لم تكن هي نفسها عندما فتحت الباب وخرجت، لم تكن تحمل معها مجلتها النسوية وهاتفها الوردي الرائق، حتى عطرها الفرنسي الجميل لا يفوح في الفضاء كعادته، عيناها حمراوان وشفتاها ذابلتان من غير زينة، وجهها شاحب تغطيه سحنة الأموات...
مرت من أمامي في مكان التقائنا المألوف كأنني غير موجود، لم تنظر قط نحوي كأنها لم تراني، ابتاعت باقة ورد كبيرة، فازدادت حيرتي؛ الورود في قاموسي رمز الفرح والسرور وحالها ليس كذلك...
همست لها وهي عائدة بكلمات جميلة، فالتفتت نحوي في ذهول. حدقت بي شاردة الذهن للحظات حسبتها الدهر حتى كادت نظراتها تخترق فؤادي، تسللت قطرات العرق الباردة فوق جبيني، وأحسست بأن الجميع يراقبني، وبأعداء التضامن الطبقي يشمتون بي ويتبجحون بصحة نظرياتهم حول حتمية الصراع الطبقي. ثم ركبت سيارتها وذهبت من غير لوم ولا عتاب.
لعلي ضالع في حالتها هاته، ربما أزعجتها من حيث لا أدري، أو لم تعد تحب قصص البؤس التي تلون كل كلماتي رغم جهودي المضنية لإخفائها. لا بد أن في الأمر سرا ؟. ماذا يمكن أن يعكر صفو حياتها الباذخة إن لم أكن أنا السبب؟؛ ذلك الوباء الذي لوث حياتها المطمئنة. الأموال تصنع السعادة وهي تملكها، الجاه أيضا، المكانة.. ربما معرفتي بها لم تعد تروق لها بعدما خبرت جوانب التعاسة حولها وداخلها، ولم تعد ساحرة كما بدت لها عند لقائنا الأول في المحطة عندما سألتني عن موعد القطار، وطال بنا الحديث وبسطت أمامها معرفتي في الثقافة والفكر، وكانت تلك ضربة حظ...
سأذهب بدراجتي هاته، وأتقصى الوضع، وأعرف سر الورود المنتقاة بعناية فائقة، كأنها هدية ذكرى زواج سعيد أو عيد حب جميل.
ما بال هؤلاء يتصنعون الحزن بلباسهم الأسود، ويخفون عيونهم خلف نظارات ملونة، وكأن للحزن لونا وشكلا، حتى عطرهم المستورد كئيب. توجهت بسؤال إلى البواب، هل أصيب أحد أفراد عائلة الأنسة بمكروه؟. تمتم بنصف جواب: "بخير"، رغم أن ملامح وجهه لا تدل على ذلك..
-ماذا إذن ؟، بانفعال.
رفع بصره نحوي بتأثر مصطنع، وأجهش بالبكاء، ثم أشار إلي بالدخول من غير تلكؤ كما يفعل عادة. دخلت إلى الحديقة مباشرة، وكانت هذه ثاني مرة أزور فيها هذا المنزل الفخم بعدما دعتني إلى حفلة عيد ميلادها، وتعللت بجميع الحجج وأبدعت كل أساليب التملص والتهرب، لكنها رفضت كل مصوغاتي، ووضعت في جيبي مبلغا من المال لأقتني أول بذلة في حياتي، وكان لذلك مفعول سحري جعلني ألبي طلبها.
مجموعة من النساء والرجال يلتفون حول شيء ما أو شخص معين، يتبادلون نظرات تشبه الحزن والشجن، لكن ملامحهم كانت في الواقع جامدة. تسللت بينهم بلطف، فرأيت الآنسة الصغيرة تضع باقة الورد فوق جثة كلبها المحبوب، وترثيه خير رثاء، وتصدح بخصلاته الكثيرة ومنجزاته العظيمة. تراجعت بخطوات هادئة وركدت بسرعة حتى وصلت إلى أحد أحزمة التشرد في المدينة، وتأملت وجوه هؤلاء الأطفال المشردين البائسة، ثم صدحت بينهم: "ماذا لو خلقنا كلابا للآنسة ولم نخلق مواطنين".