سيدة المقام ـ قصة : محمد الساهل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse14082اللوحة الأولى
لملم ملابسه التي تناثرت على الأرائك مثل الملابس في أسواق الثياب المستعملة، ونفض حَفْنَاتِ الغبار التي تراكمت على الدِّيوَان كما النحل حين يراقص شقائق النعمان، وأودع في زوايا الغرفة شمعدانا مختلفة ألوانه، هكذا صارت الغرفة مثل قاعة أعراس تتراقص في فنائها أضواء متنوعة أطيافها، وصفَّف في المزهرية بمهارة بائعي الورود زهورَ الأُورْكِيد والقرنفل والزنبق التي عطرت الغرفة بأريج نديِّ أزاح عن هوائها ما يعتليه من عفن.


اللوحة الثانية
جلس في الشرفة يدخن سيجارته المسائية وعيونه لا تفارق عقارب الساعة.  "ساعتِي دبَّ إليها الوَهَنُ، لا تترنح من موضع إلى آخر إلا بتثاقل مريب" ردد بينه وبين نفسه. فتح جريدة قديمة كانت تستلقي كجثة هامدة على المائدة مُقلِّبا الصفحة تلو الأخرى بجموح السَّكَارى دون أن يغنم من ذلك شيئا. ألقى بعد ذلك نظرة متلهفة على ساعته كمن ينتظر براءته. "الساعة الآن أنا إلا أنتِ" هكذا هجس في نفسه. أَخَّرَ عقارب الساعة عشر دقائق مُحْتَجّا بأن ساعته تسبق دائما ساعة العالمين، وشد على أصابعه الواحد تلو الآخر يُطَقْطِقُهَا دونما رأفة، أخرج سيجارة من العلبة وأشعلها بعود ثقاب خشبي، نفث الدخان في الفضاء بزمجرة تعكس ما يَرْشَحُ به وجدانه من ضجر وقلق. "لا بد وأن أغزل صُوفَ اللقاء" خاطب سيجارته التي تذرع جيئة وذهابا بين المنفضة وفمه. كان يصطنع الأعذار لسَيِّدَةِ المَقَامِ حين سمع طرقا خفيفا على الباب، دهس السيجارة بارتباك مجلجل في المنفضة التي تحول عَالِيها إلى سَافِلها ثم هرول إلى الباب والعرق يتدلى من جبهته كما رذاذ في سَعَف، فتح الباب ووجهه يُنَدِّهُ بابتسامة مثل فرحة القافلة بواحة عشب وماء.

اللوحة الثالثة
أَودَعَ في قارئ الاقراص موسيقى فرنسية، وهرع إلى الثلاجة فأخرج منها قنينة نبيذ أحمر، وكانت سيِّدة المقام لحظتئذ تقلب صفحات من مجلة أدبية كانت تنام بهدوء الملوك على الديوان الذي تستلقي على ظهره صحون نَقَانِق وفواكه مجفَّفة وأخرى طازجة، دخل الغرفة والفرحة تَثِبُّ من عيونه التي اسوَدَّت أرصفتها كأنها أرض محروقة. لم تنتبه سيدة المقام لدخوله إلا حين رسم قبلة خفيفة على جبهتها، فإذا بها تقوم من موضعها وتضمه إلى صدرها بقوة كما الحمامة حين تحف فراخها بأجنحتها الحريرية، أحس وصدره يتلَحَّفُ لحمها اللِّدَان بخدر خفيف يتمدد في أوردته قامِسا به في مروج من الحُبُور والدِّفء. قَبَّلَ يدها الناعمة كرَطْبَة نديَّة مستوحيا في ذلك تقاليد الغرب في فن القُبْلَةِ. ملأ كأسين بالنبيذ الأحمر بمهارة ساق من حانة بابلية، واستلمت الكأس من يده بابتسامة كشفت عن أسنان مرصوصة كحبات العاج في عنقود وبيضاء كجبال ثلج انعكست عليها أشعة الشمس. تبادلا نَخْبَ اللقاء والحب ثم فاجأها وهي على أُهْبَةِ أن تَكْرَعَ من كأسها بقُبْلَة محمومة في شفتيها اللتين تنتصبان مثل هِلالَين مُورَّدَين.
تَحدثَّا في كل شيء، الأحلام التي تكسرت، والآلام التي لم تندمل، فراغ الساحة مما سمح لأنذال العالم بأن يكونوا قادة وسادة، الرَّداءةُ الرَّحِمِيَّةُ، سَكَراتُ الفن، تصاعدُ الموج الأسود، منطق الطير، السَّوابِقُ العشقِيَّةُ...، كان حديثا بلا ضفاف لا يرسو على مرفئ، كان جَوادَهُمَا في مروج ذاكرة متعبة وفيافي واقع جريح. هَرَقَا نَخْبَ الذكرى وواقع كالليل الطويل. "أَلاَ انْجَلِي؟؟؟" صَاحَا كما غِرَّين.

اللوحة الرابعة
اِرْتَمَيا على السرير كما طفلين يُسابقان ظِلَّهُمَا، توسَّدتْ صدره الذي بَرْعَمَ زغبا مثل زغب الذُّرَةِ، داعب سنابل شَعْرِها القَمْحِيَّةِ، فأحسَّتْ بخدر ناعم يدبُّ في جسدها الملتهب. تأملَ بشاعرية العشاق العُذْرِيِّين وَجْنتَيها المُورَّدتين وعينيها الزرقاوين. "أخشى أن أغرق في هذا المحيط الأزرق وأنا بحار بدون مجاديف وأَشْرِعَتي تآكلتْ في رحلة الشتاء والصيف" أَسَرَّ لنفسه. داعب بسبَّابته شَفَتَيها اللتين زَانَتْهُما الحمرة. تَنَشَّقَ، وهو يُسْدِلُ شعرها الكَسْتَنائِيِّ على وجهه الصَّحْنِي، عطرا فرنسيَّ الرَّنِين. فاجأتْهُ سيدة المقام وهي تنقض على شفتيه تمتصهما مثل حبات الكرز، فأحس برغبة في أن يطويها بين ضلوعه ويهرب بعيدا عن كل المدائن. ودون وعي وهو المَشْدُوهُ بجسدها المَمَشُوقِ فكَّكَ أزرار قميصها الأبيض، كانت ترتدي صَدَّارِيَّة وردية تٌظَلِّلُ إجاصتين طازجتين، مرر أصابعه على الحَلَمَتَين فانتصبتا مثل حَبَّتَي عنب، توسد حضنها الدافئ كما الرضيع. "طفل بشاربين معقوفين يرضع رحيق حب ضيعه كبيرا" حدث نفسه بغِبْطَة الأطفال. وناولتْهُ إجاصتيها فكان يعصرهما في فمه كأنه يهرق كأس نبيذ ذي نسبة عالية من البرودة، كانت سيدة المقام لحظتئذ تتمرغ في موضعها وأَنَّاتها تَتَصَادَى بقوة في الغرفة ثم تذوب. اِرتَمَتْ فجأة على عنقه تحرثه بلسانها وهي تشهق كعَدَّاءَةِ المسافات الطويلة، فصار عنقه أحمرا كأنه على وشك أن يَنْدِمي. تخلصا من كل ملابسهما ما عدا التُّبَان، تأمل ساقيها الرُّخاميين وعَجُزها الممشوق كمنحوتة إغريقية، كان يلهث وهو يعصر ردفيها القمحيين، مرر راحة يده على تُبَّانها الوردي فوجده قد تَشَرَّب زُلاَلَها مثل إسفنجة.

اللوحة الخامسة
كان يسقي حَوْضَهَا ويَقْطِفُ رُمَّانها حين تناهى إلى أذنيه المٌتَهَدِّلَتَين شَخِير كمُواءْ القطط، حِدَّتُه تُرْبكه وهو يضرب جدرانها اللحمية، واصل غير مبال فتح أرضها اليانعة غير أن ساعدا نزلت على صدره بقوة كصخرة حطَّها السَّيل من عَالِ، فاستيقظ من نومه مذعورا مثل طير بلله القَطْرُ. "تباشير زلزال، سُتْرُكَ يا الله" همس في الظلام. مسحَ مقلتيه المتعبتين، تَحسَّسَ السَّاعِدَ التي تستلقي على صدره، لم تكن غير ساعد زوجته التي تقلَّبت من موضعها على السرير. ومن أنفها الحاد كرأس النَّصْل وفمها الفاغر كفوهة مدفع كان ينساب شخير مجلجل مثل صفير سيارات الإسعاف، حرك جسدها بكلتا رجليه لكي تكف عن هذا الشخير الذي يعصف بقلاعه، تحسس تبانه فوجده مبتلا. "آه، بلل لم أعرفه منذ الزمن الرعوي" ردد بينه وبين نفسه. كانت زوجته مُمَدَّدة على السرير مثل المسيح على الصليب، ومن إبطيها اللذين فَرَّخا زغبا بلون الرماد تنبعث روائح عفنة تشعره بالغثيان، فكر أن يقضي بقية الليلة في الصالون لعل سيدة المقام تَتَمَلَّى بطَلْعَتِها البَهِيَّة، غير أن هواجس زوجته التي تتناسل هذه الأيام مثل الطحالب أجهضت فكرته. تأمل وجه زوجته الذي تعتليه شَحْمَتَان تَمُورَان مثل أمواج البحر وبَطْنُها الذي ينتفخ ثم يتقلص مثل نَفَّاخَة في يد أطفال المخيمات. "هي الأيام دُوَلُ، من سَرَّهُ زمان ساءَتْهُ أزمانُ" تمتم بحسرة العائدين من الأندلس. قام من موضعه بحذر شديد لكي لا يوقض زوجته، واستبدل تبانه بآخر ثم استلقى على السرير محتضنا وسادته لعل النوم يُكْرِمُه بحلم آخر جميل.

اللوحة السادسة
تَقَلَّبَ في موضعه ذات اليمين وذات الشمال وزوجته باسِطَةٌ ذراعيها، كان يتساءل في سره عن دلالات حلمه حين ضَرَطَتْ زوجته كما عجلة دراجة حين تنفجر، فاهتز من مكانه مذعورا، حبس الهواء في صدره كسَبَّاح لكي لا يتيح لريحها منفذا ليتسلل إلى خياشيمه، كما عَضَّ أنفه بإبهامه وسبابته كما تُعَضُّ الملابس على حبل الغسيل بمِكْبَس، وهرول نحو الشرفة، زفر مرات ومرات ثم هوى على الأريكة مثل جثة نفضها نهر غاضب. أشعل آخر سيجارة في العلبة، تَنَشَّقَ دخانها بعشق الشعراء العذريين ثم رشف من فنجان قهوة كان يستلقي على مائدة صغيرة، أحسَّ بأن طعم القهوة مِلْتَاث فَسَلَّطَ على فوهة الفنجان لهيب الولاعة، فإذا به يكتشف صرصورا يسبح في قاعها، بصق بغضب ما يحتفنه فمه من بقايا القهوة. "المصائب لا تأتي فرادى" لَهَجَ بغضب. واندفع مزمجرا نحو دورة المياه والظلام الذي يجثم على الممرات يربك خطواته، اصطدم رأسه بِسارِية تنتصب في فناء الدار، أحس بألم حاد في جبهته العريضة. "حَدُّ المصيبة مصيبة أخرى"  أسر لنفسه منتحبا كامرأة ثكلى. حين واجه مرآة الحمام اكتشف رقعة حمراء في وسط جبهته، كانت كتلة من دم تتوارى خلف الجلد، نسي أن يمضمض بعد أن شغل ذهنه بالتفكير في علة غير مكشوفة يبرر بها لزوجته آثار حادثته المرورية. " يا ليتني..." حَالَ الصداع الذي يشق رأسه إلى نصفين دون أن يلهج بأمنيته. عاد أدراجه إلى غرفة نومهما ودوار مجلجل يعصف بقلاعه. استلقى على السرير وهو يشد على رأسه بكلتا يديه. "هذا جزاء من أراد بأهله سوءا" كانت آخر همساته لملائكة الدجى قبل أن تتداركه سكرات نوم عميق.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة