حين نهض من فراشه – كعادته – قال جملته المعهودة في كل صباح: "كل شيء على ما يرام". فهو رجل عادي بسيط، يضع رأسه على الوسادة فينام، دون أي قلق أو اضطراب، ساعات نومه كافية، وساعات صحوه كافية أيضاً، وما بين النوم واليقظة وقت مستقطع للغرق في أحلام يقظة مترعة بالبساطة والسذاجة.
لكنه اليوم على غير عادته لم يزح الستائر ليفسح الطريق لنور الشمس داخل غرفته، وهذا بحد ذاته أمر مستهجن، لأنه ومنذ لحظة تكونه كشخص إلى اليوم السابق لم يتخلَّ عن عادة مارسها منذ تكونه. فماذا حصل؟ وما هو الدافع الذي سكنه ليتنازل عن عادة من عاداته؟ أمر في غاية الغرابة، أمر جعلني أعود بذاكرتي إلى أيام هذا الشخص الماضية عودة اندهاش وانشداه.
عرفته منذ زمن بعيد بعيد، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت باني عرفته في ذات اليوم الذي عرفني فيه. التقت عيوننا فجأة، كانت النظرات تتمازج وتندمج، يتسرب الضياء منها ليقف حاجزاً رقيقاً بين التمازج والاندماج، كخيط من الوهم يشكل جداراً فاصلاً بين ما هو كائن وما سيكون، بين شخص يعيش بداخلي وأعيش بداخله، ظللنا هكذا أياماً أو شهوراً، وربما بقينا كذلك ردحاً طويلاً من زمن لا ندركه ولا يدركنا. ولا أعلم حتى هذه اللحظات سر النظرة التي اخترقت كل أحلامي لتسكن بين جنباته وأروقته! ولكني أعلم أن بين الوهم والحقيقة كانت قسمات وجهه تطفح كبركان شديد الحرارة بأعماقي.
وحين هم بالخروج، فطن لأمر الستائر، فانتفض جلده، وتعرقت كل مساماته وأجزاؤه، امتقع لونه، وبدا خفقان قلبه المتسارع كرسم كهفي على صدره الهابط الصاعد، تسمر مكانه للحظات، ثم انطلق كسهم نحو النافذة ليفسح الطريق للشمس كعادته، وما أن فتح النافذة حتى استسلم للنوم من جديد.
أن يعود للنوم، أمر أخر شديد الغرابة، فلم يحصل في أي يوم من أيام حياته أن فعل مثل هذا الأمر من قبل، والخروج عن العادة عند مثل هذا الشخص أمر غير مستوعب، بل وغير مقبول، فهو كما قلت سابقاً رجل عادي بسيط حتى في النمطية والرتابة، وهو فوق ذلك كله لن يجد تفسيراً لما حدث معه حين يصحو، مما يجعلني أخاف عليه من الأرق في أيام حياته القادمة، وكذلك قد تشكل ظاهرة النوم المفاجئ مادة تدفعه للتفكير بأمر ما، وهو لم يعتد التفكير بأي شيء على الإطلاق، وهذا أمر محسوم في شخصيته الطبيعية إلى حد الركون للأشياء والأحداث، ركون العبد لعبوديته.
وحين صحا، اندفع بكل قوته نحو النافذة ليغلقها بوجه الشمس، بانفعال وعصبيه شديدتين، جلس على الكرسي وهو يحدق بالأشياء تحديقة تحمل بريقاً غريباً عنه، تحديقه بالأشياء يوحي إنه لم يرها في حياته إلا اليوم، بل هذه اللحظة فقط، كل نظراته تشير بأنه أتى من عالم آخر، ليشاهد أشياء لم تكن موجودة في عالمه السابق. أجال طرفه فالتقت عيني بعينيه، تملكني ذعر مفاجئ، واستبد بي رعب هائل، غزاني التوتر المشدود إلى أقصى درجة وبدأت بالارتجاف المصحوب بعرق غزير بارد، شديد البرودة.
نظراته الموجهة إلي، بدت كنظرات جني غاضب حانق، هي ترسل رعباً غير معهود، ومسكونة برعب مماثل، تستفزني، وتستفز ذاتها، التناقض ملحمة واضحة في البؤبؤ والسواد والبياض الموزع في إطار العين. نهض من مكانه فعلاً صرير عظامه، توجه نحو النافذة، أزاح الستائر، فاندفعت الشمس لتغرقه بأشعتها وتلفه بضيائها، فتح النافذة، فاندفع اللفح نحوه اندفاع عاصفة هوجاء، اطل من النافذة، استدار نحوي، فرأيت شخصاً آخر، لم أشاهده من قبل، لم أعرفه قبل هذه اللحظة.
قال: "انظر من النافذة، كل الأشياء تبدلت، اختلفت، الأشجار والأزهار والحشائش كلها سوداء، السماء، تأملها جيداً، تحولت من لونها الأزرق إلى اللون الأحمر القاني، والبحر، هل تراه جيداً؟ انظر كيف أصبح أرجوانياً، والناس، أين الناس؟ هل تبخروا؟ أم أن الشمس امتصتهم؟ الشوارع خالية من المارة، من الحيوانات، من الحياة، هل قامت الساعة؟ أم ماذا؟ تأمل كيف يختطف البرق رائحة الصيف؟ وكيف يختطف الرعد أنفاس الربيع؟ حدق معي، هل ترى الدهشة المعقودة على غرة السحابة المارة بين فصلين مندمجين على نقيض الوجود؟ الشوارع تضيق، تختنق، تمد أذرعتها كإخطبوط خرافي على ذاتها لتعصر مساحات امتدادها السابق، تتشابك الأذرع وتلتحم لتلتهم المسافة الفاصلة بين الأرصفة والجدران التهام الليل للنهار، الأزقة تتسع وتتسع لتأكل مساحات الشوارع والأرصفة والميادين، تمتد بوحشية مغرقة في المسافات والمساحات والفواصل، ترخي أهزعتها وسدفها على نقاء النهار وسطوعه.
عليك أن تدرك الانقلاب القادم، التغير المستبد، اللون الراحل، العيون الخادعة ما عادت تجدي شيئا، التبدل يفرض نفسه واقعاً فوق محيط العقل والذاكرة والإدراك، فان تأخرت عن الرؤية ستفنى، تتلاشى، تتبخر، تذوب في غياهب لا يمكن الخروج منها أبدا.
تقدمت نحو النافذة وأرسلت بصري، الأشجار والأعشاب لا زالت تزدهي بخضرة رائعة فياضة، الشوارع واسعة تغص بالناس المنتشرة في كل مكان، والحيوانات تتراكض وتنتقل من حائط إلى حائط، ومن زقاق إلى زقاق، السماء رائقة الزرقة، والبحر يرسل أنفاسه للهواء فتتعالى رائحة الأصداف والطحالب والمرجان، الصيف يغزو الأجواء، فلا برق ولا رعد، ورصيف الشارع لا زال على حاله يستقبل المارة والأقدام والأحذية.
"كل شيء على ما يرام"، اليوم أنا من يقول ذلك، وهذا انقلاب خطير، فطوال أيام عمري كنت ارفض مقولته بان كل شيء على ما يرام، كنت اخبره بان لا شيء على ما يرام، لكنه لم يسمع كلامي، بل كان وكأنه لا يملك سمعاً حين كنت اخبره احتجاجي على جملته المعهودة، حتى جاء اليوم الذي انقلبت فيه الأدوار، وانقلبت فيه الأقوال.
عدت للنظر إليه من جديد، السهوم الشديد متمكن من كل مساماته، والغرق بالحالة الاستثنائية التي لفته منذ الصباح تحيط بكل جوارحه وسكناته، عرقه يتجدول فوق جسده، وشعر لحيته نبز مرة واحدة فبدا كالإبر المزروعة على خديه، تكثف شعر الحاجبين، وبدت التجاعيد تتوالى على جبينه، ترهل جلده وتحرشف، تقوس ظهره وخارت عضلاته، ومرة واحدة طقطق الشيب في كل شعره، أصبح طللا عرته عوامل الزمن من حيويته وبريقه.
قلت: توجه نحو المرآة لترى من أنت، استغرب كلماتي، لكنه توجه وحدق، أدار بصره نحوي وهو يسأل بانشداه غريب: لماذا تبدو كعجوز هرم؟ صعقت، توجهت نحو المرآة وحدقت "كل شيء على ما يرام" قلت. لكنه لم يستطع أن يفهم الفرق بين هذه الجملة وبين ما كان يقول هو قبل التغير الذي مسه، ولأول مرة أسمعه يقول:- "لا ليس كل شيء على ما يرام"، لقد تغير شيء ما، فأنت تبدو لي مختلفاً عن كل الأيام الماضية، الأشياء كلها اكتست بألوان جديدة، وحلة غير معهودة، هناك فاصل بين الماضي والحاضر، تماما كالفاصل بين المياه العذبة والمياه المالحة، خاصية التوتر السطحي انتقلت لتدخل أعماق النفس البشرية، بل وأعماق نفوس الأشياء والحيوان، أمر ما، أو أمور ما تغزو الحياة والروح، تقتحم المشاعر والأحاسيس، تهاجم السكينة والهدوء، تستل الإنسانية والآدمية من الإهاب البشري استلال الموت للروح، هناك أشياء تحدث، تتغير، تتبدل، تتلون، ولكننا لا نستطيع إدراكها أو فهمها، لا نستطيع تحديد ملامحها، تسير في أعماقنا بسرعة البرق والصوت، نرتج ارتجاجا هائلا، لكننا لا نسقط فوق الأرض، بل نسقط في ذاتنا، وتسقط الذات فينا، فنشعر بالعجز، بالشلل، بالكساح، بالغوص في الطين إلى حد الرقبة، نطلب الموت، فيأبى الاقتراب منا، نشعر بتآمره علينا وكأنه جزء من المتغيرات، نحاول رفع أنفسنا من هوة الطين، تتآمر الأعضاء التي نحملها كجزء من جسدنا مع كل شيء، تمتلئ النفس بالغضب، تمور بالتوتر، تتفجر فيها كل ملامح الحنق، تترجرج كل التقلبات كموج جبلي القوة والاندفاع، نحس بأننا لا شيء على الإطلاق، نقول: "لا، ليس كل شيء على ما يرام"!!
اقتربت من النافذة من جديد، كنت أعرف مسبقا باني لن أشاهد الأشياء على غير العادة، لكن كان لكلماته وقع شديد في روعي، وقع لا يمكن تحليله وشرحه، هو شعور أعطى كلماته حقيقة واقعة، والنبرات التي كانت تخرج، كانت ذات موسيقى هائلة في النفاذ إلى أعماق الوعي، وحتى الحركات المرافقة للكلمات والنبرات، بدت وكأنها حركات جديدة على الكون، لها رموز وطلاسم سحرية تقود العقل نحو الاقتناع بان التغير الذي حصل حقيقة لا بد من التسليم فيها، حدقت، فوجدت الاختلاف قد وصل كل شيء، وان التغير ابتلع الماضي كله كابتلاع الأرض كنوز قارون.
عدت للنظر إليه، بدا لي أن التغير لم يصل إليه، كان يقف ثابتا فوق الأرض، ملامحه هادئة تمام الهدوء، أخبرته باني شاهدت التغير الذي اخبرني عنه، دهش دهشة مفاجئة، نظر من النافذة، عاد للنظر لي من جديد، ليس في عينيه ما يدل انه فهم كلمة مما أقول، وقال: "كل شيء على ما يرام". صعقت، وكان تياراً كهربائياً اقتحم كل أجزائي مرة واحدة وبقوة هائلة، ارتجفت ارتجاف الجسد المضروب بصاعقة تلف الزمان والمكان، صاعقة كونية غريبة الوميض والقوة والتأثير، ذهبت نحو النافذة من جديد وأنا أحس برعشة تغزوني، لكنها رعشة عذبة الألم والعذاب، حدقت من جديد، اندهشت، ما يحصل اغرب من الخيال، اغرب واكبر من أن يصدق، التغير الذي شاهدته اختفى تماما، لم يعد له أي وجود، كل شيء عاد وفي لحظات بسيطة إلى أصله، الشوارع والأرصفة والسماء والبحر والحيوانات كلها عادت إلى طبيعتها المعهودة، حتى هو عاد إلى طبيعته وبساطته، ما الذي يحدث، وكيف تنقلب الأشياء وتختلف؟ ثم تعود إلى سابق عهدها وشكلها؟ وكل هذا يتم بلحظات قصيرة، قصيرة جدا، لا تتساوق أو تنتظم مع حجم التغير.
نظرت إليه من جديد وقلت:- الم تخبرني أنت برؤيتك للتغير أولا؟ الم اطلب منك أن تشاهد نفسك بالمرآة؟ الم تقل اليوم ولأول مرة في حياتك " لا ليس كل شيء على ما يرام " فكنت أنت أيضا جزءا من الانقلاب؟ كلماتي كانت تستفز اندهاشه مني ومما أقول فقط، لكنها لم تكن تبدي أي قبول أو استيعاب لأمر قد يكون مر عليه قبل لحظات أو سنوات. ابتسم ابتسامة المنتصر، ابتسامة من لا يود أن يقول للواقف أمامه أنت مجرد مجنون لا غير. نظر إلي بإشفاق وقال: المشكلة يا صديقي لا تكمن أبدا بالعين، فالعين خادعة، تظهر لك الأشياء على غير حقيقتها، فهناك مثلا عمى الألوان، وهناك السراب، والعين تقول بان العصا الموجودة في الماء مكسورة، وتقول بان حجم النجم والكوكب لا يتعدى قطعة نقد، وتريك الغيوم متصلة بقمم الجبال، فتخال بأنك لو صعدت إحدى تلك القمم لأمكنك الغوص في عالم السحب والغيوم، ولكن حين تترك العين وتنتقل إلى العقل تعلم حجم الخطأ والخلل، فتكتشف انك كنت تطارد وهما ليس إلا، العين هي الطريق الذي يقودك نحو الخطأ، أما العقل فانه يقوم بتصحيح الخطأ، وما بين هذا وذاك فرق لا يمكن التغاضي عنه أو الانتقاص من قيمته. عاد ليحدق من النافذة من جديد، صرخ صرخة هزت المكان، أدار وجهه نحوي فبدا كرجل حفر النمل في وجهه ثقوبا عديدة، وبرز من عينيه لهيب حارق، مد يده نحو بطنه، فأحسسته يود إخراج النمل من جوفه، استدار تماما نحوي، أراد أن يقول شيئا ما، لكنه وقع على الأرض دون أن ينبس ببنت شفة.
توجهت نحو النافذة، حدقت، كانت الديدان تنغل في الشوارع نغلا، تهاجم البيوت والأشجار والحيوان، تلتهم ما بطريقها، ديدان غريبة تتمدد وتتقلص، تتضخم وتصغر، تتلوى فوق بعضها كثعابين مجروحة، لكنها سريعة الحركة، سريعة بقدرتها على الالتهام، أينما وجهت بصرك تجد أطنانا من الديدان تتحرك نحو الناس والأشياء، استدرت ونظرت إليه وهو مسجى على الأرض، وقعت بجانبه وفي راسي يدور عراك حول سؤال، كنت أتمنى أن يخرج من موته ليجيبني على سؤال أخير، "هل كل شيء على ما يرام"؟ أظن باني سمعته وأنا الفظ النفس الأخير وهو يقول: "العين والعقل، لا ليس كل شيء على ما يرام".
هذه القصة هي امتداد لقصة "ضياع" المنشوره في مجموعة "الموت في لندن".