تأملات سردية فلسفية : الحقيقة ـ نص : محمد الفاهم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

من أنت يا أنا أيها الكائن في ؟
verite-etreأيها الغريب الذي لا يريد أن يبتعد عني
يبحث الإنسان عن الأسرار ، لكن أكبر سر يحمله بين جوانبه . أتصور أحيانا في النهايات القصوى للزمان ، وبعد أن تخرج الحقيقة من البئر حاملة سياطها ، ما الذي يمكن أن تقوله للبشرية أي سر سينكشف أخيرا ، أي ضوء سينير الظلمات ، ذلك الصوت البعيد القادم من وراء العوالم الخفية ، ما الذي يمكن أن يخبرني به .
تبدو لي الحياة أحيانا كما لو أنها ليلة واحدة طويلة تنامها البشرية وستستيقظ في حلم آخر ، زرقة في داخل زرقة . الحقيقة منيعة عن الجنس البشري لكنها دائما تحدق إلينا بجفون مفتوحة . أحتاج الكثير من التفكير للتعمق في الحقيقة ، لكن القليل من الكلمات قادر على قول ما هو أساسي وما هو أساسي هو أنني أفضل الحياة على الحقيقة ، أفضل الوجود على الفكر ، أفضل الإحساس بالغيوم على فهم الغيوم .
التأجيل بالنسبة لي يعني التشبث بالحياة ، رفض الحقيقة . أعتقد أنه من رحمة القدير بنا أنه منحنا هذه النعمة : التيه ، القدرة على النسيان ، التأجيل الدائم لمواجهة الحقيقة .
هكذا أمضي تحت المطر الخفيف في الشارع الطويل الذي يفصل الثانوية عن المنزل ، من هنا إلى هناك تزدحم الأفكار في ذهني كما لو أن رأسي يشبه محطة لا تتوقف عن الحركة . تؤلمني الوجوه العابرة في سطحية الحياة ، في الضمور اللانساني لمعنى الحياة المعاصرة . ما هو مؤسف هو أن البلادة أصبح لها طابع قومي . البلادة الألفية هذه ، هي أولى علامات الإنحطاط البشري الأخير . هذا هو زمن الكينونة الحرجة .


في المساء عندما أكون في المزرعة ، أندس في بركة الحزن ، في العمق الباطني للأشياء ، كل الأشياء لها ما تقوله لو تمكنت فعلا من الكلام . الكلب الذي يتعقبني ما الذي كان سيقوله لو عبر عن وجوده . القط الغارق في تأملاته ، أشجار التين المنتصبة هناك بكل بهاء . يظهر لي أن كل شيء في هذا العالم يتكلم لغة خاصة به . الطبيعة كلها محرومة من التعبير لكنها ليست محرومة من اللغة . اللغة هي البئر المدهشة التي تخرج منها المعاني . إنها عطاء السماء في هذا العالم . السعادة بالنسبة لي تتمثل في جرعات الإحساس ، كلما توقفت عن التفكير وانغمست في الإحساس أكون قريبا من ذاتي ، قريبا من تلك الأفكار التي ليس مصدرها الفكر ، بل مصدرها الإحساس . أجلس لساعات تحت شجرة التين في صمت كلي حتى بيني وبين نفسي . أريد أن أترك الأشياء تأخذ فرصتها في الكلام ، أن تفصح هذه الشجرة عن شعرها الخاص ، أن أستبطن التأملات العميقة لهذا القط الممد في بهو المنزل . أن أترك العصافير تنشد فلسفتها الخاصة ، فلسفة بدون أنا مفكرة ، بدون مفاهيم أو حجج منطقية .
لو كانت حياتي ستؤول برمتها إلى الزوال لما كانت هناك أي مشكلة ، لكنني مع ذلك هنا تحت هذا المطر الخفيف الذي يداعب وجهي . هدوء الصباح اللامعبر عنه ، النعومة التي لا يمكن نقلها إلى كلمات . يبدو لي أن أعظم فلسفة لن تظهر أبدا إلى الوجود ، وأجمل قصيدة لن يتمكن أي شاعر من كتابتها . سيظل دائما هناك معنى غائب ، جمال غير معبر عنه ، لن تطلع أي امرأة من البئر . الحقيقة النهائية هي أنني لن أصل أبدا إلى الحقيقة.

عدو الحشرات

أية طفولة عشتها ! ، كل ما أعرفه هو أنني ولدت هكذا كبيرا . حينما كان الأطفال يلعبون كنت أتأمل ، عندما كانوا يعبثون كنت أستكشف . أتذكر في صغري أنني جلست في ركن منزو من الحي وبدأت أفحص جرادة صغيرة ، بدت لي غربية ، كيف تتمكن من القفز لهذه المسافات الطويلة ، وتطير محلقة في الهواء . قمت بنزع أرجلها ، لأرى ما الذي يمكن أن يحدثه هذا التغير عليها ، غير أنها استمرت في الطيران رغم ذلك ، فنزعت أجنحتها كذلك حتى لم يبقى منها غير الرأس و البطن الحرشفي الطويل ، وبينما أنا منهمك في تجاربي الصغيرة هذه لاحظ بعض الأطفال ممن كانوا يتجارون في الحي ما أقوم به ، ربما تعجبوا كيف يمكنني أنا الخجول والضعيف البنية ،الشبيه في عزلتي بالأطفال المتوحدين ،أن أقوم بكل هذا الإجرام في حق جرادة لا حول لها ولا قوة ، فما كان منهم إلا أن هتفوا بصوت واحد : عدو الحشرات ـ عدو الحشرات ... انطلقوا بعدها يجرون في الحي وهم يرددون هذا النعت الذي سيلازمني طوال طفولتي .

الطفولة نعمة الطبيعة على الإنسان ، حرمت منها منذ بداية عهدي بالحياة . ما أقصى أن يولد الإنسان كبيرا ، وأن يشعر بالطفولة في كبره . بعد هذا اللقب جاد علي أصدقائي وزملائي في المدرسة بألقاب أخرى ، مثل قلم الرصاص ، نظرا لهزالة بنيتي وضعفي الشديد ، أو مثل ابن أمه بسبب خجلي الدائم ، كانت هذه الألقاب تتبعني خلال طفولتي مثل غيمة سوداء ، لكنني كنت أهرب منها بأن أدس نفسي في الكتب ، فحصلت على وسام أخير منهم وهو ، القراء .

الكتب هي جنة آدم الثانية التي تعوضه عن جنته الأولى ، التي انفصل عنها بسبب رغبته في كشف سر الشجرة ، مثلي أنا تماما عندما أردت أن أعرف سر تلك الجرادة . آدم عوقب بانفصاله عن الجنة وأنا عوقبت بانفصالي عن الطفولة . ذلك أن الطفولة هي جنة الإنسان في هذه الحياة ، والسعيد هو من يظل طفلا ، ولكن هيهات لأن الزمان يفقدنا براءتنا . لو قدر لي أن أبعث من جديد ـ وهو ما أتمناه طبعا ـ فإن أول شيء سأطلبه من القدير هو أن أبعث طفلا ، ولكن بدون ألقاب هذه المرة أو نعوت . أريد استعادة حس الطفولة وبراءتها ، ما أجمل أولى اللمسات ، أولى الروائح والأذواق ، أولى خفقات القلب بالحب . الأثاث العتيق في حضن الذاكرة العتيقة . الخطوات المتعثرة فوق حصير القش . أعتقد أن حياتي برمتها ما هي إلا تمارين متنوعة للحفاظ على هذا الطفل الذي كنته في الماضي .

المعاناة في الحب تصنع الشعراء ، والمعاناة بدون حب تصنع الفلاسفة . أما الذين يحبون بدون معاناة فيصبحون إما أرباب أسر أو علماء مرموقين . أنا لست لا من هؤلاء ولا من أولئك . أنا مجرد طفل كبير في منتصف العمر . عاشق ولكن بدون استعارات ، فيلسوف ولكن بدون مفاهيم ، أعاني مثلما تعاني الأرض التي تحمل البشرية .
أستلقي في السرير كمثل تلك الجرادة الكبيرة التي أعرفها جيدا ، منزوعة الأطراف والأجنحة ، هناك بعض الأيام أشعر فيها أن كل شيء أصبح مستعصيا علي ، لا أقوى حتى على النهوض من السرير وملء كوب الماء من الحنفية ، أشعر بالغرابة من كل شيء ، حتى من مضغ الطعام في فمي . لا أريد أن أكون جائعا ، وليست لي في الآن ذاته رغبة في تناول الطعام . تمنيت في هذه اللحظات لو كنت مثل ألواح الطاقة الشمسية ، أستلقي تحت أشعة الظهيرة الحارقة وأتزود بكل ما أحتاجه من قوة لمدة سنة كاملة على الأقل . لكم هي مضيعة للوقت أن أقتطع كل هذه الساعات يوميا لأخصصها للأكل .
أحسد شجرة الزيتون الهرمة التي تكبر بجانب منزلي ، هي شامخة هنالك تمتلك كل الحياة دون أن تتحرك من مكانها ، هذه الشجرة المعمرة كانت هنا قبل أن أولد وستظل هنا حتى بعد رحيلي الليلي المنتظر بين النجوم .

أحسد كذلك كل الناس على حس اللامبالاة الرفيعة التي يمتلكونها ، والتي تجعلهم يقبلون على الحياة دون أي إحساس بالضجر أو الملل . الحس البليد بالحياة يصنع السقوط ، أما الوعي بهذا السقوط ، هذا الوعي الذي يمتلكه سيئو الحظ مثلي فيصنع التعالي . يبدو لي أن حياتي برمتها تتلخص في كلمتين : التعالي والسقوط . إذا بقيت بلا حراك فوق السرير يظل ذهني متقدا مثل شعلة في ليلة باردة ، قدري هو أن أحترق في الحب وفي الفكر ، هذا هو التعالي الخاص بي . الجمال ، وخصوصا الجمال ، أشعر به دائما كما لو كان سكينا فوق رقبتي ، لكن بمجرد ما أنهض من السرير متقدما نحو الحنفية ، حتى أكون على وشك السقوط في كل خطوة أخطوها . الحياة تنزع مني التفكير فيها . الحياة تفكك ، والإتصال انفصال . الوعي بالسعادة يجلب التعاسة ، تمنيت لو كنت مثل تلك الحيوانات التي تدخل في سبات طويل ، ثم تستيقظ في زمان آخر مستعيدة حياة مغايرة . أحيانا تبدو الطبيعة غير عادلة معنا ، لماذا حرمتنا من مثل هذه الملكات الجليلة ، لماذا لا يكون الإنسان مثل الصقر الذي حينما يصل منتصف عمره يعتزل في جبل ناء ويبدل ريشه ، ثم يضرب منقاره مع الصخر حتى يغيره بآخر جديد .

أو كذلك مثل تلك الكائنات البحرية التي تنكمش على ذاتها كي تعود لحالة الصبا . على الأقل ماذا لو كنت أتمتع بعطر الوردة ، أو صخب البحر ، أو حتى وحشة الأدغال . أعيش في هذا العالم ، لكن العالم منفصل عني . أحيا والحياة بعيدة وغريبة علي . أصارع حشرات غريبة غالبا ما أستيقظ مفزوعا لأنفضها عني . أتأرجح على الدوام كبندول ساعة بين الحب والإحتراق ، اللحظة والأبدية ، الحضور والإنفصال .كل بداية هي نهاية مؤجلة ، كل خطوة هي مصير ، كل كلمة هي هروب من شيء ما ، كل قبلة هي نافذة على الروح . العثور فقدان ، والإمتلاك خسارة ،هكذا تظهر لي حياتي راية منكسة في حداد الحياة البشرية ، ترفرف يائسة بين التعالي والسقوط ، تنهيدة طويلة شبيهة بصهيل خيل مطعونة في الفخذ .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة