سـيَـعـود... ـ قصة : المصطفى السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

1816930106_1ضربتْ كفا بكف... ولعنت حظها التعس الذي جعلها أضحوكة بين نساء القرية... أصبحن الآن يتندرن بها، ويشربن قهوة المساء وهن يلكن فضيحتها، والبعض منهن وجدنها فرصة للشماتة والتشفي... كثيرا ما تساءلن بينهن وبين أنفسهن: كيف قبل أحمد الزين الزواج بها، وهي على تلك الخِلقة؟ دمامة وجه وقبح منظر زادتهما العين المفقوءة سوءا وبشاعة... ولسان سليط لم يسلم من سُمِّه أحد من سكان القرية... كن يقلن: كيف صبر ذلك الرجل على كل هذا الأذى دون أي يسمع له أحد شكوى أو يحس بنفور من"الضاوية"؟ ومن أين لها الضوء وكل ما فيها ظلام ووحشة ونكد؟ قالت الهاشمية بكثير من المكر: لايصبر على هذه الكتلة من الشر إلا من ذاق منها عسلا مصفى تحت جنح الليل... ومن يدري، فلعل الله آتاها من مفاتيح الدخول إلى قلب الرجل ما لم يؤته امرأة أخرى غيرَها؟


كانت"الضاوية" تسمع كل ذلك الغمز واللمز، وتـُسِرّه في نفسها، وتكتفي بالقول: سيعود... إنه سيعود... لا بد أن يعود... لم تصدق أن يكون أحمد الزين قد نسيها، رغم أنه مر الآن حولان كاملان على سفره إلى المدينة، دون أن يصلها منه ما يثبت نيته في العودة... علمت فقط من بعض أبناء الدوار الذين يترددون على المدينة أنه اشتغل في أحد الأفرنة، يعجن الخبز ويطرحه داخل الفرن طوال النهار وجزءا من الليل... فكيف يكون لديه الوقت للتفكير في غيرها فبالأحرى الارتباط بها؟ قالت ذلك بعد أن بلغها ما تحدثت به نساء القرية عن عشق نساء المدينة لخشونة الرجال القادمين من أحراش القرية، بعد أن مللن من نعومة ذكور لا يكادون يختلفون عن الإناث إلا في مظهرهم... وأحمد الزين بقامته الفارهة ومنكبيه العريضين وشعره المنسدل على كتفيه على طريقة ممثلي الأفلام التاريخية، يبدو مثل حصان نافر لا يمكن أن تخطئه عين الباحثات عن الفحولة... وأحست لأول مرة بدمعة ساخنة تتسرب من عينها السليمة... وندمت على معاملتها الخشنة له وقسوتها عليه... وتذكرت طيبته وصبره على كلامها الجارح دون أن يرد عليه سوى بنظرة ما تزال تحمل في أعماقها براءة الطفولة وطهرها... ثم عادت لتتذكر خلواتها معه بالليل، وكيف كانت تجرعه رشفات اللذة والمتعة وهو منتش بها مثل طفل مدلل يمسك بثدي والدته... لا بد أن يعود... أعرف أنه سيعود... قالتها وهي تجفف سيل الدموع المنهمر من عينها السليمة...
هشت على الشياه الثلاث العجاف والخروف الأقرن وهي تحث الخطا نحو الحصيدة المتبقية من موسم فلاحي مر مثل سابقيه هزيلا شاحبا... وتداعت إلى ذهنها صور أحمد الزين بنشاطه المعهود يتفقد المحصول في سنوات الصبا والخير، ويتعهد قطيع غنمه المتنامي باستمرار، قبل أن تتوالى سنوات القحط والجفاف التي أتت على الزرع والضرع، وترغمه هو أيضا على الهجرة إلى المدينة بحثا عن أي عمل يسد الرمق... رأت الخروف يشط بعيدا عن الشياه الثلاثة وهويقتفي حبات شعير متناثرة بين شعاب الحصيدة، والشياه مشغولات عنه باجترار ما حصلنه من تبن وقش وبقايا عشب مجفف... وتمثل لها أحمد الزين وسط هذا المشهد... وجدت الأمر مسليا في هذا الفضاء القاحل والفارغ من كل شيء مثير، فمضت تراهن من خلاله على عودة أحمد... حدثت نفسها أن الخروف سيعود إلى شياهه من تلقاء نفسه دون أن تهش هي عليه... قالت وهي تبتسم: سيعود... لا يمكن أن يشط بعيدا عنهن ولا يعود إليهن في نهاية المطاف... لا بد أن يعود... بدا لها الخروف منهمكا في التقاط ما تناثر فوق الأرض غير آبه بالمسافة التي غدت تفصله عن الشياه... راح ينأى عنهن بعيدا بعيدا حتى أصبح مجرد نقطة صغيرة في المدى البعيد... كانت ما تزال تردد: سيعود... سيعود... وفيما يشبه الغفوة بدت لها تلك النقطة آيبة تكبر من جديد... رأت فيها صورة أحمد الزين يسير نحوها بخطى ثابتة وواثقة... ورأت نفسها تطير نحوه من الفرح ويداها ممدودتان إليه تحملان كل الشوق والحنين اللذين خبأتهما طوال السنتين الماضيتين... وكادت تمسك بالطيف القادم نحوها حين سمعت ثغاء حادا من إحدى الشياه التي افتقدت فجأة حضور الخروف بينها... فاستيقظت من غفوتها... كان المدى أمامها خلوا إلا من سراب تتلاشى موجاته مثل الأمنيات المنفلتة من بين الأصابع... عادت الشاة تثغو بحدة أكبر... نظرت إليها"الضاوية"وهي تقول باستسلام، وقد اغرورقت عينها السليمة بالدموع: سيعود... لا بد أن يعود...

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة