل حياته.."
نظر إليها نظرة اعتذار قائلا: "إن المرأة التي تسكنني لا توجد إلا فيها، تفقدني سلطتي على ذاتي، تلغي لون اللون بغيابها، وتلغي الوجود بحضورها، هي في قرار مكين مني.. هي.."
هرولتْ من قربه حتى لا تفقد صوابها مما تسمع.. استدار عن النظر إليها، إلى الشارع الطويل أمامه، كل هاته الشاحنات والسيارات وقد أوقفها الضوء الأحمر، الأحمر من جديد؟ وحدها سيارة الإسعاف لم تتوقف -وهي الأخرى حمراء؟- ولم تكثرت .. ابتسم: "لأنها تعلم مدى سمو غاياتها، على الأقل لمن تحمله بداخلها كما أن حاجز المنع هو نفسه مصدر الرغبة.."
قام من المقهى، في حالة تضارب كيف ينهي قصته معها؟ وهو يمضي في كامل خوفه الوجودي، تقع عيناه على وردة حمراء بهية، ملقاة في الشارع حملها وهو يبتسم.. استمر على خط الطريق يعترف لنفسه: "شيء لا مفر منه أن أقر أن الأمر يتجاوز حدود الرغبة الجامحة التي تتدفق من كل مسام من مسامات جسدي، جسدي الذي لم يعد مجرد "ذات" توفر لي الشرط المادي الضروري للاستمرار، بل إلها قادرا على خلق عوالم لا متناهية فهو تعلم جيدا كيف ينظر وكيف يشم وكيف يلمس وكيف يسمع وكيف يرغب.. وكيف يعيش داخل فضاءات هي وليدة حواسه، تنبثق من صميم رغباته، لتخلُق له حاجاته وتقدم له مع الحاجات إجابات وإشباعات لها..
يا جسدي الذي كنتَ تعبُدني كيف غدوتُ عبدا مملوكا ومطواعا لكَ؟ هذا سؤالي إليكَ وأنا أعلم أنك أصم وأبكم لا تفكر في الإجابة إلا عن أسئلتك الخاصة، وأفترض أن السؤال الذي يقض مضجعك ويضرب بالفوضى حواسك، هو سؤال الرغبة أو سؤال من تليق سيدة تقدر أن تسد كل رغباتك؟ لكن كيف تغدو الرغبة التي أنتَ مصدرها إلها لك؟"
طرح السؤال على نفسه دونما أن يتوقف، وراح يتأمل ما حوله، هاهنا الصمت أكثر دمسا من ظلمة الليل التي لا تتوانى في مواعدته بلقائك المجهول منذ دخوله زمن الانتظار..
لا يزال يذكر قوله أن يكون كل الكون ورديا بكلمة، فمن البيان ما هو سحر، وكلمة منكِ تكفي لاختصار كل مسافات المعاناة التي تعاقبت على صحراءه الممتدة بين زهر الرغبة وصبار المنع.. "لا مانع لجسد في التراجع عن أوهامه ورغباته متى انقشع له البديل، فالجسد أعمى لا يدرك الأشياء إلا كلية وخاما وبرودة وحرارة ونعومة وخشونة وضخامة ونحافة واستدارة وأماما وخلفا.. لا مانع لديه في أن تنصب رغبته على أخرى تتوفر فيها بعض من هاته الثنائيات؟ ليلبي رغبته ويلغي رغبتها.. لكن لماذا فشل في قبول دعوتها..؟"
.. لم يشعر بنفسه إلا وقد ارتمى على فراشه يرتق ما تبقى من أحلامه الوردية بخيط أبيض لعله يخلق منه سحابا أبيضا يكسر اكفهرار سمائه وأجوائه العليا، التي لم تصح بعد، وهو في حالة انتظار وموت سريري، يتعطل كل شيء وتظل الرغبة قائمة.. الرغبة فيكِ أنتِ وحدكِ، أنتِ وحدكِ فتنة الأحمر ومعنى الأشياء..