"الشّْمَنْدريات"ـ قصة : العياشي ثابت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Abstract landscape small        قافلة عربات تجرها بغال صبورة، تخترق الشارع الطويل في اتجاه الجديدة ذهابا، ومراكش عند الرجوع. تغدو وأهل المدينة نيام، قاصدة حقول الشمندر المسقية، فتعود محملة بالأعشاب  والحشائش مملوءة عن آخرها، وعلى قمة الحشائش تجلس "حادة بنت الكركاع"، بساقين على شكل زاوية منفرجة، تتأبط ابنها الصغير، موثوقا إلى ظهرها وقد أطبق بفمه على ثديها، يستجدي حليبا ودفئا.  لا أحد يستطيع التعرف عليها وعلى أمثالها من نساء القافلة:  فقد تلفّعن  بسترة لا تُعفي من الوجه إلا العينين. أغلبهن مصحوبات بصغارهن من الأبناء أو الإخوة، يتخذن منهم دروعا بشرية إذا لزم الأمر، كأنْ يتدخل صاحب حقل مسقي لمنعهن من دخوله ، فتمسك حادة برجل ابنها، ورأسه مَهْوى الأرض، مهددة إياه بضربه على صخرة، فيبتعد مخافة تهمة باطلة، ثم تنفجر الأخريات ضاحكات مستبشرات، ساخرات من جبن مهين، معتدّات بفعل "حادة" البطولي في نظرهن .
 

       أما طقوس المسير على الطريق المعبدة، فقد استمدت صلابتها من شجاعة "حادة بنت الكركاع" التي كانت تقول للأخريات: إن لنا في الطريق المعبدة نصيب، فإن طول المشي فوق الحصى يدمي حوافر البغال. كان ذلك يغضب سائقي الشاحنات الكبيرة، ضاقوا بتعنت قوافل العربات ذرعا، فاتخذ مساعدوهم  عصيا  طويلة ، أصا بت ظهر "حادة" بندب طويل على امتداد ظهرها. شاع الخبر في القوافل ، فابتعدت عن الطريق المعبدة قليلا، ومن لزمت منهن السير عليها، كانت تسير ووجهها إلى الخلف في غا لب الأحيان، حتى إذا لمحت صورة شاحنة ابتعدت على الفور.
       مرت الأيام، وسئمت "حادة" من قوافل العربات، وأصبحت "الشمندريات" تتنقلن إلى العمل في الحقول على متن سيارات (البيكاب) ، التي تحمل زهاء عشرين أو أكثر من النساء والرجا ل، في رحلات محفوفة بالمخاطر، مملوءة بالضحك والغناء والرقص على إيقاعات تضبطها "حادة بنت الكركاع"، بالضرب على جنبات "البيكاب". تتعالى الزغاريد كلما اقتربن من جمع ذكوري، يرددن في زهو ونشاط:
                                     شوفو شوفو حادة      آلبنات علاش كادة
        كانت حادة تزف كل ليلة عريسين من الركاب، فغناؤها يشعل حرارة الأجواء المندفعة، فيكثرالكلام بين الظلام والزحام، حتى إن حادة المطلقة بابنها الذي أودعته والدتها، لم تستطع يوما أن تلتحق بأفواج العاملات، فقد أحست بدوار وغثيان، وانهارت بعد أن أخبرها الطبيب أنها حامل في شهرها الثاني.
أمضت أياما على الجمر، تفكر في مصير حملها، أتتركه على هون أم تُجهضه فتدسه في التراب؟ وإذا تركته فأين تختفي حتى تضعه؟ وإذا وضعته فمن يتكفل به؟؟؟ عشرات الأسئلة أرهقتها قبل أن تُسِر الأمر إلى" فاطنة الصويبية"، الخبيرة في أمور النساء ، والتي أشارت عليها بمصارحة صاحب فعلتها . ولما تبين لها أن الأرض انشقت وابتلعته منذ سماع الخبر، أمرتها أن تواصل العمل دون قلق، فقد تتدبر أمرها، حتى إذا أخذت بطنها في الظهور، سافرت بها إلى مكان تلد فيه . لم يكن ذلك بلا ثمن، فقد اشترطت عليها مبلغا من المال، لتغطية نفقات السفر والإقامة، مع التعهد بنسيان الوليد فور ولادته.
      عادت حادة لتركب سيارة "البيكاب" من جديد، و تَسابق الشبان يخطبون ودها، بعدما علموا باختفاء صاحبها، دون أن يعرفوا السبب، واستمرت على حالها تلك، قبل أن تستفيق يوما على صوت ممرضة بالمستشفى وهي تقول: شويا آحادة؟
أجابت حادة:  فين أنا؟  آش وقع؟
قالت الممرضة: على سلامتك، ستركم الله بعد انقلاب "البيكاب"، لكن الجنين قد مات.
قالت حادة: الله يسلمك، لن أضع "سترة الشمندريات" على وجهي بعد اليوم، فهي لاتستر شيئا...


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة