الـعـودة - محمد الشايب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسلم تنم الليل كله.. ظلت مسافرة على متن اللظى، تنتقل بين الجحيمين: الخيبة التي قصفتها هذا الصباح، والذكرى التي شبت نيرانها من جديد. اغلقت الباب والنافذة، تجردت من كل دفاعاتها، واستسلمت رافعة الأيدي، وعيناها تهطل غزيرة، تعرت للسياط والسهام، فتحت أبوابها لجنود الألم، فغزوها، وبات الجسد يتلقى الطعنات، والروح تتشظى.
قالت وهي تشهق: "لماذا قصفتني بهذه القنبلة!؟.. وكيف أواجه غدي وقد وأدت آخر أحلامي!؟..الحاضر جحيم، والحلم حرقته، فكيف أواصل المشي في شوارع الحياة!؟". وغطت وجهها بالوسادة المبللة بدمع سقوط آخر ورقة في شجرة أحلامها، ليعم الخريف، ويبسط سيطرته على آفاق السبيل الذي تسير فيه منذ أن أرسلتها نطفة إلى الممشى الوعر، وزرعتها نبتة، نمت واخضرت بين ضلوع الحجر، فانطلقت سفينتها تمخر عباب الحياة، كلما توغلت، كلما تقوت الدهشة في شرايينها، عظم القلق، وأينعت الأسئلة. وفي زحمة الأيام والامتحانات، انتصبت أمامها كبستان يفيض بالاخضرار، ومعرض آمال جميلة، وعود منغمة، فركبت صهوته، واختطفها من عالم إلى عالم كبطل أحد أفلام الوستيرن..، وأخذ يشق بها تضاريس الفصول. هو من نطفة./ وهي من نطفة./ هو من دار./ وهي من دار تقابلها. والتقت دهشتاهما، وأخذ يسيران، يتعثران، يبكيان، يضحكان، ينامان، يستفيقان، ينجحان، يرسبان، يغنيان، ينتحبان، يتعانقان، يتعاركان، يتصالحان، يتخاصمان.. ويكبران في زحمة الوقت والأضداد، ويقولان تحت الزخات حين يجود بها المطر:



"أمن نطفة يأتي كل هذا الصخب والضجيج!؟". أخذتهما سفينة الرحيل بعيدا، نسفا معا فصولا لا تتشابه ألوانها، وحرقا جنبا إلى جنب سنين شاسعة. وحدتهما أماكن عديدة، وجمعتهما مناسبات ومواعيد لا تحصى. على متن القطار قال لها:"هذا القطار له محطة تجبره على الوقوف، وقطارنا لن توقفه إلا محطة الموت!!" ولم يضحكا، بل أفرغ كل منهما عينه في عين الآخر، وانسكبت اليد في اليد. قالت له أمام البحر:"هذا البحر مهما توسع وامتد تنهيه الشطآن، وحبنا لا نهاية له!!". ولم يضحكا، بل غاصا معا في قيعان التيه العميق. قال لها وهما في المطعم يطفئان الجوع:"أنا إن جعت، ولم أجد أكلا قطفت تفاحا من خديك، وإن عطشت ولم أجد ماء رويت من عينيك". ولم يضحكا!.. أطلقا زفيرا، وتوغلا في السكوت. قالت له، وهما يسيران في شارع بارد:" أنا إن لم أجد ملجأ أحتمي به من البرد، سكنت بين ضلوعك!!".. ولم يضحكا أيضا!!. قطار الوقت يجري، وهما داخله يحرقان الأوراق، يتبادلان القبلات تارة، وأخرى الصفعات، مرة تهاني رأس السنة، ومرة رسائل اللوم والاتهام، حينا الضحكات الصافية، وحينا النظرات الباردة.. لكنهما كيفما وجدا لا يستطيع أحدهما أن يمحو الآخر من قاموسه، ظلا ملتحمين صامدين، ولم يشعرا بذلك إلا حينما لفظتهما الكلية، بعدما سلمتها شهادتين باردتين، الأولى في الأدب من نصيبها، والثانية في الفلسفة من نصيبه فانقضى زمن وحل آخر. أخذا يطرقان الأبواب، تذهب بهما رياح وتعيدهما رياح. أكملا قاموسا في الحياة، وفتحا آخر، انسحبت كلمات، وظهرت أخرى، أخذت تؤثت حديثا جديدا بينهما:

-   لقد تعبت من البحث عن عمل.

-   لست بأحسن حالا منك.

-أنا لم أعد أحتمل هذا الجفاف..!!  - وما العمل.!
-  قررت أن أهاجر.
- تهاجر!؟ إلى أين؟

- إلى أي بلد وراء البحر!!.
-  وتتركني..!؟-  سأترك الجميع.

-  أبهذه السهولة تنسى كل شئ..!!

-   لن أنسى شيئا، سأعود إن اجتزت البحر بسلام بعد عام أو عامين، لأنقذك من هذا البؤس..
قالا هذا الكلام الجديد، ثم افترقا صامتين. وبعد أيام قلائل انسحب من الحي، ولم يعد له أثر: "كأنه لم يقف بين الأقران حول العمود الكهربائي، أو قرب عربة بائع الزريعة والكاوكاو والسجائر، كأنه لم يجالس أحدا في المقهى المقابل للنافذة.. كأنه لم يمر من هنا أبدا، وكأن الخطوات لم تختلط، كأن كل شيء كان حلما!". هذا ما رددته في صمتها وهي تعبر الشارع وحيدة، غارسة جسدها في جلباب أسود، وتمشي بخطوات مقيدة بالقلق القابع في الرأس مرسلاً خيوطه عبر كل دروب الجسد. كانت تمشي وئيدة، تطأطئ الرأس، تسبح في صمت، وتطأ شارع الذكريات، كأنها تمشي حافية على جمر. وظل المشهد يتكرر حتى نال منها صدأ الزمن، لكن حلما ما كان يطفو على سطح الذاكرة، يهب كالنسيم على القلب الملتهب بصهد الوقت، فيطفئ بعضا من النار:" أحقا إنه مضى.. سرقته سراديب الأيام بعيدا.. لكنه وعد بأن يعود.. والعودة أمل جميل، بل مطمح قادر على تضميد الجراح، وعلى إشعال مصابيح الحياة مجدداً..أعرف أنه ليس من الذين يخلفون الوعود، لكني أعرف أيضا أنه البلسم الوحيد، لهذا يكبر الخوف...أتمنى أن يبقى في صباغته، فالجسد جف، والحنايا عطشت للحنايا. سنة تمضي وسنة تحل، سنين راحت تنال منها، فيحولها الدهر حسب أهوائه، ويشاء لها أن تشتغل في "تيلي بوتيك1" حيث تناط بها مهمة الصرف، وتركيب الأرقام لمن لا يعرفون ذلك. فتنسى ما لقنته لها كلية الآداب، متاهات المدارس والنصوص، وجه الأستاذ الجامعي الشاكي، الذي يغرق طلبته بالحديث عن وضعه المأزوم، عن مشاكله مع الكراء، وعن الشيخة2 التي استطاعت بغنائها الساقط أن تشيد العمارات.
تنسى كل شئ، تخرج من عالم وتدخل آخر، لكنها لم تنس قط أنها تنتظر..!! شاخ الانتظار، هرم، تقوس ظهره، وليس للهارب من أثر، بل لم يجد حتى بإرسال صوته راوياً أسلاك الهاتف الجافة. تقاعس عن زرع كلمات على البياض، تصلها خضراء، فتنشلها، لحظة، من الخريف الذي شيد أبراجه في القلب، وسرت جيوشه في الشرايين. ولم تغلق نوافذ الانتظار، تركتها مشرعة، والأمل يئن، ويحتضر على حصير البين والعطش، وهي تلحقه بلقاح أبطل مفعوله صدأ الأيام، تتمسك ببصيص، تصارع جفاف الحب وبيداء الوقت، ويظل قلبها يخفق مع كل رنة خاطئة للهاتف، ومع كل خطوة محاذية لساعي البريد. ظلت تلبس نفس الزي إلى أن دق خبر عودته على باب صمتها الليلي العميق، فهرعت إلى النافذة تصارع أمواج الشوق، فتحت النافذة، وزينت ثغرها بابتسامة سالت عذبة صافية، فرأته يهبط من سيارته، ثم يسرع إلى فتح الباب الآخر لتخرج منه، بدلال، امرأة شقراء في سن أمه.
-------
هوامش:

1 - هاتف عمومي
2- الشيخة : في المغرب تطلق على الفنانة الشعبية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة