نداء الحب ـ قصة : مجدي السماك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfكلما خطر إلى بال سمير طيف خطيبته سلمى كان قلبه يخفق وبسرعة يدق.. ثم تتعالى دقاته حتى تتحول في لمح البصر إلى رنين، يسري كهرباء في شرايينه فيملأ كل كيانه. ويبقى هكذا كمن غاب عن الدنيا وغاص عميقا في عالم ليس له وجود.. فيحس كأن جسده كله يضيء.
مع هذا لم ينس أن يمد يده كي يتحسس قارورة العطر النسائي التي دسها في الجيب الداخلي لبذلته الرمادية.. التي اشتراها وهو عائد من رام الله قبل يومين. ثم أخرجت يده القارورة وراح بعينين ضاحكتين يتفحصها كأنه يراها لأول مرة. بعد هذا وللمرة العاشرة رش رشة خفيفة على ظهر يده.. فأحس بكفه وهي تتحول إلى قطعة عنبر يحترق. وبمنتهى الرفق صعدت كفه إلى أعلى حتى لامست أرنبة أنفه المدبب.. فصار يشم، وينتشي. وعلى الفور سمع صوتا كرجع الصدى راح ينبعث ويسري من داخله إلى داخله: الله.. الله.. هدية رائعة تليق بخطيبتي سلمى.. أروع هدية أقدمها لها من يوم ما تعرفت عليها.


أعادت يده القارورة إلى مستقرها وهو ينعطف جهة اليمين.. وحدق إلى الأفق بسمائها النقية الخالية تماما من أي غيوم. وداعبت وجهه نسمات تشرين الخفيفة التي كانت تهب من الشمال.. فتمتزج بطريقها مع ابتسامات رقيقات كانت تتناثر عن شفتيه المشرعتين.. فتلمع خلفهما وتتلألأ أسنانه البيضاء الأنصع من قشر البيض.
انعطف مرة أخرى ولكن إلى جهة اليسار.. حيث الشارع المؤدي إلى دار خطيبته سلمى.. الواقع بالقرب من الجدار العازل، الذي يقسم الضفة الغربية كسيف طويل بتار في لحم حي بض. وكانت نفسه مبتهجة وهي تخاطب أحاسيسه المنتشية قائلة له في دلال: بعد خمس دقائق سوف أكون في بيت خطيبتي.. حبيبتي سلمى.. روحي التي يحيا بها جسدي وفيها يعيش.. وسوف اخطف منها قبلة حين أناولها قارورة العطر.. بالفعل هي أفخر قارورة عطر أنتجتها باريس.
ما هي سوى عشرات من الأمتار مشاها حتى سمع جلبة قادمة من الجهة المقابلة.. كأن الدنيا اشتعلت كلها فجأة واندلعت فيها حرب.. أو انفجر فيها بركان. قنابل غاز مسيل للدموع.. رصاص حي وآخر مطاطي.. سيارات جند محاطة بسياج حديدي.. أبراج مراقبة يعلوها جنود مدججون بالسلاح.. شباب فلسطينيون معظمهم قدموا من القرى المجاورة، كانوا يكرّون ويفرّون بلا توقف. بعض المتظاهرين كانوا أجانب قدموا من أوروبا.. والبعض الآخر كانوا يهودا كارهين للجدار.
 للحظة توقف سمير وكان عقله في ذهول.. تسمَر في المكان  كتمثال منحوت من صخور جبل الجرمق. ما الذي جاء بي إلى هذه الطريق؟ يوجد طرق أخرى مؤدية إلى دار حبيبتي سلمى. يا الله! ما هذه الورطة؟
بالكاد مرت برهة أو برهتان.. حتى وجد نفسه يتقدم ببطء إلى الأمام. وشاهد أبراج المراقبة المرتفعة.. وفيها أحد الجند يطلق الرصاص بعصبية هستيرية على المتظاهرين، والغير متظاهرين. وجندي آخر على عجل يقضم ساندويش ويشرب عصير. رفع سمير يديه إلى السماء ودعا على الجندي الأول أن يشل الله يده .. ودعا الله أن تقف اللقمة في زور الجندي الثاني.. ويشرق.. و أن لا يجد ما يشربه سوى البنزين.
لا يدري سمير كيف تابعت قدماه المسير.. حتى وجد نفسه وسط المعمعة وهي تطوقه من كل الجهات. شاهد بعض الجرحى على الأرض مبطوحين هنا وهناك، تتدفق الدماء من فوهات صنعتها الرصاصات في أجسادهم الفائرة.. سارع إلى سيارة إسعاف لكنه لم يستطع اللحاق بها.. لقد انطلقت تحمل جرحى سابقين. أمسك قارورة العطر ووضعها في الجيب الخارجي للبذلة.. ومزق بطانة البذلة الداخلية.. وراح يلفها على جراح المصابين ليضمدّها، ولو مؤقتا على أمل أن تصل في أي لحظة سيارة إسعاف أخرى.. وساعده في ذلك بعض الشباب القريبين منه. ولكثرة المصابين وتأخر سيارة الإسعاف وإعاقة الجنود لها أحيانا ومنعها من المجيء في أحيان أخرى.. اضطر إلى تمزيق البذلة كلها في محاولة منه ليغلق بها نوافير الدماء التي كانت تأبي أن تنغلق. ودس قارورة العطر في جيب البنطلون.
طلب منه بعض المتظاهرين قارورة العطر ليرشوا بها على أنوف اللذين أصابهم إغماء واختناق، حيث ذهب واحد من الشبان لإحضار سلة مملوءة بالبصل لكنه تأخر ولم يعد لغاية الآن. لم يتردد سمير ولو للحظة واحدة.. استل القارورة من غمدها وأسرع  بنفسه يرش الأنوف المحتاجة إلى الهواء والحياة.. يتنقل من أنف إلى أنف بهمة عالية لا تفتر. مع هذا تناول منه أحد المتظاهرين القارورة وراح يرش. وهكذا ظلت القارورة تنتقل من يد إلى يد.. ومن أنف إلى أنف. وانشغل سمير بإلقاء الحجارة على الجند غارقا في عرقه الذي صار يسيل وينصب. يتوقف قليلا بين فينة وأخرى كلما زار خاطره طيف خطيبته سلمى.. ثم يعاود الكر والفر من جديد. أخيرا عادت إليه القارورة وقد نفد نصفها.. وخاطبه عقله بصوت ندي مملوء بالحب: سوف أقدم لسلمى نصف القارورة، وأشرح لها كل الذي حصل بالتفصيل من الألف إلى الياء.. سوف تتفهم الموقف وتغفر لي وتسامحني.. فأنا أعرف قلبها الطيب الكبير.
 ظهر شاب أشقر يبدو أنه من الأوروبيين أحضر القارورة إلى سمير وجرى كالبرق، كي يمارس الإسعاف على طريقته قدر المستطاع. لكن القارورة كانت فارغة تماما ولا يوجد بها ولو قطرة واحدة. مع هذا بلهفة أخذ سمير يحدق إليها ويشم فوهتها المفتوحة. وصمم أن يقدمها إلى خطيبته فارغة وليكن ما يكون. وتناهى إلى مسمعه صوت قادم من قريب، لكنته تدل على قرويته.. أين العطر؟ يا ناس يوجد حالة اختناق! بسرعة يا عالم هاتوا العطر.. سوف يموت.. قطرة عطر واحدة تساوي الحياة.
نظر سمير حوله فرأى الشاب الذي كان ذاهبا لجلب البصل قد وصل.. والذي كان قد تأخر. هجم سمير على سلة البصل التي ينوء تحت ثقلها الشاب العائد، مع هذا شعر كأنما هبط عليه فجأة من السماء محمولا على جناح ملاك الرحمة.. وبسرعة خطف بصلة ورجع يسأل أين المغمى عليه؟ أين المخنوق؟ وبأقصى سرعة انطلقت ساقاه تتبعان إشارة سبابة برزت أمامه في الحال.. كأنها تتكلم وهي تشير إلى صخرة حجمها بين متوسط وبين كبير.. ثم توقف لأقل من لحظة وراح يدش البصلة ببطن كفه الأغلظ من خشب البلوط.
وصل سمير إلى الشخص المغمى عليه والذي كان مكوما خلف الصخرة.. فكاد أن يصاب هو بالإغماء وصار يصيح: كارثة.. إنها خطيبتي سلمى. صار يزعق بأقوى قدرة تملكها حبال حنجرته: سلمى.. سلمى.. سلمى. لا تموتي.. لا تموتي. أنا سمير.. أنا سمير. ما الذي أخرجك من الدار.. أي قدر جاء بك إلى هنا. من رآه في تلك اللحظة وهو يصرخ قائلا: استحلفك بالله أن تفيقي يا حبيبتي.. بالتأكيد من سمعه سيظن لا محالة أن سمير مسه جنون.
بسرعة خطف شاب يهودي البصلة من يد سمير.. وراح يقربها إلى أنف سلمى ويعصرها بيده.. لتسيل منها القطرات كالمزراب. بعض القطرات أخذت طريقها إلى خديها ومن هناك صارت تتساقط على رقبتها ثم تسيل. ما هو سوى وقت ضئيل مر حتى تململت سلمى.. واستيقظت. راحت ذاهلة تنظر إلى وجوه الواقفين حولها في وجوم. لكنها ابتسمت حين رأت وجه سمير.. وكان في نظراتها حيرة بقدر ما فيها من دهشة وإرهاق.. وبسرعة انقلبت نظراتها إلى نداء حب مملوء بالحياة راح يتدفق من أعماقها.. ومن فمها اندلع: هات يدك.. خذني إليك.. ضعني في قلبك.. تعال إلى قلبي. كان الشاب اليهودي لا يزال واقفا ينظر اليهما بشغف شديد، ومع إنه لا يعرف اللغة العربية سوى أنه ضحك ببراءة شديدة.. ثم حرك كفه يمينا ويسارا وهو يقول لهم: (شالوم).. وظل يقولها حتى اختفى وصار في قلب المظاهرة.
قرفص سمير إلى جوار خطيبته سلمى التي جلست واسندت ظهرها الى الصخرة.. ورائحة البصل المنبعثة من جسدها كانت تزكم أنفه، إلا أنه بلذة راح  يشم، لا يأبه إلا لنداء الحب الذي ظل يبثه قلبه الرنان. ثم مسك يدها ومنع دمعة أوشكت على الوقوع. وأخرج قارورة العطر الفارغة وقدمها لها قائلا بمنتهى الجد والوله: هذه هديتي إليك يا حبيبتي.. اقسم بالله أنها من أفخر العطور التي صنعتها فرنسا. وقص عليها الحكاية باقتضاب. بالكاد انتهى من كلامه، حتى تشابكت أصابع يديهما، دون ان يشعرها بذلك. وغرقا في ضحك شديد صاخب لا يبدو أنه سيخبو أو ينقطع.. ضحكات شقت طريقها عبر أزيز الرصاص المتطاير في المكان.
انتهت

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة