اندغام ـ قصة : محمد البوعيادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

18944l-eclairage-publicطويلا يبدو هذا الممر، قبلة تحت المطر في طريق للرجوع  و سبيل للهجوع، و الليل معتكف على زمهرير الشتاء يعد أنفاسه اللاهجة، يتلو المصباح العمومي آيات الخفوت، يموت رويدا رويدا و أمهل العاشقين أمهلهم رويدا، ينزف المصباح الصدئ ضوءً، يسيل منه الضوء خيطا فخيطا ، و متأبطين شرهما و ذراعيهما يمشيان تحت مظلة الشمس الليلية، تلك الحرارة المنبثقة كالجمرات الحارقة من ثنايا الضلوع... كان الطريق خاليا إلا من ركن ركين،انزويا إليه فدسّ يديه في تفاحة حوّاء و تذوّقا معا كرز المطر الأحمر، منبجسا من زوايا الشفاه كخمر معتق شرباه عصيرا من دم و دم، نامت على كتفه حمامة بلّورية من ملكوت الرّب الأزلي...


ألا  أيها الليل الطّويل ألا لا تنجل، و يا أيها المطر الخفيف لا تسترح من انهيارك الغامر... المطر هو بول الملائكة الذي يُبرعم نهدَ الأرض المنبجس زهرا و ربيعا و ليلكا متكبّرا، والريح من جحافل الشياطين التي تصعد إلى الملإ الأعلى لتتنصت على أسرار الملكوت الألوهي التي لا يتسّع لها صدر الإنسان، و الطّريق قصير إلى سجن البشر ، لكن أمامهما كان يبدو خاضعا كسهول منبسطة، أبيضا ذلك الأفق يتبدى، تشوبه حُمرة خفيفة سرقها الشفق من شفتيها الشبقتين، و ذراع في ذراع ، تمشي سفينة نوح و يتبدّى العالم رجسا من أعمال الله فتنشق الأقانيم السبعة عن بعضها و تنعجن أمام طوفان الظلام الذي ساد العالم السُّفلي، إلا قلبين دافئين بقهوة المساء المشُوبة "بكريما" العشق الرائقة، وحدهما سينجوان مع أزواج الأرانب البيضاء و الكناري بألوان الطيف و القطط الشامية المنقطة و زوجان من فراش الصباح المبتوت في روابي الله الواسعة، كانا سيقودان خلقا جديدا بإذن الرب المعظم، يُعمران الكوكب حين العود على بدء، يسكنان كهوف الجليد و مغارات الماء الموحشة و جبال الثلج الناصع، و يأخذان من جلد الماعز مُفترَشا لهما حين يأتي الفصل الغاضب...
مرت سيارة لعينة فكشفهما الضوء..ضحكا و انسحبا كظلين متشابكين....أحبك قالت، أحبك قال....ألا أيها السائرون في دروب الفل و القرنفل هل رأيتم نارنجا ينبث في وُجنتين بيضاوتين كالحليب الأول؟
ألا أيّها المسافرون إلى بلاد النّيروز و الجُلّنار، هل يحترق الماء أم هل يموت الموت؟....هنا في زاوية المنعطف ، في عشر دقائق من الطريق، كان الموت ينتحر و كانت المسافة تقطع نفسها باكية على ضياع الخطى في متاهات اللامكان، وكان الليل أمّا ثكلى يبكي على وجع الرصيف...
انزويا لحظة تكشّف فيها السّر الأعظم، تجلّى الروح الأمين في ارتعاشة قصوى ، سار فيها الموجود و الواجد  لافرق بينهما، كانت وحدة الوجود ترمي بظلالها على عبق النحر المترنح تحت قنابل الشفاه المجنونة اللافحة، فأشرقت الشمس داخل جمجمتين و ضاع ما ضاع في غمرة التوحّد ، فأينه العقل:
يا أُولي الألباب يا أهلَ النُّهى ...هِمْتُ ما بينَ المَهاةِ و المَهَا
من سَهَا عن السُّها فما سَها ....من سَهَا عن المهاةِ قدْ سَهَا
سِرْ  بِهِ   بسربهِ  لِسِرْبِه   ...فاللُّهى تفتحُ بالحَمْدِ  اللَّهى
إنّها من فتيات   عُرْبٍ    ....من بنات الفُرس أصلا إنّها
نظم الحُسْنُ  من الدُّر لها ....أشْنَبا أبيضَ صافٍ كالمَهَا
رامَنِي مِنْهَا سُفورٌ راعني...عنْدَهُ مِنْهَا جَمَالٌ و بهَا
فأنا ذو  الموتتين منهما   ....هكذا القُرآن قد جاء بهَا {1}

تضامّا كحركتين إعرابيتين فوق حرفٍ مُترنّحٍ، كانت ترى الضياء الإلهي يتسرّب عبر اليد التي ترسم طبوغرافية الجسد شبرا شبرا ، فتشتعل الحرائق تترى أينما مرّت اليدُ ، و كان يرى فيها شجرة الكون التي سيَطْعَمُ منها جيل الظمأ ومن وارفات ظلالها سيلتحف درعا ضد حرّ المورثاث الكلابية، ارتخت بين يديه كعجينة الخلق الرخوة ، عصفورا صغيرا يطلب دفء الحضن، فأغمضت عينين سكرانتين يسكنهما السحر السُّليماني ، مُعربدة تلك الألحاظ بخمرة الريق الأثيلة، و اندغما في سمفونية الشتاء، يحترقان على لهيب الأساطير التي عشعشت دهرا طويلا في الحشا ، لم يعد هناك  سماء و أرض ، انطبقا ، لم يعد هناك زمان و مكان ، انسحقا ، لم تعد هناك أبعاد أربعة للعالم، كانا يتوهان في استكناه البعد الخامس من أبعاد الوجود، حيث يتوقف الزمن أيضا عن فاعليته الآثمة ، و حيث تجهر الحواس لاهثة من حروق الجلد و التهابات العروق و انهيارات الأعصاب التي تتوالى على رجع رقصة المطر الوحشية ، كان الإيقاع الهاطل يتوقف فجأة ثم يحبو صوبهما متلحّفا عباءة الصّوت المبحوح ، ترتعُ الكَف اللعينة في جنات عدن من رمّان الصدر و تُفّاح الوجنتين و موز الشفاه و عنب إسباني بلون الدّم ، و تُعتصر الفواكه في فم مُتشقّق بشمس الرغبة و ظلال الشهوة الساغبة ...
و الآه، ضياع تحت كبر السّماء و وُسعِ الفضاء، وحده المصباح المسكين كان يغتلمُ في زاوية الشارع مثتحَسّرا على وحدته الحارقة...
- فلنعد  إذا  ، لكِنّي بدأت اشتاق إليك من الآن..
ربّاهُ ، لو كنت هناك ترى ما يحصل لهما " بتلسكوبك" الكبير، فابعث بُراقا مُجنّحا مُطهَّما بخيوط الزّبرجد و الزّمُرّد ليحملهما إلى ثخوم السماء السابعة حيث الخلود ، حيث ينعدم الزمن ...كان يطوّقها كي لا تنقلت من بين يديه، كُلّما اقتربا من السّجن البشري، كان يُحْكِمُ الضّمة، إنّهُ الخوف من العودة ، من وحدة الليل و انعدام الدفء و الجلد و اللحم الفائر بضباب الحرارة و العرق، وحيدين سيكونان بعد هذا التّوحُّد ، و سيطول السُّهدُ على رجع اليقظة، ضمّها أكثر فانتفض قدّها الممشوق بين كفّه كارتعاشة بجعة تنفض ماء النّهر عن ريشها، طوّقها بذراعه و أخفض المطرية قليلا ثم طواها و رماها جانبا ووقفا تحت المطر، عينا في عينٍ التقيا بالنظر ، انعجنت الأشكال و فقدت ملامحها ، بدى أن العالم هشّ جدا ، هشٌّ لدرجة يتصوّراه بها يوما ، بدى أن الأرض ليست بالصلابة التي يحكون عنها ، تمايلت تحت أقدامهما كبساط الريح ، تبدّى القمر بسيطا جدا  لدرجة لا يمكن لأن يكون فيها جميلا  حتّى يكون رمزا في القصيدة ، كان الفضاء الزمكاني يتكسّرُ فيُسْمعُ لهُ صوت مُزعج كالزُّجاج المُنطرح على الأرض، اخترقا بعضهما في اتّحاد كُليِّ، أرخى يديه في نهديها  ليحصد ما زرع الله ، فالتصقا بهما و صار الكفُّ جزء من الصّدر، ضمّها إليه بعُنف ثم برفق ، فاختلطت ملامحها رُويدا رُويدا ، غرست شفتيها في ثغره فذابا حتى لم يَعُد هناك  سوى وجهٌ واحدٌ و جسدٌ واحد و روح واحدة فسافرا إلى بلاد ألف ليلة و ليلتين فوق موجة واحدة ، كوناَ واحدا صارا و زمانا مندغما في تفاصيل المكان، لقد صارا ضوء لطيفا من الجوهر الإلهي اللطيف، انصعق الفضاء الذي التقيا فيه ، و شبّ حريق مُهول في ما أحاط بهما من زرع و ضرع و معمار، انطفأت مصابيح الشارع فلم تعد هناك حاجة إليها ، لقد  أضاء الوهج  العشقي لانصهارهما كل أرجاء المكان ، فالمدينة ، فالكوكب  ، فالكون...فضاعا في منمنمات التوهان ، ضاعا في بعضهما البعض كما فراشة تعرف أن المصباح سيحرقها و لا تملك سوى أن تطوف به كما يُطاف بالكعبة حتى الاحتراق ، بُعيد ثوان قليلة  لم يكن هناك  سوى مصباح أرمل يسترجع قواه الخائرة بعد  لحظة الانخطاف الكوني، و ظلام يستعيد هويته المغتصبة من النور الذي غشا أقنوم المكان و زواياه،  لقد  عاد الحي المهجور إلى معهوده و هدوئه و ظلامه ، ظلت المظلة مُلقاة على الرصيف البارد ، و أبرقت نجمتان بعيدتان في السّماء البعيدة ...

{1} محيي الدين ابن عربي، ديوان: تُرجمان الأشواق ، ص 37 .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة