مقامة الفيلودوكس- ناصر السوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

photo 1212حدثني في من أعرف من الناس وهو الأصلع ابن حنين عن أحوال الفكر فمضى يقول هذا الذي احتـفـظت به على سبيل الذكر: صاحبي فيلودوكس بأطياف قوس قزح، يتهادى مغرورا في ديجور جهل الجاهلين. يتغنى بأفكار مر عليها مرور الكرام العابرين. أو حلم بها من وريقات كتب بلون اليرقان نظير"قـرعة الأنبياء" العزيزة على قلبه، وقلوب أشكاله من المتحلقين، وأمثاله من المتحذلقين. يدثره ثوب قشيب عجيب يتوسل به وقارا بصنعة زائدة؛ مؤملا أن يضفي ويسبغ على كلامه فائدة.
يطل عليك في الجمعات كيما يفرق لغطه شذر مذر؛ وهراءه كما له بدر، ساعات معلومة، تضحى خلالها محبة الحكمة حشمة مكلومة، يشمر فيها على ساعديه فيعجز على مدارها عن لملمة أحرف نمقها من غير أن تستقيم في فيه الذي ينطقه هوى وجهلا؛ لا تبصرا وعقلا.


أروع ما يروق صاحبي الفيلودوكس نثر كلام معدم بلا لوك محكم؛ هو خليط جليط من سمج المزاعم، يجاهر به بقصد التعالم.
في إيوانه العزيز على نفسه وقلبه، الذي ينأى به عن جمعه وصحبه، يتكوم وفي نيته أن يتحكم، يشخص بعينين مكورتين تخبئان داخل محجريهما ما علق في الحافظة من سفاسف الاستظهار؛ وما رسب وتكلس بالسمع من خطل الكلام وسخف الاستذكار. ينقبض جبينه كثيرا حتى ترتسم على تجاعيد صلعته علامة استفهام؛ ليفتعل ما يحلو ويلذ له من سفسطات الأقوال، يتقمص بها ظل من يتقصى البحث عن تأصيل الأسئلة والكلام؛ بيد أن الحيلة تخذله، والجهل يفضحه في حمل الغير أو جذبه لمجارات ترهات ثقافته الكسيحة؛ ظنا منه وتفاخرا بأنها فسيحة، يتوق بها إسباغ مصداقية على ما لايصدق وقبول ما لايقبل وتلك هي لعمري فضيحة.
ولما كان صاحبي الفيلودوكس يتكلم في مالا يعلم؛ ويحدث بمنزع"بحر العلوم" مجاريا "الصادق النيهوم"، حديث راوي الرواة، بالألغاز والتعمية، لا بالإبانة والتجلية، وبأساليب كئيبة بئيسة أصلا، وعبارات منخورة ومحنطة فصلا، مثل وجه ميت تخشب بظلمة قبر، يطالعك بوثيرة الزئبق النزقة حين لا يجد ما يقدمه أو يؤخره، فيضرب على غير هدى، والقول يعجله، وهو ياليقين المبين مخبول، لأنه يقبس علما بضمير مجهول عندما يجعل الشيخ الرئيس أهم مناهضي فلسفة كانط، وأرسطو حاملا على تاريخانية هيغل، وابن رشدا محاججا ببرهانيته جدلية ماركس؛ وناحت الكوجيطو مفرطا في أنانية نرجسية صمت آذانه عن العالم(...).
والبديع الأبدع، في مقامة هذا الفيلودوكس الأفجع، أنه ييسر لمن توسم فيه غرضا، ومن محياه مريدا مفترضا، فهم صرح هيغل النظري في برهة زمنية تكون أسرع من رحيل السهم عن الوتر، من خلال نصحك بإحلال فكرة واجب الوجوب لذاته موضع"الروح" ولسان حاله يردد من غير تردد: «هلموا أعلمكم الحكمة في خمسة أيام معدودة فقط!!!».
وفي عجبه العجاب الذي تحار له العقول والألباب؛ أقحم عن سبق إصرار وترصد، ومن قوله هذا هو متأكد، عبد الرحمان بدوي كرها ضمن إحدى حكومات الرئيس عبد الناصر. وكيف لا وقد عن له إلهامه الدافق، وخياله الخالق، أن يقلد"بدويا" وزارة المعارف، وهو لسياسة ناصر مخالف؟ وليضيف جاحظا عينيه، من غير أن يرف جفنيه، بأن "الوزير بدوي" تحمس لترجمة "فن الشعر" لأرسطو إرضاء لمنصبه الحكومي!!!
وعندما هممت بفراق الأصلع بن حنين بعد هذه اللقيا، حدجني فأوجز: هذا غيض من فيض حكمة صاحبي الفيلودوكس. أما أنا فقد أنشدت على أثره، لكن هامسا في أذنه، بقريض شاعر عربي أصيل وددت لو إياه يبلغه:
تأن في أمرك وافهم عني فليس شيء يعدل التأني
تأن فيه ثم قل فإنـــي أرجو له الإرشاد بالتأني.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة