تحت سماء طهران ـ قصة : زينب عقيل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse30105انها الغرفة 519 في فندق "لاله" الدولي، ذات النافذة المطلة على اشجار حديقة "لاله" العالية، تدخل منها رائحة أديم الأرض، عبر ريح ربيعية محملة بقطرات مطر، تتكثف مع رائحة القهوة اللبنانية التركية التي أعددتها خصيصًا لجلسة مع سماء طهران الماطرة. سماء تلك المدينة التي أهدتني مطرًا قبل رحيلي عنها.
جلست على الكنبة ويد النسمات الباردة تخصل شعري، ارتشف قهوتي العذراء، عذراء الصباح الصامت الا من صوت الغربان القادم من الحديقة. الحديقة التي أدمنتها شهرًا كاملًا وصارت لي فيها ذكريات. قررت أن أكتب إحداها في ذلك الصباح، وأشارك أوراقي قهوة، فقهوة أوراقي الحبر، وقهوة روحي الكتابة في صباح يوم ماطر.
كانت آخر أيام شتاء طهران العام 2014. خرجت الى حديقة "لاله" ظهرًا، في محاولة لتهدئة نهمٍ للجلوس في الطبيعة، وككل الصحافيين لم أكن لأخرج من دون كاميرا لتوثيق كل اللحظات، اذ يحدث للصحافي أن يوثّق ذكرياته أيضًا.
عند مدخل الحديقة طالعتني مجموعة من القطط، كانت عشرة أو أكثر، متحلقة حول امرأة بدت متسولة. كانت ترمي لهم قطع المرتديلا؛ الى جنبها البعيد بقايا وجبة، أولمت عليها الغربان.

بدأت التقاط الصور قبل أن يعطي دماغي أوامر لحواسي بالبدء، وانهمكت في تصوير التفاصيل، وأم القطط توجه إليّ الأسئلة بالفارسية، أخبرتها أنني عربية، فسألتني إن كنت أجيد الإنكليزية، حدّقت بها باستغراب لأكثر من ثانيتين، فكيف لها أن تجيد الانكليزية وهي بتلك الهيئة.
أجبتها: نعم، والتقطت صورة أخرى لقطتين لازمتا قدميّ.
أنت محظوظة، لا تقترب هذه القطط من الجميع؛ حتى أنا تهاجمني أحيانًا.
أنا محظوظة حقًا، لأنني قابلت أخيرًا أحدًا مثيرًا مثلك ويجيد الانكليزية؛ من أين حصلتِ عليها؟
لم تجب.
ثيابك جميلة جدًا، اقتربي مني كي أرى؛ اخلعي السترة.
خلعتها.
يا إلهي كم هي جميلة، من أين حصلتِ عليها؟
من لبنان.
هل لديكِ المزيد؟ أريد أن أشتري منك.
اجبتها باحتقار:
ستكون ضيقة عليك، إنها لا تناسبك.
اقتربت منها كي التقط صورة لقطة تمدّ عنقها داخل أكياسها، وما لبثتُ أن خرجتُ من فضاء رائحة تلك المرأة الكريهة.
أخبرتني أنها تدعى أم القطط، وأن اطعامها للقطط يشعرها بالسعادة، فحياتها بائسة، وعندما تشعر بحاجة القطط الى حنانها وطعامها تشعر بأن حياتها تستحق العناء.
قلت قي نفسي: بل عناؤها يستحق الحياة.
كان فضولي يزداد كلما زادت كلماتها، لكن ما الذي جرى على هذه المرأة المثقفة حتى أصبحت في هذه الهيئة، ولماذا لم تجب عندما سألتها عن تعليمها؟ حاولت الالتفاف لأعرف الإجابة.
أنا صحفية، وأنتِ؟
بدوتُ غير مبالية، سألتُها وأنا ألتقط صورة.
سمعت صوتًا بالفارسية.
سلام، كيف حالك اليوم؟
رفعت رأسي فوجدت امرأة أخرى بدت أنيقة.
أم القطط: هذه السيدة من لبنان، إنها صحفية.
السيدة الأنيقة: أهلا وسهلا
أم القطط: انها مهتمة كثيرًا بإطعامي القطط.
السيدة الانيقة بالانكليزية: الا تتعاملون كذلك مع الحيوانات في بلادكم؟
أنا: الناس في بلادي لديهم ما يشغلهم عن اطعام القطط، ينشغلون بإطعام أولادهم أولًا الى حدّ التوتر.
السيدة الأنيقة: وهنا أيضًا الناس متوترون.
أنا: حقًا؟! أنا احسدكم. أعرف ان 60% من الشعب الايراني هم من الطبقة المتوسطة.
أم القطط: يا إلهي! أنت لا تعرفين شيئًا؛ إن النظام يسرقنا.
أنا: بماذا تؤمنين؟
السيدة الأنيقة: أفضل أن أكون زرادشتية.
اذًا أنت زرادشتية.
لا، أنا مسلمة وأفضل أن أكون زرادشتية.
وما الذي وجدته هناك، وعلى أي أساس فضلتِه ؟
أنا لا اقول إن الإسلام ليس جيّدًا، هو جيّد ولكن في حدود بلاد العرب، أما نحن، فحضارتنا الفارسية متجذرة في التاريخ. أصولنا زرادشتية فلم لا نكون زرادشتيين!
ولكن في الزرادشتية يعبدون النار، وعبادة الأشياء كانت للعقول البدائية التي لم تدرك أن الأشياء أعجز من أن تُعبد.
انها قضية حضارة، وليست قضية عبادة.
حرصتُ على ثباتي الانفعالي، حتى أصل الى نتيجة ومنطقٍ معيّنين أبني عليهما تحليلاتي.
كانت أم القطط منهمكة في أفواه القطط ولم تنبس ببنت شفة.
توجهت اليها بابتسامة مزيفة:
وانتِ زرادشتية أيضًا؟
صمتت لحظةً واتّسع بؤبؤ عينيها في لحظتين، تحركت كل تعابير وجهها، الدقيقة منها وتلك التي حفرها الزمن، وأجابت:
يهودية.
بَدَت مدركةً أنها تُهمة.
حسنًا، حقًا! لكن... يا إلهي، لتوي قابلت أحدًا من اليهود. ماذا عليّ أن أشعر الآن؟ هل عليّ قتلها؟ كان ذلك بِكر ردة فعلي اللاواعية، قبل أن أفصل بين اليهودية والصهيونية، وبين اعجابي بالنظام وتفهّمي الرأي الآخر في معارضتها له.
منذ اثنين وثلاثين سنة، كنت أعمل في العلاقات الدولية على أيام الشاه، طردوني من العمل.
وهل طردوكِ من منزلكِ أيضًا؟
كلا، لدي منزل وعائلة.
إذًا لم تبدين وكأنك لم تستحمي منذ شهر؟
لم أستطع ان أنتقم من يهوديتها الا بهذا القدر من الإهانة، بل كان تفريغًا للشحنة السلبية التي تلقيتها عندما اتسع بؤبؤ عينيها. شعرت أن القدر هو أصلًا منتقم لي، فهيئة تلك اليهودية ورائحتها منفرتان أكثر من يهوديتها.
كنت أظنّ انني لا أعرف الحقد، الا أن تفكيري هذا وشماتتي أظهرتا حقدًا - لا شك - موروثًا في أصل جيناتي، ابتداءً من جدي الثالث.
بمزيد من التهكم:
أنا آسفة، ولكن تعلمين أنا صحفية، وأحتاج إلى ان أسأل عن التفاصيل حتى أكتب عن واقع مأساتكم هذه، فلا أستبعد أن يكون النظام سبب عدم استحمامك هذا، وكذلك ثيابك الرثة.
صمت كلاهما، ولا شك عندي أني بدوت لهما ساخرة.
فما الحل برأيكما؟ تقولان إن الشعب الايراني كله ضد النظام، فلم تذهبون الى الانتخابات بنسبة تتعدى الـ 80 في المئة. اذا كان النظام قامعًا للمظاهرات، فما الذي يمنعكم عن مقاطعة الانتخابات؟
وجهت السيدة الانيقة عينيها ارضًا وقالت بتردد:
انهم مجبرون.
استدركت ام القطط الموقف، شبكت كفها على قلبها وقد اعتصرت تعابير وجهها:
الحل هو الشاه، الشاه، الشاه.
انتهت جلسة التصوير بنفاق متبادل:
سررت بالتعرف إليكم.
وأنا أيضا
وأنا أيضا
توغلت الى عمق الحديقة نحو محمية شجر السرو الشاهقة المليئة بالغربان. توقفت لشراء كمية من الفستق الحلبي، أوهمت البائع بأني خرساء لا أتكلم، ولا ادري لماذا فعلت هذا. ثم حددت مقعدًا في عمق المحمية وجدتني مسيّرة اليه، جلست عليه متربعة. لم أجد رغبة في تناول الفستق. استلقيت على المقعد متوسدة يداي. ذهب بصري عميقًا في تشابك اغصان الأشجار، وذهب عقلي عميقًا في منطق الأشياء. انتهيت في نقطة دائرة مفرغة، لم يكن ذلك اللقاء محورها طبعًا، بل كان محورها هو الله.
انتهى ارتشاف اوراقي للحبر مع آخر رشفة لي من قهوتي. بدا ذلك اللقاء مع اليهودية والزرادشتية أيضًا هدية من طهران. مدينة أكلت من شوارعها، وركبت باصاتها وقطاراتها، وارتدت معارضها وزرت أولياءها، وجلست في أحضان ما استطعت الى حدائقها سبيلا.
آه يا مدينة الجبال والسواقي، من أين لكِ هذه السطوة عليّ.   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة