وإذا الموؤودون... ـ قصة : حسن أردّة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

temps moderneلأنّ عدَدَنا كَانَ كَبيراً جدا فلم يكن "الأب" يهتم بتذكُّر وجوهنا في المناسبات التي نراه فيها على عربته المذهبة. في الواقع لم يكن ينظر إلى أيٍّ منا إلا نادرا، وإذا حدث فسوف يتخذه الابن المحظوظ عيدا وذكرى يفخر بها بيننا، وحين يقرّب إليه منا فردا لا نراه مرة أخرى أبدا. في سريرتنا نعلم انه يبادلنا نفس النفور، لعله أيضا شعور ممزوج بغيرة حاقدة: ففي الوقت الذي كنا نهرَم سريعا منتقلين إلى قوافل المنسيّين، لم نكن نعرف سر احتفاظه بفتوته حتى لَيراه الناظر شابا في مثل سنّي. ولكن أصحابه ـ الذين يبدون أكثر منه حيوية بالطبع ـ يتمادون في مدح قوته وقدرته وشبابه الممتد عبر الأجيال، خصوصا على مسامعنا. محض نفاق طبعا، ولكن فيه جانبا كبيرا من الصحة. فهذا الأب العجيب الذي يتفرد بين أصحابه بلباس متناقض تعلو فيه ربطة العنق على السروال التقليدي الفضفاض، هذا الأب الذي لم يكن يتورع عن وضع السبحة جانبا ليمسك سيجارة الحشيش من صديقة المقرب "فابيو" السمين، كان صلدا كالحجر ذا قوة سحرية تكمن في أساور يديه الذهبية التي ترتبط بجني غير مرئي كما كنا نعتقد!
وأهم ما كنا نعـرف انه يعرفه عنا هو شـدة كراهيتنا له وخوفنا القديـم منه.
عدا كل هذا يظل الله بعيدا، بعيدا جدا لدرجة أننا لم نكن نعرف هل يدري في عليائه ما يجري في بيتنا الجبلي الكبير ام لا.


وتجمعُنا الجحور فنفرك أكفنا من القَرّ ثم تستمر حكاياتنا حتى الفجر. نرمق الدخان المتصاعد من القمة بحـَسَدٍ فِطري لا نملك أن نداريه إلا بالدعاء والنكات والحشيش، عاطلين عن أي شيء سوى الحفر في الجبل كل يوم، لا ندري لمَ، وأظنها عادة ولدتها سنون الفراغ الطويلة، العادة سر من أسرار البقاء كما يقول أبونا في خطبه، وهكذا يُنسى بسرعة الموتى والمعطلُون لمَرضٍ والمنفِيُّون في قنوات "المجاري". كان يفرِض علينا أن نحفر كل يوم في جانب من جوانب الجبل، وحين تلتقي الحفر الشرقية بالغربية يأتي برجال غرباء ليأخذوا التراب في أجولة نحملها لهم حتى أسفل الجبل ثم نعود. لا نبدي رأيا ولا احتجاجا. ويردد الفقيه العجوز في جمعة الزيارة:
"أطِع أباك تفز بالآخرة"
وكان بعضُ العاقِّين ممن عادوا من "المجاري" القديمة يرددون باحتجاج خافت:
والدنيا.. والدنيا..
وحين كان يُسمع لأحدهم صوتُ احتجاج مرتفع يأتي من يعيده مرة أخرى إلى "المجاري" حتى يؤوب إلى رشده. ولكن الأمر مختلف هذه المرة، كثُر زوار "المجاري" منا كما كثر الغائبون، لا يخلُو جُحر من ابن تم تأديبه، وحين نسمر حول الجمر الواهن يكشف "الجيلانـي" عن جسده فنرى أخاديدَ وثقوبا. ونتبادل نظرات التساؤل عن العالم الأسود الغارق أسفل الجبل، يصمت "الجيلاني" قليلا وهو يسوّي ملابسه الرثة ثم يقول بهدوء:
لا يمكنني أن أصفها لكم، إنها سوداء لا ألوان فيها.
ويسأله فضولي:
ـ ماذا تأكلون:
ـ لا شيء، نقضم أظافرنا حتى نتعود، ومن العادة ننسى أنفسنا فلا نلتفت إلى أننا نأكل بعضا من أصابعنا.
ولا نصدق، فيرينا كفه مبتورة الأنامل. يقول:
ـ لا اذكر أنني أحسست بالألم.
ونستغرب من حكايته، فنغرق في الشك. ويسأل البعض في احتجاج خافت حَذرأً من كيد الوشاة:
ـ لم يفعلُ أبونا بنا ما لا يفعله أصحابه بأبنائهم؟
ولم نكن نملك جوابا لسؤال الصحو هذا إلا بالغرق مرة أخرى في الدعاء والنكات والحشيش. وهكذا تتكرر يومياتنا بين الحفر والسمر وحكايات الرهبة في دوراتها المقدسة حتى يأتي يوم الجمعة، حين نصطَفُّ عبر دروب السفح الملتوية مبتهجين بأشعة الشمس ممتنين للنظافة الأسبوعية التي تفرضها الهيبة الأبوية على الطرقات والجدران. وشوقنا إلى العربة المذهبة لا يضاهيه شيء. وتزغرد الجواري، ويردد الأطفال الصغار:
ـ ابونا.. ابونا.. نحبك.. نحبك..
ويشير إلينا بكفه فلا نرى من جسده الهائل الحائل بيننا وبين قرص الشمس إلا أصابعه المذهبة تلمع فيها الخواتم. وتجول الخيول العشرة بين الحشود المتزاحمة حاملة مع الأب رهطا من أصحابه الإفرنجيين غريبي السمت والأطوار، لا يظهر منهم غير رؤوس قبعاتهم السوداء،  فيما يظل هو يلوح بيده مبتسما ابتسامته التي لا يطالها الملل حتى يغيب في الأفق مع ذيل الأشعة الغاربة. ثم يحل الليل ويتلوه نهار مظلم مغيَّب الشعاع خلف سحب ثابتة لا تتحرك كأنها عين أبينا على يوميَّاتنا. وننتظر انزياحها عن سمائنا في جمعة البروز، فلا ندري أننتظر العربة المذهبة أم ضوء الشمس يغمر عيوننا المثقلة. كنا نسمع ولكن لا نصدق شيئا، نسمع كثيرا ونفهم قليلا، ولا نتذكر إلا قليلا مما نفهمه عن امتداد "البراري" القريبة التي لم يزرها إلا قلة من الهاربين دون أن يعودوا بخبر. ومن "المجاري" يعود الجيلاني ذات أربعاء ليتوسط جلسة الحشيش، ويرفض مشاركتنا فنرفع حواجب الدهشة، يتساءل ملولاً:
ألا يوجد في هذا الجبل إلا الحشيش؟
ويحرك السؤال الظهور المستنِدة على الحَجَر والتراب فيقول عبد الصبور ناصحا:
ـ اِحمَد لأبيك نعمة الحشيش فلولاها لمِتنا من الأرق.
وعبد الكريم يتكلم لا يحذر واشيا، صريح كصراحة هذا الظلام، يقول مفجِّرا ما كان يُسِره سابقا على حذر:
ـ غارقون في الظلام. ما بَركاتُ أبيكم إلا لعنة صبَّها الله عليكم لذُلّكم.
وتختنق الأنفاس في صدورنا وتلمع عين عبد الصبور في ظلام الجلسة فنتوجس، ثم يصرِّح بنواياه التي نعرفها:
ـ بل عليك لعنة الله ولعنة أبيك، وما أراك الا غارقا في سواد "المجاري" غدا.
ونصمت، ويصمت الجيلاني احتراما لسنه وخوفا من وشايته، ولكني ألمحه صباحا في حُفر التعَب مارّا على الأجساد الهزيلة، يمد يمناه سليمة الأصابع من جيبه فيلكز أكتاف عبد الكريم وعبد السلام والمهدي والطالب، وينبهُه شيطان شكّه إليَّ فيتفحصني بارتياب وجِل ثم يوَليني ظهره تاركا إياي لشعور مزعج. ويأتي البراحون بعد سويعات الغفلة والغرق في الغبار يتجولون ناشرين أسماء الهاربين بين الدروب. وأبحَث عنهم مساءً فلا أقف لهم على اثر، وأسأل الصِّبية اللاَّهين في الأوحال دون فائدة، ولكنهم يذكرون أسماء الهاربين بإعجاب فيزداد بحثي حماسا، وبمرور الساعات أعلم أن كثيرين غيرَهم اختفوا وكثيرين غيري يبحثون. أتذكر نظرات ارتياب الجيلاني. يسكُنني قلق وضيع. تقودني قدَمايَ إلى طريق الغابة حيث الجامعُ القديم الخرِب. أُسَلّم على الحُفّاظ المُطأطئِين على ألواحهم ولا يردُّون سلامي، وأحاول أن اسأل فقيههم فيطردني بحركة سريعة من يده ثم يعود إلى غَفوِه. وابتعد عن المسجد ولا يزال صدى همهمات الحُفاظ يصل أذنيّ مبهمَةَ المعاني. وأبصر والِدَتي فوق الصخرة الكبيرة جالسة تنتظر الغروب، وألوم نفسي على إهمالي الطويل فأُهْرَعُ إليها مدفوعا بذنبي، أقبّل يدها النحيلة الشفافة، فتنظر إلى عيني بعتاب أَليف:
ـ أخرَّك الشكُّ كما هو حال الآخرين.
وتُذيبني فراستُها في خجلي الذي عُرفت به فأشير بيدي في الهواء تائها، وأتلعثم في تبريراتي. وتقول هي في ود وألم:
ـ كلُّ ابن يُرمى مني في حفَر الجبل لا يخرج إلا ميتا أو مريضا. أضاقت بكم الأرض أم استقوى عليكم أبوكم بضعفكم؟
فأخفض رأسي وانأ اجلس القرفصاء مقابلا جلستها، لا شيء إلا أنا وهي وأشجار المقابر تحركها نسمات وَانِية تحمل من ثرى المدفونين روائحَ الزعتر والريحان. ولا زلت غارقا في تبريراتي الداخلية. ولكن الصوت الذي أنهضني اليوم صباحا أليفٌ رغم حداثته، وتسألني مرة أخرى:
ـ ما الذي أخَّرك عن أخوتك؟
ـ الجيلاني لا يثق في أحد، والآخرون يستخفون بحداثة سني، ولم اعلم بنياتهم إلا فِراسةً.
ـ يحق لهم ما دمتَ لم تعرف ما أنت عليه.
ـ تُخيفني قصص "المجاري"!
ـ ما دفنَكم في حفر الجبل أحياءَ غير صَمتكم. وأما زوارُ "المجَاري" فهم أحبابي وصفوتُكم.
ـ أبونا قوي والجِني يعينه، وأصحابه كثر.
وأبصِرُ في عينيها تبرُّما:
ـ الشك بينكم يزيده قوة، أما قصة الجني فليست سوى ابتداعا من مدّاح مسترزِق.
وأغرقُ في حيرتي فأصمُت عابثا في تراب الأرض بأصابعي، أحس بنظراتها تتفحصني، انظر إليها، أجدها تبتسم، لم تزدها القرون الطويلة التي قضتها في خلاء المقابر إلا ضياءً ونضارة رغم نحول جسدها وشفافيته. وأقف لوقوفها منتظِـرا كفها المحبوبة بين شفتيّ:
ـ ستجدهم عند المنابع ينتظرونك.
ـ قريبا ينزل الظلام فكيف لي برؤيتهم.
ـ هم سيرونك.
ـ لقد تبرموا مني!
ـ اِألفْهُم !
 ومسَّدَت شعْرَ رأسي مبارِكةً، وقالَت في خُفُوت:
ـ اليوم يحين الوفاء. قُم.
وكان عليّ أن أصعد المنحدَر الوعر الذي يردِمه والدنا كلما عبرَه عائدا بخيوله إلى قمة الجبل، واسترحت قليلا لاسترجع أنفاسي اللاهثة، فألقيت النظرة الأخيرة على السفوح الهاوية فوجدتها تغرق أكثر في الضباب والسكون.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة