ما كادت سنوات العقد الثالث من القرن العشرين تستقر في تونس حتى أصبحت النصوص الشعرية المنشورة وقـتذاك تشتمل على أصناف عديدة من الشعر العمودي ، إلى الشعر المتحرر من النمطية العروضية ، إلى الشعر المنثور ذلك الذي اِقتبسه بعض الشعراء التونسيين من مدونة شعراء المهجر ومن الشعر الفرنسي خاصة و لكن ذلك لم يتجاوز المحاولات الفردية ومن حين إلى آخر فحسب ، ولقد كان أبو القاسم الشابي واعيا بتلك المسائل الشكلية في الشعر منذ البدايات الأولى له في النشر حيث أنه أرسل إلى صديقه محمد الحليوي في حاشية رسالته الثالثة قائلا خاصة :
( سألتني عن مجلة سعيد أبي بكر و هل أن الداعي إليها مادي أم فني و أنا لا أدري على التحقيق كيف أجيبك و بماذا أجيب إذ كل مبلغ العلم عندي هو أنه تولّى إدارتها الفنية أعني إدارة التحرير و أنه تسلم مني قطعة من الشعر المنثور عنوانها ـ الشاعر ـ تحت عنوان أكبر أود أن اكتب تحته مواضيع مختلفة إن ساعد الدهر و أشفق الله و هذا العنوان هو : صفحات من كتاب الوجود ـ و أعلم أنني رأيته يصحح ما طبع من المجلة و من بين ذلك قطعتي )
فنص الشابي الذي أدرجه تحت الشعر المنثور اعتبره ( قطعة) و تلك كلمة تدل على القصيدة أيضا و معنى هذا أن الشابي كان مدركا تماما للجنس الأدبي الجديد الذي سيواصل الكتابة فيه بعدئذ على صفحات مجلة (العالم الأدبي) التي كان يديرها زين العابدين السنوسي و هو الآخر يعتبر مثل سعيد أبي بكر من دعاة التجديد الأدبي و الفكري في الثلث الأول من القرن العشرين ، بل هو المحرك الفعلي للأدب التونسي الحديث في بعض الأحيان..
إن آثار الشابي في هذا النوع من الشعر لم تلق العناية بالجمع و الدرس مثلما تسنّى لبقية آثاره الأخرى أن تحظى به و لعل السبب في ذلك راجع إلى اعتبار تلك القطع- حسب تسمية الشابي نفسه من الشعر المنثور- مجرد محاولات أولى سرعان ما تجاوزها إلى كتابة القصيد العمودي ثم هو نفسه لم يجمعها مع شعره في ديوانه أغاني الحياة فظلت مبثوثة في مصادرها الأولى و قلّما أشار إليها الدارسون باِعتبار صعوبة الوصول إلى تلك النصوص من ناحية و باِعتبار أن ذلك النوع من الشعر الجديد ، على تعدد مصطلحاته ، قد واجهته تحفظات شديدة لدى كثير من النقاد عل مدى فترة طويلة فالسكوت على نصوصه تلك في هذا النوع من الشعر ليس دائما موضوعيا أو لأسباب بريئة !!
في سنة 1984 و بمناسبة خمسينية الشابي صدرت الأعمال الكاملة للشابي و قد تضمنت في الجزء الثاني منها نصوص شعره المنثور التي أمكن الوصول إلى جمعها و لكن دون تحقيق و من دون أن توضع تحت عنوان الشعر المنثور.
القصيد الأول: أغنية الألم
صدّره الشابي بهذا التقديم قائلا فيه : ليس النحيب الذي يصدره القلب كالنحيب الذي تبدعه الشفاه و ليست الدمعة التي يرسلها الألم كالدمعة التي يسكبها الأمل
ثم يبدأ القصيد بهذا المدخل :
ما أروعك أيها الألم و ما أعذبك
أيتها المرارة التي ملأت أودية الحياة بصراخ الأسى
و أترعت كأس الدهور بغصات الدموع
أيتها الكف الهائلة التي حطمت على شفة القلب كأس الأمل
و أراقت بكهف الظلام خمر الحياة
أيها الهول الذي ترهبنا ملامحه و تخيفنا ذكراه
أية شفة ترنمت بأغاريد الحياة منذ البدء
و لم تغتسل بلهيب الحياة (...)
و يتواصل القصيد على هذا النسق في أربع فقرات متتالية تبدأ بنفس الصيغة تقريبا فالأولى تبدأ :
لنبحث أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الثانية :
لنركع أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الثالثة :
لنبحث أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الرابعة :
و لنقدس يا أيها الغاب المنتحب
و بين تلك الفقرات تتردد جملة ذات نسق تركيبي متشابه جاءت كالمفاصل أو الردهات التي تراوح و تربط بين الفقرات على هذا النحو:
و انتغن يا قلبي بأنشودة الأحزان المرة حتى الأبد
ثم تليها الفقرة الثانية :
و لنترنم يا قلبي بأغنية الآلام المرة حتى الأبد
ثم تجيء بعدها الفقرة الثالثة :
و لنرتل يا قلبي بسكون أغاني الأوجاع المرة
حتى الأبد
و أخيرا تصل الفقرة الرابعة و الأخيرة و في نهايتها الجملة الخاتمة :
و لنرتل يا قلبي الكئيب البائس نغمة الألم المرة المخضلة بالدموع
و لنرددها على مسمع الظلام حتى الموت.
فنلاحظ هذا التشابه في كل مرة من حيث أسلوب الأمر و النداء خاصة إلا أن الجملة تتحول و تتبدل ضمن نفس النسق من حيث المعاني المتشابهة و المترادفة في كلمات ( لنتغن و لنترنم و لنرتل) و كذلك بترديد قوله (يا قلبي) في كل مرة و ترديد قوله ( بأنشودة الأحزان المرة ) و(بأغنية الآلام المرة) و (بسكون أغاني الأوجاع)و (نغمة الألم المرة) مما يجعل الجملة لازمة تتكرر عند آخر كل فقرة قائمة أثناء حركات النص فهي تشبه إلى حد ما القافية التي تتشكل على وتيرتها أبيات القصيدة العمودية أو الغصن الذي يتكرر في فقرات الموشح على أن الجملة الأخيرة كانت تمثل الخاتمة حيث أمست كلمة (الأبد) التي تكررت سابقا كلمة (الموت) فهي قفلة هذا النص أو هي تمثل (الخرجة) بلغة الموشحات.
إن هذا النص الشعري (أغنية الألم) يمثل نسقا جديدا في التشكيل اللغوي الشعري عند الشابي يعتمد فيه مرة على الاستمرار و مرة على التكرار و مرة على التنوع و مرة أخرى على التبدل و لكن النص يبدو محكم البناء حيث انه يبدأ بمقدمة ثم تليها فقرات متماثلة تفضي الواحدة منها إلى الأخرى من خلال جملة فاصلة واصلة لتتمخض في النهاية و بعد حركات متصاعدة إلي الذروة ثم إلى السكون التام.
أما من حيث المضمون فهذا القصيد النثري قد ضم مدائح جليلة إلي مفاهيم كانت توصف بالمذمة فقد قلب الشابي المفاهيم السائدة مثل إتيانه معاني جديدة ما كانت تعرف ضمن العلاقات المعلومة القديمة بين الكلمات في سياقاتها الأدبية على هذا المنوال :
لم يرتشف من جدول الجحيم
الأجنة النارية
أنشودة الأحزان المرة
الأشعة الساحرة التي تنبت حول جداول الأيام
الزهور النارية المقدسة
الجفون المكحولة بالأوجاع
لنقدس أيها الغاب المنتحب
يا أيتها البحيرة الواجمة
يا أيها القلب المتلحف بالغصات و الدموع
على مسمع الظلام (..)
حيث نحا أبو القاسم الشابي في هذا القصيد النثري منحى جديدا في اللغة مستفيدا من المتن الرومنطيقي المهجري من ناحية و كذلك من النصوص المترجمة عن الأدب الأوروبي من ناحية أخرى لكنه محيلا على رموز الشعر العربي القديم في نفس الوقت عندما ذكر في قوله :
( حيث تمايلت لزوميات المعري)
(ترنمت رباعيات الخيام)
( أين ترتعش أغاني البطولة و تتموج الشعلة النارية الملتهبة في قصائد المتنبي)
( التي نستنشق عبيرها من لوعة المجنون و أغانيه)
لذلك نقول إن التجديد الشكلي الذي سلكه الشابي في هذا النص على مستوى اللغة و على مستوى البناء العام قد عاضده منهج جديد في النظر إلى المواقف الوجودية و مستندا في كل ذلك على منجزات عصره في الكتابة العربية و مستفيدا كذلك من ترجمات الآداب العربية لكن كل ذلك لم يمنعه من التجذر في تراثه القديم.
و النص مازال قابلا للشرح و التمحيص لأنه ثري بالعناصر الموحية ...
القصيد الثاني: الدمعة الهاوية
هو تأملات باطنية في الحياة و الموت و مقابلة بين معاني الأمل و الألم على مدى الزمن و يجعل الشابي من القلب و القبر جناسا على مستوى اللفظ و طباقا على مستوى المعنى و القصيد يضم أربع حركات تتخلل الفقرات الأربع حيث تبدأ الأولى :
(انظر يا قلب)
و تبدأ الفقرة الثانية كذلك : (انظر فهناك تلاشت تلك النغمة..)
أما الفقرة الثالثة فهي تبدأ بقوله :
(هنالك انطفأت شعلة الحب...)
فكأنها عود على بدء أو استئناف جديد لنفس الفقرة السابقة...
لكن الفقرة الرابعة و الأخيرة تبدأ كل منهما بقوله :
(هي الحياة التي تجرعك اليوم...)
فكأن الشابي بحركة هذه الفقرة أراد أن يصل بها إلى النهاية المقصودة في قوله :
فما أهون الحياة عند الموت
و ما أهون القلوب عند الحياة
إن صيغة النص قائمة على تقديم ممهد ثم تليه فقرات ثلاث تنتهي كل منها بالفاصلة الواصلة على هذا النحو:
بعد الفقرة الثانية نجد :
فما أجزعك يا قلبي
و ما اجلد القبر
و بعد الفقرة الثالثة نجد :
فما أتعسك يا قلبي
و ما أقسي القبر
و بعد الفقرة الرابعة تأتي الخاتمة
فما أهون الحياة عند الموت
و ما أهون القلوب عند الحياة
فقصيد (أغنية الألم) و قصيد (الدمعة الهاوية)يقومان على نفس المعمار الفني تقريبا و هو يتمثل خاصة في توالي الحركات المعنوية التي تبدأ بالافتتاح لتصل إلى الختام عبر تلاحق و ترابط و ترادف من خلال ترديد بعض الصيغ للفصل و للوصل أيضا ففي هذا المعمار الفني يحقق النص الانسياب و التركيز معا و قد تناول من خصائص النثر الانطلاق والتماهي و قد تناول من الشعر الإيقاع و الإيحاء.
إن ثنائية الشعر و النثر واضحة لدى الشابي فهو يقول في رسالة إلى بعض أصدقائه في نفس هذا المجلد من أعماله.( الجزء الثاني ص 270)
( و قد تناوبتني من ذلك العهد أفكار متنافرة في فترات مختلفة حببت إلى النثر أحيانا و بغضت إلى الشعر ، و قلبت لي ظهر المجن في فينات أخرى، فكرهت النثر وأحببت الشعر، أما الآن فهما خدناي في فجر الحياة و غروبها و بلبلاي في اِبتسامتها و قطوبها وإني وإن كنت إلي الشعر أتوق مني إلي النثر لكنني لا أضن على نثري بعبق من عواطفي و أفكاري).
إن القصائد النثرية التي توصلنا إليها في هذه المجموعة تضم النصوص التالية:
*أغنية الألم بتاريخ 16 رجب سنة 1345 ه
*الدمعة الهاوية بتاريخ 20 صفر سنة 1345 ه
*أيتها النفس بتاريخ 10 ربيع الثاني سنة 1345 ه
*الخريف بتاريخ 30 ربيع الثاني سنة 1345 ه
*الأحزان الثلاثة بتاريخ 8 جمادي الثانية سنة 1344 ه
*بقايا الشفق بتاريخ 19 محرم سنة 1344 ه
*أمام كهف الوادي بتاريخ 20 جمادي الثانية سنة 1344 ه
*كيف يا قلبي بتاريخ 5 ربيع الأول سنة 1345 ه
*الذكرى بدون تاريخ
*النفس التائهة بدون تاريخ
*الشاعر بتاريخ (18/1/48)
*الليل بتاريخ (في صفر سنة 1345)
لذلك تبدو الدعوة إلى نشر نصوص الشابي في الشعر المنثور ملحة حتى يتمكن قراءة الأدب عامة من الاطلاع عليها و حتى يتسنى درسها و اِستجلاء خصائصها الفنية و المعنوية فهذه النصوص المنشورة في (الأعمال) سنة 1984 و لئن كانت أكثر عددا من بقية ما نشر للشابي في نصوص شعره المنثور في بعض المراجع إلا أنها تحتاج إلى طبعة علمية شاملة ليصدر بعدئذ ديوان الشابي في قصيد النثر كاملا.
إن عملا تاريخيا توثيقا محققا بات متأكدا لتراث الشابي في قصيد النثر خاصة و في بقية كتاباته أيضا و لا يكون ذلك إلا ضمن هيئة أدبية علمية مسؤولة و ليس تحت ضغط الظروف و في المناسبات الآنية لأن الرجوع إلى منشورات تلك الفترة و الاطلاع على المخطوطات يصعب على شخص واحد بإمكانياته المحدودة الخاصة، و في اِنتظار صدور هذا المطمح يمكن أن تحوصل الملاحظات التالية التي نستخلصها من تجربة الشابي في الشعر المنثور ذلك الذي وصلنا إليه.
* أولا : تندرج كتابات الشابي في الشعر الجديد الخارج على المقاييس العروضية ضمن حركة تجديدية عارمة في الثقافة العربية في القرن العشرين حاولت أن تؤسس ركائزها في التراث العربي بالربط مع منجزاته البديعة و كذلك بالاستفادة من الآداب الأخرى في العالم الغربي خاصة و اِنطلاقا من تحولات الواقع الوطني و العربي خلال هذا القرن و تعبيرا عن الخلجات التائقة إلى التحرر و الانبثاق حينا و إلى إثبات الذات حينا آخر.
* ثانيا : يمكن أن نلمس بسهولة الصلة بين قصائده النثرية و بين قصائده الأخرى تلك التي حاول فيها التجديد على مستوى التفعيلات و القوافي بحيث أن زمن الكتابة عند الشابي واضح التأثير على نصوصه بما فيه من أحلام و من نكسات أيضا فقد بدأ الشابي منطلقا جامحا ووصل به المطاف إلى الانكسار و الخيبة.
* ثالتا : في القصائد النثرية للشابي خصائص تكاد تكون ثابتة في أغلب نصوصه تتمثل في المعاني الرومنطيقية من حيث الموضوع و تتجسم في القاموس من حيث الكلمات و تتشكل ضمن الترديد و التكرار في مستوى البنية النحوية و على مستوى الإيقاع الصوتي غير أن تشكيل النص على الورقة يجدر به أن يؤخذ بعين الاعتبار لان القصيدة النثرية ذات إيقاع بصري أيضا بحيث لابد لنا أن نتساءل عن إلى أيّ حدّ يمثل النص المنشور على الصحف و المجلات و في الكتب النص الأصلي كما اِقترحه الشابي؟.
إن القراءة هي أيضا يمكن أن تحدد إلى مقدار معين شكل النص و سماته.
المراجع
*الشعر التونسي المعاصر : محمد صالح الجابري – الشركة التونسية للنشر – تونس 1974
*رسائل الشابي : محمد الحليوي – دار المغرب العربي تونس 1966
*الأعمال الكاملة للشابي- وزارة الثقافة تونس 1984 – الجزء 2
*مجلة حوليات الجامعة التونسية 1965 مقال : مشاركة في دراسة أبي القاسم الشابي – توفيق بكار – 135.
صدّره الشابي بهذا التقديم قائلا فيه : ليس النحيب الذي يصدره القلب كالنحيب الذي تبدعه الشفاه و ليست الدمعة التي يرسلها الألم كالدمعة التي يسكبها الأمل
ثم يبدأ القصيد بهذا المدخل :
ما أروعك أيها الألم و ما أعذبك
أيتها المرارة التي ملأت أودية الحياة بصراخ الأسى
و أترعت كأس الدهور بغصات الدموع
أيتها الكف الهائلة التي حطمت على شفة القلب كأس الأمل
و أراقت بكهف الظلام خمر الحياة
أيها الهول الذي ترهبنا ملامحه و تخيفنا ذكراه
أية شفة ترنمت بأغاريد الحياة منذ البدء
و لم تغتسل بلهيب الحياة (...)
و يتواصل القصيد على هذا النسق في أربع فقرات متتالية تبدأ بنفس الصيغة تقريبا فالأولى تبدأ :
لنبحث أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الثانية :
لنركع أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الثالثة :
لنبحث أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الرابعة :
و لنقدس يا أيها الغاب المنتحب
و بين تلك الفقرات تتردد جملة ذات نسق تركيبي متشابه جاءت كالمفاصل أو الردهات التي تراوح و تربط بين الفقرات على هذا النحو:
و انتغن يا قلبي بأنشودة الأحزان المرة حتى الأبد
ثم تليها الفقرة الثانية :
و لنترنم يا قلبي بأغنية الآلام المرة حتى الأبد
ثم تجيء بعدها الفقرة الثالثة :
و لنرتل يا قلبي بسكون أغاني الأوجاع المرة
حتى الأبد
و أخيرا تصل الفقرة الرابعة و الأخيرة و في نهايتها الجملة الخاتمة :
و لنرتل يا قلبي الكئيب البائس نغمة الألم المرة المخضلة بالدموع
و لنرددها على مسمع الظلام حتى الموت.
فنلاحظ هذا التشابه في كل مرة من حيث أسلوب الأمر و النداء خاصة إلا أن الجملة تتحول و تتبدل ضمن نفس النسق من حيث المعاني المتشابهة و المترادفة في كلمات ( لنتغن و لنترنم و لنرتل) و كذلك بترديد قوله (يا قلبي) في كل مرة و ترديد قوله ( بأنشودة الأحزان المرة ) و(بأغنية الآلام المرة) و (بسكون أغاني الأوجاع)و (نغمة الألم المرة) مما يجعل الجملة لازمة تتكرر عند آخر كل فقرة قائمة أثناء حركات النص فهي تشبه إلى حد ما القافية التي تتشكل على وتيرتها أبيات القصيدة العمودية أو الغصن الذي يتكرر في فقرات الموشح على أن الجملة الأخيرة كانت تمثل الخاتمة حيث أمست كلمة (الأبد) التي تكررت سابقا كلمة (الموت) فهي قفلة هذا النص أو هي تمثل (الخرجة) بلغة الموشحات.
إن هذا النص الشعري (أغنية الألم) يمثل نسقا جديدا في التشكيل اللغوي الشعري عند الشابي يعتمد فيه مرة على الاستمرار و مرة على التكرار و مرة على التنوع و مرة أخرى على التبدل و لكن النص يبدو محكم البناء حيث انه يبدأ بمقدمة ثم تليها فقرات متماثلة تفضي الواحدة منها إلى الأخرى من خلال جملة فاصلة واصلة لتتمخض في النهاية و بعد حركات متصاعدة إلي الذروة ثم إلى السكون التام.
أما من حيث المضمون فهذا القصيد النثري قد ضم مدائح جليلة إلي مفاهيم كانت توصف بالمذمة فقد قلب الشابي المفاهيم السائدة مثل إتيانه معاني جديدة ما كانت تعرف ضمن العلاقات المعلومة القديمة بين الكلمات في سياقاتها الأدبية على هذا المنوال :
لم يرتشف من جدول الجحيم
الأجنة النارية
أنشودة الأحزان المرة
الأشعة الساحرة التي تنبت حول جداول الأيام
الزهور النارية المقدسة
الجفون المكحولة بالأوجاع
لنقدس أيها الغاب المنتحب
يا أيتها البحيرة الواجمة
يا أيها القلب المتلحف بالغصات و الدموع
على مسمع الظلام (..)
حيث نحا أبو القاسم الشابي في هذا القصيد النثري منحى جديدا في اللغة مستفيدا من المتن الرومنطيقي المهجري من ناحية و كذلك من النصوص المترجمة عن الأدب الأوروبي من ناحية أخرى لكنه محيلا على رموز الشعر العربي القديم في نفس الوقت عندما ذكر في قوله :
( حيث تمايلت لزوميات المعري)
(ترنمت رباعيات الخيام)
( أين ترتعش أغاني البطولة و تتموج الشعلة النارية الملتهبة في قصائد المتنبي)
( التي نستنشق عبيرها من لوعة المجنون و أغانيه)
لذلك نقول إن التجديد الشكلي الذي سلكه الشابي في هذا النص على مستوى اللغة و على مستوى البناء العام قد عاضده منهج جديد في النظر إلى المواقف الوجودية و مستندا في كل ذلك على منجزات عصره في الكتابة العربية و مستفيدا كذلك من ترجمات الآداب العربية لكن كل ذلك لم يمنعه من التجذر في تراثه القديم.
و النص مازال قابلا للشرح و التمحيص لأنه ثري بالعناصر الموحية ...
القصيد الثاني: الدمعة الهاوية
هو تأملات باطنية في الحياة و الموت و مقابلة بين معاني الأمل و الألم على مدى الزمن و يجعل الشابي من القلب و القبر جناسا على مستوى اللفظ و طباقا على مستوى المعنى و القصيد يضم أربع حركات تتخلل الفقرات الأربع حيث تبدأ الأولى :
(انظر يا قلب)
و تبدأ الفقرة الثانية كذلك : (انظر فهناك تلاشت تلك النغمة..)
أما الفقرة الثالثة فهي تبدأ بقوله :
(هنالك انطفأت شعلة الحب...)
فكأنها عود على بدء أو استئناف جديد لنفس الفقرة السابقة...
لكن الفقرة الرابعة و الأخيرة تبدأ كل منهما بقوله :
(هي الحياة التي تجرعك اليوم...)
فكأن الشابي بحركة هذه الفقرة أراد أن يصل بها إلى النهاية المقصودة في قوله :
فما أهون الحياة عند الموت
و ما أهون القلوب عند الحياة
إن صيغة النص قائمة على تقديم ممهد ثم تليه فقرات ثلاث تنتهي كل منها بالفاصلة الواصلة على هذا النحو:
بعد الفقرة الثانية نجد :
فما أجزعك يا قلبي
و ما اجلد القبر
و بعد الفقرة الثالثة نجد :
فما أتعسك يا قلبي
و ما أقسي القبر
و بعد الفقرة الرابعة تأتي الخاتمة
فما أهون الحياة عند الموت
و ما أهون القلوب عند الحياة
فقصيد (أغنية الألم) و قصيد (الدمعة الهاوية)يقومان على نفس المعمار الفني تقريبا و هو يتمثل خاصة في توالي الحركات المعنوية التي تبدأ بالافتتاح لتصل إلى الختام عبر تلاحق و ترابط و ترادف من خلال ترديد بعض الصيغ للفصل و للوصل أيضا ففي هذا المعمار الفني يحقق النص الانسياب و التركيز معا و قد تناول من خصائص النثر الانطلاق والتماهي و قد تناول من الشعر الإيقاع و الإيحاء.
إن ثنائية الشعر و النثر واضحة لدى الشابي فهو يقول في رسالة إلى بعض أصدقائه في نفس هذا المجلد من أعماله.( الجزء الثاني ص 270)
( و قد تناوبتني من ذلك العهد أفكار متنافرة في فترات مختلفة حببت إلى النثر أحيانا و بغضت إلى الشعر ، و قلبت لي ظهر المجن في فينات أخرى، فكرهت النثر وأحببت الشعر، أما الآن فهما خدناي في فجر الحياة و غروبها و بلبلاي في اِبتسامتها و قطوبها وإني وإن كنت إلي الشعر أتوق مني إلي النثر لكنني لا أضن على نثري بعبق من عواطفي و أفكاري).
إن القصائد النثرية التي توصلنا إليها في هذه المجموعة تضم النصوص التالية:
*أغنية الألم بتاريخ 16 رجب سنة 1345 ه
*الدمعة الهاوية بتاريخ 20 صفر سنة 1345 ه
*أيتها النفس بتاريخ 10 ربيع الثاني سنة 1345 ه
*الخريف بتاريخ 30 ربيع الثاني سنة 1345 ه
*الأحزان الثلاثة بتاريخ 8 جمادي الثانية سنة 1344 ه
*بقايا الشفق بتاريخ 19 محرم سنة 1344 ه
*أمام كهف الوادي بتاريخ 20 جمادي الثانية سنة 1344 ه
*كيف يا قلبي بتاريخ 5 ربيع الأول سنة 1345 ه
*الذكرى بدون تاريخ
*النفس التائهة بدون تاريخ
*الشاعر بتاريخ (18/1/48)
*الليل بتاريخ (في صفر سنة 1345)
لذلك تبدو الدعوة إلى نشر نصوص الشابي في الشعر المنثور ملحة حتى يتمكن قراءة الأدب عامة من الاطلاع عليها و حتى يتسنى درسها و اِستجلاء خصائصها الفنية و المعنوية فهذه النصوص المنشورة في (الأعمال) سنة 1984 و لئن كانت أكثر عددا من بقية ما نشر للشابي في نصوص شعره المنثور في بعض المراجع إلا أنها تحتاج إلى طبعة علمية شاملة ليصدر بعدئذ ديوان الشابي في قصيد النثر كاملا.
إن عملا تاريخيا توثيقا محققا بات متأكدا لتراث الشابي في قصيد النثر خاصة و في بقية كتاباته أيضا و لا يكون ذلك إلا ضمن هيئة أدبية علمية مسؤولة و ليس تحت ضغط الظروف و في المناسبات الآنية لأن الرجوع إلى منشورات تلك الفترة و الاطلاع على المخطوطات يصعب على شخص واحد بإمكانياته المحدودة الخاصة، و في اِنتظار صدور هذا المطمح يمكن أن تحوصل الملاحظات التالية التي نستخلصها من تجربة الشابي في الشعر المنثور ذلك الذي وصلنا إليه.
* أولا : تندرج كتابات الشابي في الشعر الجديد الخارج على المقاييس العروضية ضمن حركة تجديدية عارمة في الثقافة العربية في القرن العشرين حاولت أن تؤسس ركائزها في التراث العربي بالربط مع منجزاته البديعة و كذلك بالاستفادة من الآداب الأخرى في العالم الغربي خاصة و اِنطلاقا من تحولات الواقع الوطني و العربي خلال هذا القرن و تعبيرا عن الخلجات التائقة إلى التحرر و الانبثاق حينا و إلى إثبات الذات حينا آخر.
* ثانيا : يمكن أن نلمس بسهولة الصلة بين قصائده النثرية و بين قصائده الأخرى تلك التي حاول فيها التجديد على مستوى التفعيلات و القوافي بحيث أن زمن الكتابة عند الشابي واضح التأثير على نصوصه بما فيه من أحلام و من نكسات أيضا فقد بدأ الشابي منطلقا جامحا ووصل به المطاف إلى الانكسار و الخيبة.
* ثالتا : في القصائد النثرية للشابي خصائص تكاد تكون ثابتة في أغلب نصوصه تتمثل في المعاني الرومنطيقية من حيث الموضوع و تتجسم في القاموس من حيث الكلمات و تتشكل ضمن الترديد و التكرار في مستوى البنية النحوية و على مستوى الإيقاع الصوتي غير أن تشكيل النص على الورقة يجدر به أن يؤخذ بعين الاعتبار لان القصيدة النثرية ذات إيقاع بصري أيضا بحيث لابد لنا أن نتساءل عن إلى أيّ حدّ يمثل النص المنشور على الصحف و المجلات و في الكتب النص الأصلي كما اِقترحه الشابي؟.
إن القراءة هي أيضا يمكن أن تحدد إلى مقدار معين شكل النص و سماته.
المراجع
*الشعر التونسي المعاصر : محمد صالح الجابري – الشركة التونسية للنشر – تونس 1974
*رسائل الشابي : محمد الحليوي – دار المغرب العربي تونس 1966
*الأعمال الكاملة للشابي- وزارة الثقافة تونس 1984 – الجزء 2
*مجلة حوليات الجامعة التونسية 1965 مقال : مشاركة في دراسة أبي القاسم الشابي – توفيق بكار – 135.