مدخل:
الكتابة الشعرية هي فعل ممارسة للواقعية والّلغة. والواقعي هو ما يشغله الشاعر في خلق عمله الشعري ، في فهمه الصافي والمباشر للعالم. فالشاعر، في حال من الأحوال ،هو المتحكم في الدوال التي تنساق له. فضلا عن أنّ الكلام الشعري يفتح المجال واسعا أمام حقل إمكانات اللغة، ويتيح انفتاحا ما على المعنى، نحو مظاهر جديدة من الواقعية التي ينجح في اقتحامها. والواقعي ليس بالضرورة الواقعية ، بالرغم من أن أحد تجلياته الكبرى هو تمثّل الأثر القادم من فيض الواقعية . الواقعي هو دائما ما ننتظر ، على حد تعبير (ه. مالديني) وهو يساهم انطلاقا من المرعب أوالعقدي أوالهدم الذهاني psychotique ، أو اختفاء الموضوع/ الشخص المحبوب. والشعر هو الحاجة الملحاح إلى إثبات الكينونة التي تحفز فعل الإنسان. وهو يعكس في نفس الآن نزعة اللاّتحقق التي تقود الأسراب المدحّنة ، وعزيمة التحقق التي تطول الآخرين ممّن يستطيبون متعة النفوذ، فتقودهم رهانات الخطاطة الجوفاء على حساب الحقيقة الكاملة للكينونة الإنسانية.
وباب الشعر ليس لها مزلاج ولا مفتاح . بيد أنه يظل يقاوم من أجل اللاّنغلاق. ولايستطيع ولوجه إلا السّحرة الأبرياء الذين اعتادوا على نار التطهير. ولقد سئل الشاعر الأرجنتيني الكبير (روبيرتو خواروس ( 1925-1995) على غرار الكثيرين ، حول الكنه العميق للشعر ، فأجاب قائلا: (الشعر ميتالغة تعيد الارتباط بواقع ما... هو مخاتل لكلّ شكل تصنيفي ولكل تحقيق منتظم ، لأنه أكبر من الواقع)(2)
ففي الشّعر تمتد فيزيولوجيا الإدراك و فينمولوجيا التجربة الرؤيوية، في أبعادها النفسية وموضوعاتها ها المنفلتة، بين فيزيقا الواقعي وميتافيزيقا المرئي واللاّ ّمرئي ، لتفتح أما م الشاعر منفذا للعبور إلى سيرورات وظواهر ذهانية تعمل لأجل كشف شعرية الواقعي.
إنّ الحدث الواقعي يتم استيعابه في عالم الشعر "عبر" و"من خلال" مقدمات العمل الشعري. أمّا الواقعي/ الشعري فهو ما لايمكن تجليته. الواقعي هو المباغت الغامض الذي يجتاح الأنا ويأسره. وعليه ، فالمباغتة وفق هنا السّمت الباطني، هي عنصر مشارك للكينونة. ويمكن القول أنّ الواقعية تبدأ من حيث ينتهي الحديث عن الواقعي ، إذا ما اعتبرناه سمة تعبيرية ملازمة للشاعر. الواقعية هي المعنى النثري التي يضفيه قارئ الشعر للملمة الشتات المرجعي للتعبير الشعري . ذلك أنّّ الشعر يدعم الحاجة الجذرية للإنصات للآخر، من خلال إشراكه في عوالم الترميز والإيحاء، وإغوائه بمغازلة المتلاشي المجاور للاّمسمّى، وبالتّالي ، حفزه على كشف القناع وفك الحصار عن عزلته الخجولة.
في هذا الإطار من تجاذبات القوى بين شعرية " الواقعي" وواقعية " النثري" تمتدّ أصداء الشجن الذي يحمله هذا العمل الشعري لعبد الحميد الدويب. ذلك الشجن القادم من " الهناك"، من غور المسافات ، لأجل تفجير صوت الكينونة، ومحاولة تلمّسه من بين الأصدا ء .
غير أنّ مفهوم " الصّوت " هنا لا يفرز حمولته فقط على مستوى الشّعري ، بل يبرزها أيضا في النثري ، عبر هاجس التفسير، و الملاحقة الذهنية لمتلاشيات "الأنا"، قصد استنفارها في مواجهة الوضع الاعتباري لمرآة " الآخر". ومن ثمّ فالقارئ لهذه المجموعة الشعرية، ومنذ إطلالة القصائد الأولى ، تفاجؤه محاولات الصّوت الملفوظي (صوت الشعر) الالتفاف حول اللغة والرموز، والإحالة على الواقع والفضاء ، بغية تكسير طوق الصمت الذي يلفّ " الكينونة " ومنحها في المقابل صّوت الانبجاس والتكشّف وتحيين معنى الوجود.
وعلى ضوء هذه الثنائية الناظمة لبنية الصوت الشعري يمكن ترتيب نصوص الأضمومة في صنيفين رئيسين: الأول يختص باللوحات ( همسة الريح –رقصة خذاء – كؤوس الليل – لوحة – صورة - ، أما الثاني فيشمل الاعترافات ( عابرة الحي –نقش - كحل عينيك – حلم – حرف بداية- إلى صديقي ...- تمودا- مملكة الأسماء) . ويمثل كلا التصنيفين عالمين متمايزين : عالم الخارج ، وعالم الداخل. ولو أنّ بين العالمين تواشج وتكامل لا يمكن إغفالهما على مستوى تقاطع الزمنين " الواقعي " و" الكوني"، تتجلّى أصداؤه في عنوان المجموعة. والعنوان ، حسب جنيت ، هو الوسيط الأنسب بين النصّ والقارئ .و يهيمن التّصنيف الثاني إذا ما وضعنا في الاعتبار عدد القصائد التي تمثله. وهو يسعف بإبراز الطابع الغنائي و السير ذاتي للمجموعة، ويعكس احتفالية الشّجن الشعري المنفتح على الواقع . كما أنّه يستجلي شعرية الغياب في منحاها إلى ترفيع حالة الكظم النفسي وتهيئ القدرة للكينونة كي تخترق الصوت الأوحد وتدرك مقامات البرزخ العلوي .
1. بين الموسيقية و الرؤيوية : في هذه المجموعة تبدو أصداء التقابل والمواجهة بين الموسيقية والرّؤيوية ، أي أنّ التجربة الشعرية تتوخى وضع الرؤية في مواجهة الموسيقية ، إرادة التدقيق في مواجهة فتنة المنفلت ، والبيت الجبار البسيط في مواجهة العبارة المألوفة. فنحن هنا إزاء هذا التواشج الإبداعي ، نخال أنفسنا أمام صورة الشاعر الملهم الذي يتحكم في زمام الملفوظ الشعري، ويحسن الغوص في مسالك الوجدان. والاستحقاق الأكبر الذي يناله الشاعر في هذا الموقع، يتمثل في الجرأة والاقتدار على تلطيف الكلام الشعري، وتصفيته من شوائب النثرية الفجة الموغلة في التلبيس والتعتيم الذي قد يحسبه البعض معادلا طبيعيا للتجريب في قصيدة الشعر الجديد. وقد ينظر لهذه الشعرية التي تستقطر الشعور الذهني قبل أن تلحقه بفسحة الخلق الشعري على أنها سذاجة. لكن المسلّم به هو أنّ الشاعر الذي يتحكم في معركة الشعر ويواجه كونه الفسيح بالبساطة والفطرة والدربة يستحيل أن يكون ساذجا. وربّ سّائل يتساءل ، أنّى للشاعر مثل هذا التحكم، و كيف تسعفه تلك الدربة ؟ ولعلّ الإجابة عن ذلك تكمن في الاقتدار على تحقيق التوفيق و الموازنة بين موسيقى العبارة وإيقاع البنية في تجلياته الموسيقية والشعورية والذهنية . الموسيقى باعتبارها معرفة جمعية تتضمن علم العروض وتحيط باستعمال قواعده بالقدر المتناسب مع توجهات التجربة الشعرية الحداثية. والإيقاع باعتباره عزفا منفردا يناسب الحجم الطبيعي لسيرورة الدفق الشعوري والنسق الذهني المهيمنين على كنه التجربة الشعرية.(3)
وقد سعى الشاعر على امتداد القصائد إلى موازنة هذين البعدين ، على الرّغم من غلبة الوازع الموسيقي في مجلاه العروضي . و ساعده إيقاع العواطف والمشاعر وانتظام الخواطر في تجاوز كثير من عقبات التشكيل الإيقاعي ، كما سيتم رصده لاحقا. مما ضمن لهذه الأصداء الوصول إلى القارئ في دفقها الفطري من غير كلفة أو افتعال.
الإيقاع ينحو إلى التكامل مع الموسيقى في هذه المجموعة الشعرية ، على الرغم من أن الحدود الفاصلة بينهما غير محسومة بالشكل النهائي. فالهاجس الإيقاعي قد يتحكم في الهاجس الموسيقي بالضرورة. وبالرغم من أنّ تحديد مفهوم الموسيقية يقوم على تشغيل مرجعية الأوزان العروضية التي تسودها سمات النمط ، ومن أنّ الإيقاع هو بمثابة العزف المنفرد الذي قد يستقيم أحيانا على بعض مكونات النمط دون غيرها كما في هذه المجموعة ، أو يغفلها جملة وتفصيلا عن علم ،وهو شأن القليل ، وعن جهل ، وهو شأن الكثير ، فإن قصيدة النثر اتجهت في نهاية المطاف إلى تفعيل قانونها الموسيقي الخاص النابع من حركتها الداخلية وضراوتها البنائية .
ولعلّ تبصّر الشاعر بهذا القدر من الحرية في التوزيع الموسيقي الذي تحتمه التجربة الشعرية من الداخل هو الذي دفعه إلى توظيف نظام" التفعيلة" باعتبارها وحدة موسيقية وإيقاعية من شأنها أن تعيد للشّعر الرّونق و الألق و قوّة النسغ . لذا نجده حريصا على توظيف التقابل الكمي للحركات والسكنات ضمن نسق متجانس يمنح للتعبير الشعري لذة الكتابة والقراءة في آن. وقلما نجد مثل هذا التجانس في محاولات الشعر المنثور التي يكاد بعضها لايفقه معنى للموسيقى الشعرية ولا حتى لمستويات الإيقاع الشعري في حدوده التعبيرية العامة المتحررة من قيود الأوزان العروضية. وعكس ذلك ما تجليه قصائد الزمن الأول. فالشاعر فيها مهووس بهاجس الموسيقى، وقد اختار العزف في هذا الصدد على وحدات إيقاعية مستمدة من أبحر الرجز والرمل والمتقارب والمتدارك لما بينها من تقارب وتواشج نغمي. ولعل عنوان المجموعة أوضح دليل على ذلك : فهو يستقيم وفق هذا التناغع الذي يتيح للنفس الشعري أن يتحرّ ك بحرية ورشاقة وارتياح وسمو، عبر التحكم في أقفال الحركة الصوتية :
شـــــــــــــــــــــــــرود الزمـــــــــــن الأول
فعــــــــــــــــــــــــــولن فعـــــــــــــلن فاعلن
أما على مستوى الإيقاع فقد بدا الشاعر من خلال انسياقه التلقائي نحو تغليب النزعة الموسيقية العروضية ، متساهلا في ترتيب مواقع الإيقاع وتثبيت معالمه، وتشكيل عناصره القائمة على مظاهر التكرار والتنوّع و خصائص النبر والتنغيم .. ومن بين العلامات النصية الدالة على خفوت قناعة التشكيل الإيقاعي النصّي أمام صولة النزعة الموسيقية المسنودة بالنمط ، التساهل في الأخذ بعلامات الترقيم ، في غياب ملحوظ لهاجس تشغيل فضاء النّصّ على مستوى هندسة الأسطر الشعرية، وحضور الحنين الضمني إلى لبيت الشّعري الذي تجسده هيمنة التفعيلة الواحدة في أكثر من سطر، وتركيب التفاعيل المتجانسة في أسطر أخرى.. وكلّ ذلك من شأنه أن يفضي إلى استسهال القفز فوق المعالم الإبلاغية التي تتيحها الأساليب ، وتستدعيها الأنساق التركيبية لتوقيع النبر الشعري. وكمثال على هذا التجاوز، إغفال فصل جواب الشرط الأول عن ذيل جملة جواب الشرط الثاني في هذه الجملة الشعرية من قصيدة رقصة حذاء:
والأرض مربعة قطرها رقصة الكون
من يقاسمني استدارتها
فليكتب الحب على مركزها
قلبا ورديا يلطف عنق الفجر
للعذارى أهديه فردوسا
...كوكبا ليوم العرس ص20
حيث تعيّن الفصل بواسطة علامة الترقيم ، ثمّ بواسطة السطر الشعري المستقل، بين عبارة (أهديه فردوسا ) و لفظة (للعذارى) باعتبارها ذيلا متمما لجواب الشرط الثاني . و من شأن هذا التعديل في التوزيع الطباعي المدعوم بمنطق اللغة و مقصدية الخطاب ، لوأن تمّ حسمه بعيدا عن التفكير في ملمح التدوير وكسر بنية التفعيلة، أن يكفل للجملة الشعرية الكبرى التي تنتمي إليها هذه العبارة / البؤرة موقعا دالاّ في سياق الدفقة الشعورية ، سواء بالنسبة للشاعر أ وبالنسبة للمتلقي . لأنّها أي العبارة، هي كالوعاء الذي يحتمل البنيتين الشرطيتين و يتسع لهما معا . (4)
وبما أن الإيقاع مرتبط بالزمن أكثر من المكان أمكن لشرط القراءة الصوتية ( الإلقاء) للقصيدة من طرف المبدع أن يسدّ بعض الثغرة ، ويساعد على ترتيب النبر الإيقاعي ويحسم وجهته . فالقصيدة في نهاية المطاف، هي عالم منغلق على نفسه ، و معناها يتولد من رنينها الذي يصعب حسمه وتقطيره.
2. تشكيل الفضاء الشعري : في هذه المجموعة الشعرية تسعى القصيدة لتثبيت صلاتها بالواقع وانتمائها إليه، عن طريق الوعي بحدود المكان واستحضار ملامحه المادّية، واستقطار إيحاءاتها الحضارية والثقافية. وهي تنحو لأجل ذلك منحى الحدوس المستبصرة بتحققات الوجدان الجمعي الذي يحيط بالمكان والزمان معا، بحيث لا يكفي النظر إليه فقط من زاوية الرصد الجغرافي بل أيضا في أبعاده الاجتماعية والتاريخية.فالقصيدة من هذا المنطلق تقارب في التاريخ سيرورة عشق المكان، وتستحثّه تجديد الفضاء وإحياء الوهج الرمزي الذي طالما أحاط بالوجدان الجمعي قبل أن يستوطنه النسيان وتحتلّه العتمات. ويلوذ هذا الفضاء بملمحين متقاربين متباعدين للزمن الشعري هما:
الزمن الكوني والزمن الإنساني . الأول له بداية ولكنه لايعرف النهاية ، فهو شكل من أشكال الأزلية لايعرف مرور الزمان ولا الصراع ولا الموت ولا الحدود ، وهو في أبعاده زمان دائري مرتبط بدورات الطبيعة أو بالماضي الذهبي أو بالطفولة أو بالسكون والصمت . فهو في الحقيقة لازمان. أما الزمان الإنساني فهو الزمان الاجتماعي والتاريخي والمادي ، هو الزمان الذي نعيش فيه ونتعرف من خلاله على الصراع والأفراح والحدود، وهو ذو بداية ونهاية . ولذا فهو يأخذ شكل خط مستقيم. والزمان الإنساني مرتبط بالحاضر وبعالم الخبرة وبالمدنية ، وهو الزمان الذي تتحقق أو تجهض فيه إنسانيتنا.(5)
ومن هذا الفضاء الرّحيب تتولّد الصور المحملة بالدهشة إزاء العالم ، كي تستنفر في الأنا فيض الأحاسيس وتلفها بأسئلة الكينونة العميقة ، ومنها سؤال الاغتراب والضياع. والشاعر في احتفاله باستحضار الفضاء، ينجرّ بوعي منه أو بغير وعي إلى التعبير عن قضايا واقعه، من منطق الرغبة في كشف ( هاليبتوس) الطبقة الثقافية التي ينتمي إليها.(6)في محاولة لترجيح كفة التوازن لصالح الرأسمال الثقافي في صراعه اللامتكافئ مع الرأسمال الاقتصادي الذي بسط نفوذه على الواقع وعلى منظومته القيمية ، حتّى صارت علاقة الإنتاج هي التي تحدّد قيمة الهوية والانتماء إلى المكان. من هنا يصبّ الشاعر رؤيته الواقعية في المكان التاريخي ، متنقلا عبر نتوءاته الراسخة في أديم الذاكرة الجمعية التي تأبى الذاكرة الشعرية الفكاك من تأثيرها وتبعيتها. ففي قصيدة ( تمودا) تجلو عين ا لشاعر أهم سمات هذا المكان الأثري، وتنعطف من خلاله إلى صلب موقع (تطاون) المدينة ، وتستغرق عبرهما معا في تخوم رؤيوية ملبوسة بسمات العشق لأطياف الزمن الأول، وعلامات الرهبة والخوف والغضب من توثبات الزمن الأخير:
تمودا
يازمردة الكراسي
وقبان الموازين
ياوشاح التاريخ
من جرح الزمن المشلول
يادرب القرابين
" تطاون" الأخرى تنام برج الحمام
تقرأ الأشياء سحرا
عيونا ينابيع على صدر البتول
هو ذا الجسد الصيفي ص 53
عبر هذا المسرب الغنائي الموسوم بالألم يتجه الشاعر إلى تلوين المكان بتلوينات الزمن الكوني والوجودي ، بأن يضفي عليه تشكيلات صورية سريالية تتسم بالإبداع والغرابة:
ليل يقاسمني جدائل الصمت
ويوم يغيب في خجر اللون
القمر مستطيل والشمس مثلثة
والأرض مربعة قطرها رقصة الكون ص 20
فهذه الملامح واضحة في دلالتها على سمت المكان الكوني المندغم في الزمن الوجودي غيرالمحدّد . ويبرز المكان الكوني في أبعد تجلياته من خلال قصيدة ( مملكة الأسماء) ممثلا في القرية الرمز:
قريتنا تسكن الحجر
لا طريق لها
لا طريق لها من بين الرفات
لا أبواب تشرع على الشمس
تنفض السبات
تقرع الوتر
تسابق الطير قبل الفجر
مساء تلوك لحاء الشجر
يغازلها البؤس ص 55
هذا الفضاء الكوني الرحيب الذي يحيط بالشاعر هو في مجلاه الأخير فضاء البؤس
والسقوط .هو فضاء غفل خال من البهجة والحبور ، مليئ بعلامات الهجر والذبول
يهلّ لها الخلق بعد طول صيام
بعد سقوط القمر...
....................
زقاق في الزقاق
يتبرك الموت من شكل الأشياء ص56
نحن هنا إزاء الشعري المتنقل بين الغنائية المظلمة والغوايات المؤلمة لأبعاد المكان والزمان. حيث يأبى أن يباغت النثريّ المتحصل في رداء التأمل والرصد والتأطير. ذلك لأن الشعر خلافا للنثر يوصّل التجربة الشعورية بالوجدان ، ويتجشّم مواربة النثرية المصنّعة المتربعة في ملكوت الذكاء . الشعر له وسائله الخاصة ، وهو يغير من خلالها مباشرة على مملكة الوجدان. وقد يحرص الناثر الكاتب على تفسير أحلامه ، أما الشاعر الملهم فيكفيه امتلاك هذه الأحلام أو الإمساك بها.
الشّعرالمعاصر يبدأ من هنا، من حيث أنّ كل ملفوظ ، مهما اختلف شكله، يثير حول ذاته قدرا من الشكوك. ومعنى ذلك أنه لا ينبغي حصر فهم الملفوظات في الأبعاد الأدبية الصرفة ، بل يجب تجاوزها إلى الارتباط بالواقع ، بما هو علمي و قانوني و فلسفي وديني و سياسي. ومعنى ذلك ، أنه يتعين وضع الملفوظ في الواقعي، ضمن تداعيات اللحظة. وليس العكس ، بمعنى إقحام اللحظة وضغطها في الملفوظ. ذلك لأنّ كلّ خطاب شعري يزعم التلفظ بالواقعي من غير أن يضع موضع المساءلة علاقته بهذا الواقعي ، يؤول إلى خطاب نثري مكشوف . والشّعر هَروب futile لأنه لا يرغب في الشرح والتفسير والوقوف على العلل والمقاصد . ومع ذلك فهو يمتلك اليقين بأهمية ما يتلفظه ضمن عوالم الصّورة والإيقاع . ومن شأن هذا اليقين أن يحرره من قيد الفطرة ونعوت السذاجة، و يفكّ عنه براءة التلفظ. و في سياق هذا المنحى من الالتزام، لا بأس من استحضار روح شاعرا لعروبة نزار قباني من خلال هذه القولة البليغة : ( كل شعر ليس فيه غضب العصر نملة عرجاء). حيث لا يخفى ما تعكسه هذه القولة من تقدير لأهمية تعاطي الشعر مع الواقعي ، في انسجامه مع حركة الواقع والتزامه بعكس قضاياه. ولعلّ ذلك الشأن قد شغل وجدان الشاعر الدويب في مجموعته الشعرية هذه. ولا شك أنّ هذا الرّصد الرّؤيوي المتشبث بامتدادات الواقعي ، قد أغرى القارئ بالرّغبة في المزيد من الكشف والاستغوار لمكامن هذا الصّوت الشّعري في فرادته ، وفي حركاته وسكناته، وفي صخبه وتوثبه خلف أبعاده الأخرى الممتدة عبر ظلال الوجود .
3. تصاديات الصّوت الشّعري : في قصيدة ( كحّل عينيك) تستوقفك هذه الحشرجة البكائية الأليمة التي تستنفر الشجن وتبعث على التأمل في ذلك الكون الفسيح المتشح بسواد الليل ، الذي لا بدّ أن تعبره الأنا لملاحقة الطّيف الأنثوي الهارب :
أغمضي عينيك
فنواح الخنساء
وزرياب الليالي
قصائد من وشاح السماء
عنادل تبكي النيازك الراحلة
على خويمات شاخ منها الوتد
مات فيها اللحن كلمات
يتعثر منها هيكلي العربي
آه..غرناطة الأمد
آه..قرطبة المعبد
أغمصي عينيك
فشرفات الكون قمر على عينيك ص 30
الأنا في هذه المناحة السوداء، مع ما يستشعره من هول الضياع والتلاشي ، تحدوه الرغبة في مكاشفة الذات بلوعة الفقد في أبعاده الكونية السّرمدية ، عبر الذوبان في روح أنثاه ، في طيفها المجنح متعدد الأصوات والومضات.
أسأل عابرة الحي
شرود تلك التي تعرفها
أسألها عن الشمع والمسيل
لا تصمت
‘ن السحاب آت ...
لا تصمت
فشاهدة قبري الزمان
وشرفات الضحى ‘كليل
كانت وكان اللاّ..وكان القتيل ص7
فالأنثى هذه الأبيات تتلبسها صورة ( يوريديس) معشوقة الشاعر الشادي ( أورفيوس) التي فجع بفقدها الأبدي بعد أن لدغتها الأفعى يوم زفافهما الموعود ، فانخسفت بها الأرض إلى العوالم السفلى . وظل يبكيها فوق التلال وينتظر أوبتها المستحيلة على أنغام قيثارته الشجية التي يفجّر نبر إيقاعها مجرى الحياة في الموجودات والأشياء، إلاّ قلب الشاعر الكظيم.
من هنا النبع الصّوتي الشّجي تطلع أول صرخة شعر لهذا الديوان الملبوس بالشّجن في ارتباطه بتصاديات الفضاء الشعري الهارب المنفلت . وفي غصة الوجدان هل يبقى مجال للشك في وظيفة الشعر بالنسبة للنفس الإنسانية المكظومة، في أنه يسهل البوح عن دفق المكنونات الغارقة في لواعج الإحساس البشري . ويمدّ جسور الارتقاء إلى معالم الصفاء الأول الأبدي الذي يبيح لكينونة الشعر أن تتصالح مع ذاتها بعيدا عن تهويمات البريق الأرضي المصطنع الذي يتهاوى كالحطام في بركة الزمن النسبي:
أسأل عابرة الحي
شرود تلك التي تعرفها
أنا العاشق
أنا الحالم برذاذ يفصح عن دليل
أبتدئ من خريف لن يعود
أم من مدينة غلفها العويل
.....
الصوت معركة
لكن الصمت جدار
سأضرب بسيفي عري الزمان
وأفتح صدري لغضب السماء
وألف الأساطير والحكايا
وأنثر التاريخ سمادا لزيتونة النور
ليوم العبور ص 11
هكذا يتبدى الشاعر متّشحا برداء( أورفيوس ) ، عاشق الموسيقى وشهيدها الأبدي. الذي يقوده هيامه بأزلية الصوت وبالمرأة التي أحبّ إلى تجلية الرغبة في استحضار أطياف الموسيقى الكونية التي تذيب فجوة المتناقضات. وفي تماهي صوت الشاعر بأصداء المكان إحالة على فرضية الانصهار في صوت الآخر المشارك في دائرة الوجدان واستصراخ الأعماق بصوت الشعر. ومن هنا ندرك كيف اتّجه الرهان إلى تشكيل هذه البنية الأصواتية وفق إيقاعات السلم الموسيقي الهرموني التي تفضي تعالقاته ، في النهاية، إلى انبثاق نشيد البوح الرهيب الذي تستدرجه هوة الصّمت وبقايا الظلّ إلى أسفل القرار:
لم تكن تلك الموائد
ولا تلك الكراسي إيقونة معلقة
ولا لوحة
قصيدة كانت مصلوبة على باب المدينة
لم تكن مسرحا مغلقا
ولا كتابا مرقوما
ولا سفينة
ظلالا من حقّ البقاء ص 38
وفي المدائن السفلى لا يلبث الصّمت أن يعلن الحنين إلى الصّخب العلوي ، فينطلق الصوت الشّعري هاتفا بحقه في كشف زيف البدايات الذي قد يطال انبلاج الكينونة تحت زيف البريق وتلوين السراب:
أهدت لي أشعارها
تراتيل من أغنيات المساء
ترنيمة تستمطر النشوة
النزق الحالم بشهوة اللقاح
آه.. ياجرح الحنين
انهض من أنقاض حروفي
..................
قلت: أنا الحرف وأنت سرّه
أنا السفر وأنت بهاؤه
أنا التيه وأنت سلطانه
أنا العشق وأنت أنخابه...
ارحلي
فأنت نخب البدايات
نهاية الأسرار متاهة المسافات . ص 40
وحين يتراءى لنا هذا الشجن الشعري تسعفنا الذاكرة بقولة شيخنا الأصمعي:
( الشعر كلّه نكد ، باطنه الشّرّ، إذا دخله خير فسد) فالمفهوم من قوله أنّ باطن الشعر نكد وشرّ، ليس من قبيل الخوض في القيمة الأخلاقية لمضمون الشعر كما قد يجرّ إليه الفهم السطحي ، . بل هو محاولة، سبق بها الأصمعي عصره، في أفق سبر الوظيفة النفسية التطهيرية للشعر التي تسعف قائله ومتلقيه على حدّ سواء. الشعر دافعه التّعب والنكد النفسي الذي لا مناص منه إلاّ بالبوح ومسعى التكشف.هذا هو المقصود بشر الشعر ومقابله "الخير" النثري الذي يتمثل في قيم الوضوح والإبانة الغبطة والارتياح والسلوان ، وهي كلّها بضاعة تصطفيها عوالم النثر الشفافة ، ولكن لا ترضي حاجة الشعر .
إنّ مصدر هذ ا التّعب أو النكد الشّعري على حد تعبير الأصمعي يكمن في اختلاف المطلق الشعري عن حجم عوالم الشعراء . فثقل الشّعر يفوق بأضعاف وزن الشعراء على حد تعبير جورج صاند.لأ نّه في مجموعه ليس عبارة عن قصائد يبدعونها، بل هو سيرورة لا متناهية من التجارب التي تبدأ منهم ثمّ تتجاوزهم بأقدار . وطريق الشعر هو طريق الحياة ، فيه يدرك الشعراء إفلاس الزمن إدراكا واضحا .لأنّه يجرهم نحو الفناء قبل أن يقدروا على السيطرة على طبيعتهم . لكنّ هذه الذوات الفانية تأبى مع ذلك إلاّ أن تظلّ موجودة بقوة .. على الأقل في اللغة.والشاعر حسب ريلكه هو ذلك الشهيد الذي يتألّم كي يخلص عالما متألما.
هوامش:
1.أبو ليلى ، عبد الحميد الدويب . شرود الزمن الأول،مطابع الشويخ . تطوان 2007
Spirale Inkari n° 7, s.d. : « Roberto Juarroz » (Entretiens et poèmes de Roberto Juarroz 2. textes de Michel Camus, Jean-Louis Giovannoni et Roger Munier).
3 . مصطفى جمال الدين . الإيقاع في الشعر العربي ص 45
4 . انظر حديث الدكتور عز الدين اسماعيل عن الجملة الشعرية والسطر الشعري في كتابه: الشعر العربي المعاصر 3 ص120
5. عبد الوهاب المسيري . الشعراء والزمن .مجلة الكرمل . عدد: صيف 2006 ص 94
voir Pierre Bourdieu avec Loïc Wacquant, Réponses. Pour une anthropologie6
réflexive, Paris, 1992
غير أنّ مفهوم " الصّوت " هنا لا يفرز حمولته فقط على مستوى الشّعري ، بل يبرزها أيضا في النثري ، عبر هاجس التفسير، و الملاحقة الذهنية لمتلاشيات "الأنا"، قصد استنفارها في مواجهة الوضع الاعتباري لمرآة " الآخر". ومن ثمّ فالقارئ لهذه المجموعة الشعرية، ومنذ إطلالة القصائد الأولى ، تفاجؤه محاولات الصّوت الملفوظي (صوت الشعر) الالتفاف حول اللغة والرموز، والإحالة على الواقع والفضاء ، بغية تكسير طوق الصمت الذي يلفّ " الكينونة " ومنحها في المقابل صّوت الانبجاس والتكشّف وتحيين معنى الوجود.
وعلى ضوء هذه الثنائية الناظمة لبنية الصوت الشعري يمكن ترتيب نصوص الأضمومة في صنيفين رئيسين: الأول يختص باللوحات ( همسة الريح –رقصة خذاء – كؤوس الليل – لوحة – صورة - ، أما الثاني فيشمل الاعترافات ( عابرة الحي –نقش - كحل عينيك – حلم – حرف بداية- إلى صديقي ...- تمودا- مملكة الأسماء) . ويمثل كلا التصنيفين عالمين متمايزين : عالم الخارج ، وعالم الداخل. ولو أنّ بين العالمين تواشج وتكامل لا يمكن إغفالهما على مستوى تقاطع الزمنين " الواقعي " و" الكوني"، تتجلّى أصداؤه في عنوان المجموعة. والعنوان ، حسب جنيت ، هو الوسيط الأنسب بين النصّ والقارئ .و يهيمن التّصنيف الثاني إذا ما وضعنا في الاعتبار عدد القصائد التي تمثله. وهو يسعف بإبراز الطابع الغنائي و السير ذاتي للمجموعة، ويعكس احتفالية الشّجن الشعري المنفتح على الواقع . كما أنّه يستجلي شعرية الغياب في منحاها إلى ترفيع حالة الكظم النفسي وتهيئ القدرة للكينونة كي تخترق الصوت الأوحد وتدرك مقامات البرزخ العلوي .
1. بين الموسيقية و الرؤيوية : في هذه المجموعة تبدو أصداء التقابل والمواجهة بين الموسيقية والرّؤيوية ، أي أنّ التجربة الشعرية تتوخى وضع الرؤية في مواجهة الموسيقية ، إرادة التدقيق في مواجهة فتنة المنفلت ، والبيت الجبار البسيط في مواجهة العبارة المألوفة. فنحن هنا إزاء هذا التواشج الإبداعي ، نخال أنفسنا أمام صورة الشاعر الملهم الذي يتحكم في زمام الملفوظ الشعري، ويحسن الغوص في مسالك الوجدان. والاستحقاق الأكبر الذي يناله الشاعر في هذا الموقع، يتمثل في الجرأة والاقتدار على تلطيف الكلام الشعري، وتصفيته من شوائب النثرية الفجة الموغلة في التلبيس والتعتيم الذي قد يحسبه البعض معادلا طبيعيا للتجريب في قصيدة الشعر الجديد. وقد ينظر لهذه الشعرية التي تستقطر الشعور الذهني قبل أن تلحقه بفسحة الخلق الشعري على أنها سذاجة. لكن المسلّم به هو أنّ الشاعر الذي يتحكم في معركة الشعر ويواجه كونه الفسيح بالبساطة والفطرة والدربة يستحيل أن يكون ساذجا. وربّ سّائل يتساءل ، أنّى للشاعر مثل هذا التحكم، و كيف تسعفه تلك الدربة ؟ ولعلّ الإجابة عن ذلك تكمن في الاقتدار على تحقيق التوفيق و الموازنة بين موسيقى العبارة وإيقاع البنية في تجلياته الموسيقية والشعورية والذهنية . الموسيقى باعتبارها معرفة جمعية تتضمن علم العروض وتحيط باستعمال قواعده بالقدر المتناسب مع توجهات التجربة الشعرية الحداثية. والإيقاع باعتباره عزفا منفردا يناسب الحجم الطبيعي لسيرورة الدفق الشعوري والنسق الذهني المهيمنين على كنه التجربة الشعرية.(3)
وقد سعى الشاعر على امتداد القصائد إلى موازنة هذين البعدين ، على الرّغم من غلبة الوازع الموسيقي في مجلاه العروضي . و ساعده إيقاع العواطف والمشاعر وانتظام الخواطر في تجاوز كثير من عقبات التشكيل الإيقاعي ، كما سيتم رصده لاحقا. مما ضمن لهذه الأصداء الوصول إلى القارئ في دفقها الفطري من غير كلفة أو افتعال.
الإيقاع ينحو إلى التكامل مع الموسيقى في هذه المجموعة الشعرية ، على الرغم من أن الحدود الفاصلة بينهما غير محسومة بالشكل النهائي. فالهاجس الإيقاعي قد يتحكم في الهاجس الموسيقي بالضرورة. وبالرغم من أنّ تحديد مفهوم الموسيقية يقوم على تشغيل مرجعية الأوزان العروضية التي تسودها سمات النمط ، ومن أنّ الإيقاع هو بمثابة العزف المنفرد الذي قد يستقيم أحيانا على بعض مكونات النمط دون غيرها كما في هذه المجموعة ، أو يغفلها جملة وتفصيلا عن علم ،وهو شأن القليل ، وعن جهل ، وهو شأن الكثير ، فإن قصيدة النثر اتجهت في نهاية المطاف إلى تفعيل قانونها الموسيقي الخاص النابع من حركتها الداخلية وضراوتها البنائية .
ولعلّ تبصّر الشاعر بهذا القدر من الحرية في التوزيع الموسيقي الذي تحتمه التجربة الشعرية من الداخل هو الذي دفعه إلى توظيف نظام" التفعيلة" باعتبارها وحدة موسيقية وإيقاعية من شأنها أن تعيد للشّعر الرّونق و الألق و قوّة النسغ . لذا نجده حريصا على توظيف التقابل الكمي للحركات والسكنات ضمن نسق متجانس يمنح للتعبير الشعري لذة الكتابة والقراءة في آن. وقلما نجد مثل هذا التجانس في محاولات الشعر المنثور التي يكاد بعضها لايفقه معنى للموسيقى الشعرية ولا حتى لمستويات الإيقاع الشعري في حدوده التعبيرية العامة المتحررة من قيود الأوزان العروضية. وعكس ذلك ما تجليه قصائد الزمن الأول. فالشاعر فيها مهووس بهاجس الموسيقى، وقد اختار العزف في هذا الصدد على وحدات إيقاعية مستمدة من أبحر الرجز والرمل والمتقارب والمتدارك لما بينها من تقارب وتواشج نغمي. ولعل عنوان المجموعة أوضح دليل على ذلك : فهو يستقيم وفق هذا التناغع الذي يتيح للنفس الشعري أن يتحرّ ك بحرية ورشاقة وارتياح وسمو، عبر التحكم في أقفال الحركة الصوتية :
شـــــــــــــــــــــــــرود الزمـــــــــــن الأول
فعــــــــــــــــــــــــــولن فعـــــــــــــلن فاعلن
أما على مستوى الإيقاع فقد بدا الشاعر من خلال انسياقه التلقائي نحو تغليب النزعة الموسيقية العروضية ، متساهلا في ترتيب مواقع الإيقاع وتثبيت معالمه، وتشكيل عناصره القائمة على مظاهر التكرار والتنوّع و خصائص النبر والتنغيم .. ومن بين العلامات النصية الدالة على خفوت قناعة التشكيل الإيقاعي النصّي أمام صولة النزعة الموسيقية المسنودة بالنمط ، التساهل في الأخذ بعلامات الترقيم ، في غياب ملحوظ لهاجس تشغيل فضاء النّصّ على مستوى هندسة الأسطر الشعرية، وحضور الحنين الضمني إلى لبيت الشّعري الذي تجسده هيمنة التفعيلة الواحدة في أكثر من سطر، وتركيب التفاعيل المتجانسة في أسطر أخرى.. وكلّ ذلك من شأنه أن يفضي إلى استسهال القفز فوق المعالم الإبلاغية التي تتيحها الأساليب ، وتستدعيها الأنساق التركيبية لتوقيع النبر الشعري. وكمثال على هذا التجاوز، إغفال فصل جواب الشرط الأول عن ذيل جملة جواب الشرط الثاني في هذه الجملة الشعرية من قصيدة رقصة حذاء:
والأرض مربعة قطرها رقصة الكون
من يقاسمني استدارتها
فليكتب الحب على مركزها
قلبا ورديا يلطف عنق الفجر
للعذارى أهديه فردوسا
...كوكبا ليوم العرس ص20
حيث تعيّن الفصل بواسطة علامة الترقيم ، ثمّ بواسطة السطر الشعري المستقل، بين عبارة (أهديه فردوسا ) و لفظة (للعذارى) باعتبارها ذيلا متمما لجواب الشرط الثاني . و من شأن هذا التعديل في التوزيع الطباعي المدعوم بمنطق اللغة و مقصدية الخطاب ، لوأن تمّ حسمه بعيدا عن التفكير في ملمح التدوير وكسر بنية التفعيلة، أن يكفل للجملة الشعرية الكبرى التي تنتمي إليها هذه العبارة / البؤرة موقعا دالاّ في سياق الدفقة الشعورية ، سواء بالنسبة للشاعر أ وبالنسبة للمتلقي . لأنّها أي العبارة، هي كالوعاء الذي يحتمل البنيتين الشرطيتين و يتسع لهما معا . (4)
وبما أن الإيقاع مرتبط بالزمن أكثر من المكان أمكن لشرط القراءة الصوتية ( الإلقاء) للقصيدة من طرف المبدع أن يسدّ بعض الثغرة ، ويساعد على ترتيب النبر الإيقاعي ويحسم وجهته . فالقصيدة في نهاية المطاف، هي عالم منغلق على نفسه ، و معناها يتولد من رنينها الذي يصعب حسمه وتقطيره.
2. تشكيل الفضاء الشعري : في هذه المجموعة الشعرية تسعى القصيدة لتثبيت صلاتها بالواقع وانتمائها إليه، عن طريق الوعي بحدود المكان واستحضار ملامحه المادّية، واستقطار إيحاءاتها الحضارية والثقافية. وهي تنحو لأجل ذلك منحى الحدوس المستبصرة بتحققات الوجدان الجمعي الذي يحيط بالمكان والزمان معا، بحيث لا يكفي النظر إليه فقط من زاوية الرصد الجغرافي بل أيضا في أبعاده الاجتماعية والتاريخية.فالقصيدة من هذا المنطلق تقارب في التاريخ سيرورة عشق المكان، وتستحثّه تجديد الفضاء وإحياء الوهج الرمزي الذي طالما أحاط بالوجدان الجمعي قبل أن يستوطنه النسيان وتحتلّه العتمات. ويلوذ هذا الفضاء بملمحين متقاربين متباعدين للزمن الشعري هما:
الزمن الكوني والزمن الإنساني . الأول له بداية ولكنه لايعرف النهاية ، فهو شكل من أشكال الأزلية لايعرف مرور الزمان ولا الصراع ولا الموت ولا الحدود ، وهو في أبعاده زمان دائري مرتبط بدورات الطبيعة أو بالماضي الذهبي أو بالطفولة أو بالسكون والصمت . فهو في الحقيقة لازمان. أما الزمان الإنساني فهو الزمان الاجتماعي والتاريخي والمادي ، هو الزمان الذي نعيش فيه ونتعرف من خلاله على الصراع والأفراح والحدود، وهو ذو بداية ونهاية . ولذا فهو يأخذ شكل خط مستقيم. والزمان الإنساني مرتبط بالحاضر وبعالم الخبرة وبالمدنية ، وهو الزمان الذي تتحقق أو تجهض فيه إنسانيتنا.(5)
ومن هذا الفضاء الرّحيب تتولّد الصور المحملة بالدهشة إزاء العالم ، كي تستنفر في الأنا فيض الأحاسيس وتلفها بأسئلة الكينونة العميقة ، ومنها سؤال الاغتراب والضياع. والشاعر في احتفاله باستحضار الفضاء، ينجرّ بوعي منه أو بغير وعي إلى التعبير عن قضايا واقعه، من منطق الرغبة في كشف ( هاليبتوس) الطبقة الثقافية التي ينتمي إليها.(6)في محاولة لترجيح كفة التوازن لصالح الرأسمال الثقافي في صراعه اللامتكافئ مع الرأسمال الاقتصادي الذي بسط نفوذه على الواقع وعلى منظومته القيمية ، حتّى صارت علاقة الإنتاج هي التي تحدّد قيمة الهوية والانتماء إلى المكان. من هنا يصبّ الشاعر رؤيته الواقعية في المكان التاريخي ، متنقلا عبر نتوءاته الراسخة في أديم الذاكرة الجمعية التي تأبى الذاكرة الشعرية الفكاك من تأثيرها وتبعيتها. ففي قصيدة ( تمودا) تجلو عين ا لشاعر أهم سمات هذا المكان الأثري، وتنعطف من خلاله إلى صلب موقع (تطاون) المدينة ، وتستغرق عبرهما معا في تخوم رؤيوية ملبوسة بسمات العشق لأطياف الزمن الأول، وعلامات الرهبة والخوف والغضب من توثبات الزمن الأخير:
تمودا
يازمردة الكراسي
وقبان الموازين
ياوشاح التاريخ
من جرح الزمن المشلول
يادرب القرابين
" تطاون" الأخرى تنام برج الحمام
تقرأ الأشياء سحرا
عيونا ينابيع على صدر البتول
هو ذا الجسد الصيفي ص 53
عبر هذا المسرب الغنائي الموسوم بالألم يتجه الشاعر إلى تلوين المكان بتلوينات الزمن الكوني والوجودي ، بأن يضفي عليه تشكيلات صورية سريالية تتسم بالإبداع والغرابة:
ليل يقاسمني جدائل الصمت
ويوم يغيب في خجر اللون
القمر مستطيل والشمس مثلثة
والأرض مربعة قطرها رقصة الكون ص 20
فهذه الملامح واضحة في دلالتها على سمت المكان الكوني المندغم في الزمن الوجودي غيرالمحدّد . ويبرز المكان الكوني في أبعد تجلياته من خلال قصيدة ( مملكة الأسماء) ممثلا في القرية الرمز:
قريتنا تسكن الحجر
لا طريق لها
لا طريق لها من بين الرفات
لا أبواب تشرع على الشمس
تنفض السبات
تقرع الوتر
تسابق الطير قبل الفجر
مساء تلوك لحاء الشجر
يغازلها البؤس ص 55
هذا الفضاء الكوني الرحيب الذي يحيط بالشاعر هو في مجلاه الأخير فضاء البؤس
والسقوط .هو فضاء غفل خال من البهجة والحبور ، مليئ بعلامات الهجر والذبول
يهلّ لها الخلق بعد طول صيام
بعد سقوط القمر...
....................
زقاق في الزقاق
يتبرك الموت من شكل الأشياء ص56
نحن هنا إزاء الشعري المتنقل بين الغنائية المظلمة والغوايات المؤلمة لأبعاد المكان والزمان. حيث يأبى أن يباغت النثريّ المتحصل في رداء التأمل والرصد والتأطير. ذلك لأن الشعر خلافا للنثر يوصّل التجربة الشعورية بالوجدان ، ويتجشّم مواربة النثرية المصنّعة المتربعة في ملكوت الذكاء . الشعر له وسائله الخاصة ، وهو يغير من خلالها مباشرة على مملكة الوجدان. وقد يحرص الناثر الكاتب على تفسير أحلامه ، أما الشاعر الملهم فيكفيه امتلاك هذه الأحلام أو الإمساك بها.
الشّعرالمعاصر يبدأ من هنا، من حيث أنّ كل ملفوظ ، مهما اختلف شكله، يثير حول ذاته قدرا من الشكوك. ومعنى ذلك أنه لا ينبغي حصر فهم الملفوظات في الأبعاد الأدبية الصرفة ، بل يجب تجاوزها إلى الارتباط بالواقع ، بما هو علمي و قانوني و فلسفي وديني و سياسي. ومعنى ذلك ، أنه يتعين وضع الملفوظ في الواقعي، ضمن تداعيات اللحظة. وليس العكس ، بمعنى إقحام اللحظة وضغطها في الملفوظ. ذلك لأنّ كلّ خطاب شعري يزعم التلفظ بالواقعي من غير أن يضع موضع المساءلة علاقته بهذا الواقعي ، يؤول إلى خطاب نثري مكشوف . والشّعر هَروب futile لأنه لا يرغب في الشرح والتفسير والوقوف على العلل والمقاصد . ومع ذلك فهو يمتلك اليقين بأهمية ما يتلفظه ضمن عوالم الصّورة والإيقاع . ومن شأن هذا اليقين أن يحرره من قيد الفطرة ونعوت السذاجة، و يفكّ عنه براءة التلفظ. و في سياق هذا المنحى من الالتزام، لا بأس من استحضار روح شاعرا لعروبة نزار قباني من خلال هذه القولة البليغة : ( كل شعر ليس فيه غضب العصر نملة عرجاء). حيث لا يخفى ما تعكسه هذه القولة من تقدير لأهمية تعاطي الشعر مع الواقعي ، في انسجامه مع حركة الواقع والتزامه بعكس قضاياه. ولعلّ ذلك الشأن قد شغل وجدان الشاعر الدويب في مجموعته الشعرية هذه. ولا شك أنّ هذا الرّصد الرّؤيوي المتشبث بامتدادات الواقعي ، قد أغرى القارئ بالرّغبة في المزيد من الكشف والاستغوار لمكامن هذا الصّوت الشّعري في فرادته ، وفي حركاته وسكناته، وفي صخبه وتوثبه خلف أبعاده الأخرى الممتدة عبر ظلال الوجود .
3. تصاديات الصّوت الشّعري : في قصيدة ( كحّل عينيك) تستوقفك هذه الحشرجة البكائية الأليمة التي تستنفر الشجن وتبعث على التأمل في ذلك الكون الفسيح المتشح بسواد الليل ، الذي لا بدّ أن تعبره الأنا لملاحقة الطّيف الأنثوي الهارب :
أغمضي عينيك
فنواح الخنساء
وزرياب الليالي
قصائد من وشاح السماء
عنادل تبكي النيازك الراحلة
على خويمات شاخ منها الوتد
مات فيها اللحن كلمات
يتعثر منها هيكلي العربي
آه..غرناطة الأمد
آه..قرطبة المعبد
أغمصي عينيك
فشرفات الكون قمر على عينيك ص 30
الأنا في هذه المناحة السوداء، مع ما يستشعره من هول الضياع والتلاشي ، تحدوه الرغبة في مكاشفة الذات بلوعة الفقد في أبعاده الكونية السّرمدية ، عبر الذوبان في روح أنثاه ، في طيفها المجنح متعدد الأصوات والومضات.
أسأل عابرة الحي
شرود تلك التي تعرفها
أسألها عن الشمع والمسيل
لا تصمت
‘ن السحاب آت ...
لا تصمت
فشاهدة قبري الزمان
وشرفات الضحى ‘كليل
كانت وكان اللاّ..وكان القتيل ص7
فالأنثى هذه الأبيات تتلبسها صورة ( يوريديس) معشوقة الشاعر الشادي ( أورفيوس) التي فجع بفقدها الأبدي بعد أن لدغتها الأفعى يوم زفافهما الموعود ، فانخسفت بها الأرض إلى العوالم السفلى . وظل يبكيها فوق التلال وينتظر أوبتها المستحيلة على أنغام قيثارته الشجية التي يفجّر نبر إيقاعها مجرى الحياة في الموجودات والأشياء، إلاّ قلب الشاعر الكظيم.
من هنا النبع الصّوتي الشّجي تطلع أول صرخة شعر لهذا الديوان الملبوس بالشّجن في ارتباطه بتصاديات الفضاء الشعري الهارب المنفلت . وفي غصة الوجدان هل يبقى مجال للشك في وظيفة الشعر بالنسبة للنفس الإنسانية المكظومة، في أنه يسهل البوح عن دفق المكنونات الغارقة في لواعج الإحساس البشري . ويمدّ جسور الارتقاء إلى معالم الصفاء الأول الأبدي الذي يبيح لكينونة الشعر أن تتصالح مع ذاتها بعيدا عن تهويمات البريق الأرضي المصطنع الذي يتهاوى كالحطام في بركة الزمن النسبي:
أسأل عابرة الحي
شرود تلك التي تعرفها
أنا العاشق
أنا الحالم برذاذ يفصح عن دليل
أبتدئ من خريف لن يعود
أم من مدينة غلفها العويل
.....
الصوت معركة
لكن الصمت جدار
سأضرب بسيفي عري الزمان
وأفتح صدري لغضب السماء
وألف الأساطير والحكايا
وأنثر التاريخ سمادا لزيتونة النور
ليوم العبور ص 11
هكذا يتبدى الشاعر متّشحا برداء( أورفيوس ) ، عاشق الموسيقى وشهيدها الأبدي. الذي يقوده هيامه بأزلية الصوت وبالمرأة التي أحبّ إلى تجلية الرغبة في استحضار أطياف الموسيقى الكونية التي تذيب فجوة المتناقضات. وفي تماهي صوت الشاعر بأصداء المكان إحالة على فرضية الانصهار في صوت الآخر المشارك في دائرة الوجدان واستصراخ الأعماق بصوت الشعر. ومن هنا ندرك كيف اتّجه الرهان إلى تشكيل هذه البنية الأصواتية وفق إيقاعات السلم الموسيقي الهرموني التي تفضي تعالقاته ، في النهاية، إلى انبثاق نشيد البوح الرهيب الذي تستدرجه هوة الصّمت وبقايا الظلّ إلى أسفل القرار:
لم تكن تلك الموائد
ولا تلك الكراسي إيقونة معلقة
ولا لوحة
قصيدة كانت مصلوبة على باب المدينة
لم تكن مسرحا مغلقا
ولا كتابا مرقوما
ولا سفينة
ظلالا من حقّ البقاء ص 38
وفي المدائن السفلى لا يلبث الصّمت أن يعلن الحنين إلى الصّخب العلوي ، فينطلق الصوت الشّعري هاتفا بحقه في كشف زيف البدايات الذي قد يطال انبلاج الكينونة تحت زيف البريق وتلوين السراب:
أهدت لي أشعارها
تراتيل من أغنيات المساء
ترنيمة تستمطر النشوة
النزق الحالم بشهوة اللقاح
آه.. ياجرح الحنين
انهض من أنقاض حروفي
..................
قلت: أنا الحرف وأنت سرّه
أنا السفر وأنت بهاؤه
أنا التيه وأنت سلطانه
أنا العشق وأنت أنخابه...
ارحلي
فأنت نخب البدايات
نهاية الأسرار متاهة المسافات . ص 40
وحين يتراءى لنا هذا الشجن الشعري تسعفنا الذاكرة بقولة شيخنا الأصمعي:
( الشعر كلّه نكد ، باطنه الشّرّ، إذا دخله خير فسد) فالمفهوم من قوله أنّ باطن الشعر نكد وشرّ، ليس من قبيل الخوض في القيمة الأخلاقية لمضمون الشعر كما قد يجرّ إليه الفهم السطحي ، . بل هو محاولة، سبق بها الأصمعي عصره، في أفق سبر الوظيفة النفسية التطهيرية للشعر التي تسعف قائله ومتلقيه على حدّ سواء. الشعر دافعه التّعب والنكد النفسي الذي لا مناص منه إلاّ بالبوح ومسعى التكشف.هذا هو المقصود بشر الشعر ومقابله "الخير" النثري الذي يتمثل في قيم الوضوح والإبانة الغبطة والارتياح والسلوان ، وهي كلّها بضاعة تصطفيها عوالم النثر الشفافة ، ولكن لا ترضي حاجة الشعر .
إنّ مصدر هذ ا التّعب أو النكد الشّعري على حد تعبير الأصمعي يكمن في اختلاف المطلق الشعري عن حجم عوالم الشعراء . فثقل الشّعر يفوق بأضعاف وزن الشعراء على حد تعبير جورج صاند.لأ نّه في مجموعه ليس عبارة عن قصائد يبدعونها، بل هو سيرورة لا متناهية من التجارب التي تبدأ منهم ثمّ تتجاوزهم بأقدار . وطريق الشعر هو طريق الحياة ، فيه يدرك الشعراء إفلاس الزمن إدراكا واضحا .لأنّه يجرهم نحو الفناء قبل أن يقدروا على السيطرة على طبيعتهم . لكنّ هذه الذوات الفانية تأبى مع ذلك إلاّ أن تظلّ موجودة بقوة .. على الأقل في اللغة.والشاعر حسب ريلكه هو ذلك الشهيد الذي يتألّم كي يخلص عالما متألما.
هوامش:
1.أبو ليلى ، عبد الحميد الدويب . شرود الزمن الأول،مطابع الشويخ . تطوان 2007
Spirale Inkari n° 7, s.d. : « Roberto Juarroz » (Entretiens et poèmes de Roberto Juarroz 2. textes de Michel Camus, Jean-Louis Giovannoni et Roger Munier).
3 . مصطفى جمال الدين . الإيقاع في الشعر العربي ص 45
4 . انظر حديث الدكتور عز الدين اسماعيل عن الجملة الشعرية والسطر الشعري في كتابه: الشعر العربي المعاصر 3 ص120
5. عبد الوهاب المسيري . الشعراء والزمن .مجلة الكرمل . عدد: صيف 2006 ص 94
voir Pierre Bourdieu avec Loïc Wacquant, Réponses. Pour une anthropologie6
réflexive, Paris, 1992