مريم غادرت ـ قصة : عبد الواحد مفتاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse19075لا أعلم هل ضاقت مريم، أم ضاقت علي كلماتها، حتى أصرخ في وجهها بتلك الطريقة اللابأس في وقاحتها ككلب.. في داخلي حمم تستولي على الكلمات، لم أعد قادرا على وصف ما جرى ..في شفتي قبل تعوي حنينا إلى شفتيها .. فخذيها  أي شيء فيها ..المسافة التي تفصلني الآن عن استعادتها مليئة بالأغصان المحروقة..تمر أوقات وأنا قلق لسبب أجهله. وحدتي هي حريتي الخام التي لا أستطيع أن أحميها من  ذكريات كثيرة ..الآن وقد فَكت سراحها من صباحات عديدة كان الشجار معي عنوانها، شجارات كانت لتتجنبها لو لم تَنسحب في صمت كما فعلت ...شجارات كثيرة لا أنا عرفت كيف أتخلص منها، ولا هي كَفَّت عن مضايقتي، ..كم كانت تقتلني عندما تجعل من الصمت لواءها، وهي تشاهد ذئاب المسلسلات  اليومية في لامبالاة ..حتى القبل التي تَعودنا على وضوح طرطقتها، قبل أن يضيع أثر الكلمات التي كنا بها نهتدي، سقطت بيننا كزر مهمل، لا أتأسف على ما فات، فأنا لم أضَيع مريم ما دُمت لم أحصل عليها..

هي كانت دائما منفلتة ..متماهية ولهفتها إلى أشياء كثيرة، كما لا أحد منا انتبه إلى المصير المباغت، الذي لم يستشر جدول خططنا العديدة التي لن يتحقق منها أي شيء ..كنا على السرير جوعى تنهشهم شريعة الحب، وأتناء النهار نطلق سراح كلمات كثيرة، نُدرِبها على تربية الأمل بيننا، إلى أن حَلت فكرة الجامعة اللعينة في رأسها الصغير والمغفل، ذهبت للتدريس هناك وَجعت رأسي باستعداداتها، وبعدد الفساتين التي كان علي دفع أقساطها، تعاونتُ وبحب، وأخيرا تعاوني لم يعد إلا تعاطفا مملا ومكلفا، بعد ستة أشهر فقط فقدت حماستها.. المحاضرات التي ألقتها هناك لم تلق النجاح الكافي ..كما أن أبحاثها لم تصادف اهتماما كبيرا، حتى كتاباتها في المجلات لم تكن إلا لتَوفية الدَّين لأساتذتها ولزمرة ممن ساعدوها على الحصول على تلك الوظيفة.
أخبرتها مرارا أن الأمر يحتاج صبرا كثيرا، ووقت أطول، لم تكن تريد أن تكون موظفة وهذا كل شيء، ربما أستاذة جامعية بمواصفات نجمة سينمائية، تريد لكتابها اليتيم أن ينتشر بين الناس كالخبز. مُحصلة الأمر كان لها رأي أضيق من ثقب صغير في مؤخرتها،  فقد ظلَلتُ متأكدا أنها لن تعير كبير اهتمام لنصائحي، التي كنت أسددها بمعدلات منخفضة، وبلطف مبالغ فيه ..ولا فائدة. 
الجلوس وحيدا لكتابة هذه القصة، هو ما يجعلني أكتشف مناطق أخرى في جسد الحب، هذا الفضاء المفتوح الذي لولا هذه الفتاة الرحيمة ما كنت لأختبره ..هي الآن ندمت على ما كانت وتبرأت مما فعلت ..لم تكن القادمة إلى حياتي الجديدة واضحة بما فيه الكفاية، وإن كان وقوعي في الحب فاجأني كما فاجأ جميع معارفي، فإن وصول مريم إلى قلبي، عن طريق حيل كثيرة ابتكرتها لتزعزع نظرتي الثابتة عن جميع بنات حواء، جعل أفكاري تتعثر في كثرتها، الحب الذي لم أكن لأختبره من قبل، كان كريما أكثر من نهدي نجلاء اللذان لم يملا يبهجاني كل ليلة، داخل غرفة السطح الصغيرة، التي تصير مضغوطة بلهاتها، طالما أحسَسَاني بسعادة جشعة ..الحب مختلف، مفعم وأكثر امتلاء ..شيء يجعل حياتي تتبختر في رنينه.
إن أي تفسير لما جرى لي مع مريم، يجب أن يرتبط ربطا وثيقا، بين طريقة تفكيري القلقة وتجاربها المؤلمة،
ونتيجة لهذا الاحتدام، جاء حبنا لا يشبه قصصه في معناها، فقد جَعلَت من احتراسها المبالغ فيه، حربا لا هوادة فيها، على كل مغامرة أبتغي فيها قفزة جديدة في حياتنا، في حين ظلت تشهر مخالب التعنت والأنانية حول أي محاولة مني لتقاسم الرؤى لما تحاول أن تكون عليه. 
وفي نهاية الأمر كان الوضع واضحا لديها، إما حياة أفضل (تستحقها) على حسب ما قالت، أو الرضوخ معي تحت سيادة استهلاك القُبل، كمفجر للطاقة اللانهائية التي تسكن كل واحد فينا ..حاولت كثير تجنب ما وقع: دافعت عن حياتنا المشتركة بكل ما استطعت وأنا ألملم انهياراتها المتوالية، سمحت في حقي كثيرا في الأيام الأخيرة، رغم كلا شيء، كان يؤلمني منظر المساء، جسدي الهارب من أفكار كثيرة تَطن في رأسي، يجلس بمحاذاتها يتمسح بها ككلب، ليتناغم مع جسدها في ود، قبل أن تصبح أوهام هذا الجسد أيضا محط اتهام، فهو طوال ما لم يسمح لي بتحرير الجرأة لمواجهة الواقع، والنظر بعينين واضحتين لهذه السيدة، التي انتهت إلى جر حقيبتها إلى ما لست أعرف ..عبثا بحث عنها..من كانت تعنيني أصبحت مستقلة بذاتها.
توقفت عقارب الساعة تماما.. لم أعد أقوى على الرؤية إليها أو سماعها واشتعلت عقارب حيرتي.
لا قدرة لي على الركض في المسافة الفاصلة بين زمن عشناه وما أعيشه الآن ..وحيد كقط، هذيان حقيقي. ها أنا أجلس مرة أخرى لأسترجع أخطاء كثيرة، اعتقدت أنها ضرورية، من أجل خلق توازن يلتهم بعض مساحة الرومانسية المفرطة التي كانت تغرق حياتنا فيها.. أن أقبل مواجهة نفسي معناه استحضار الوضوح المطلوب بدون تردد، فالكلمات العذبة المتماسكة التي كنت أوزعها هنا وهناك، على كل من يسألني عن رحيل مريم لن تنفعني.  أن أقول أني أخطأت ضيعتها ..أن أضرب رأسي بالحائط، كل هذا لا يساوي شيئا أمام منظر المساء عائدا إلى البيت، عيناي تَغرورِقان، تستبد بي رغبة ملحة في الإنتحار، في تَلمُظ حجم الوقاحة التي أعيش داخلها ..الوقاحة تُطوقُني تُكونني ..محض وقح بليد ..طفل لا يعرف ما يصنع بنفسه ووقته.. يداي تتخشبان ترتجفان.
إن الوحدة الشديدة التي أعيشها، جراء التخلي غير المبرر التي اقترفته مريم في حقي، هي كامل ما استحق، فعيشنا المشترك الذي حاصر حريتي هو من عمم الحب على أرجاء حياتي – كان علي أن أتمسك بها أن أركع وأقبل رجلها. صحيح أيضا أن حريتي في اختيار ما أتناوله على وجبة الغداء يضل مبدئي في الحياة السابق على كل مبدأ سواه، كيف كان علي يا ألله، أن أقبل كأي فأر للتجارب، أن أكل كطفل طبقا لبرنامج أسبوعي مسطر، حفظا لرشاقتها والحمية التي خَطتها لي بإستراتيجية جنرال بجمجمة ماكرة ..أعلم أن مرض السكري يلزمه انتباه جيد، لكن ليس أن يصير الخوف من تداعياته رُهاب يُكبل كامل مساحة الطاولة، لا أكل إلا بمقياس ..ميزان وأدواته، عناد وهي تأمرني أن أستسلم لهذا الحب القاسي ..وااه كم كانت مشكلة كبيرة، إن تسلل لرأسها العنيد أي نفحة شك، أني أكلت خارجا (مريم مِشكاكة وبعنف) صباحا بعد الإفطار، وكي لا تجذبك أي تنورة ترفرف أمامك، لا خروج إلا بعد
عشر دقائق، لا بأس بعشر دقائق، عشر دقائق لتدعكه بأصابعها وفمها، هكذا تختبر طراوة السائل وغزارته وأني (لن). مهارتها كانت تجعني في ارتباك دائم هل هي شهوتها، أم بطاقة مرور لدَركية ماكرة، تُربي دائما أفكارا غير بريئة برأسها.
أستطيع أن أقول الآن، أن مريم التي ضيعتها بين تلفي لإعداد نهار لائق لنا، ببيت أكبر ومورد رزق أفضل .. (أن أرفع رأسي لمواجهة الحياة، لم يكن ضمن خططي يوما) أشياء كثيرة كانت لتَغفلها ..أشياء كثيرة تعلمتها،  كنت أركض بِرئَة واحدة، حياتي رَكّبتها وما يَتَوالمُ لكلانا، مرارا تجنبت الإحساس بعدم القدرة، كنت أرفع قلبي كراية سائرا ورائها وعافِسا على كل ما سواها.
أبدا لم يكن من الهَيِّن ترك طاولتي الشهيرة بحانة (بتي بوسي) الإدمان خبرته تطوحت في دهاليزه، كم كان علي أن أتجرع مرارة الأدوية العديدة لطبيب المصحة اللعينة، التي كان علي أن أقضي فيها شهرا منكمشا على نفسي كقرد حقيقي – أحاسيسي التي ازدهرت بالحب كان لها تدمير الكثير داخلي، أن تجعلني عاريا كفضيحة.
أنا ضعيف وخائر ..عيناي تؤلمانني لدمعتين بهما..مند أكثر من يومين لم تستطيعا أن تسقطا، أحسهما مغروستين كحبتي رمل داخلهما
قلبي يركض: مريم مريم
سأجدها سأستعيدها ..هي الآن هادئة مستكينة ..بيننا كلام كثير ينتظر النطق، قُبل كثيرة (هي تحب سماع طرطقتها) لم نرتكبها
أذناي  يطن بهما صمت يوشوشني ويؤلمني، اشتقت لمشاكستها صراخها الذي يشبه رائحة السجن.
مريم اللعين سأستعيدها هي لي سأستعيدها سأستعيدها (لا نقط للنهاية)


مقتطف من رواية
(مذكرات مهرب مخدرات)
تنشر قريبا

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة