ممدوح عدوان شاعر الرثاء في دوامة انهيار الزمن العربي - امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسقبيل حلول السنة الميلادية الجديدة  بأسبوع واحد، رزئ الشعر العربي في رحيل هامة من هامات الشعراء الستينيين في سورية وهو لم يزل يطوي الحنايا حول سر الحلم، ويعد منزويا ما تجمع لديه من الجراح بعدما أتعبه الركض الذي لم يغنم منه سوى المعذرة، أليس هو من قال في قصيدة" الطاووس"
ركضت إليك كي ألهيك، كي لا تسألي الخيلا
لئلا تسمعي قول الذي شهد الوقيعة
أنني قد حضتها طفلا
وأن غنيمتي كانت بها ذلا
ومعذرة
أريدك أن تظلي الدهر جاهلة بما حلا
قفي... ولتقبلي ذلي
وفي أفيائه عيشي
لأني كنت طاووسا
وقد عريت من ريشي
لقد ترنح "طاووس الشعراء" بعدما عري من ريشة في عتمه من تغاضي العيون وهو يعاني من مضاعفات المرض اللعين، دون أن ييأس أو يصمت لأنه كان موقنا بأن فجائع عمره أكبر من أن يغلفها الصمت، فظل يسرق يومه وينابيع شعره تتدفق بعناد.
لقد ارتبط صوت ممدوح عدوان الشعري منذ أول ديوانه له، بقضايا الأمة العربية، بهزائمها وانتكاساتها، بآلامها ومواجعها. وقد كان لأثر هزيمة حزيران 1967، السبب المباشر في ظهور أول مجموعة شعرية له، وهي: "الظل الأخضر" ثم توالت بعدها دواوينه الشعرية، إلا أنها ارتبطت بسلسلة من القضايا القومية والوطنية والاجتماعية.
إن كينونة النص الشعري عند عدوان هنا تتحقق على وثر مشدود بين:
الإطار الذي ينطوي على الحقائق والروافد السابقة للنص.
السياق الذي ينطوي على الظروف المرافقة له.
إنه وثر مشدود بين طرفين ينطوي على درجة عالية من التوتر، تكشف عنها علاقات الأسبقية والمزامنة التي تحكمها جدلية: الماضي، الحاضر من جهة، والمواصفات الفنية والرغبة في التحرر منها من جهة أخرى.
من هذا المنطلق إذن، يلقي ممدوح عدوان بصوته الشعري داخل انهيارات الزمن العربي ليكتب مرثية له، يقع فيها التركيز على التقاط صور الفجائع والانهيارات بكل تفاصيلها.
ـ بنية الرثاء: رثاء الزمن العربي وكشف حالة الهزيمة:
وتشكل هذه البنية مفتاح فهم التجربة الشعرية لخلفية ممدوح عدوان القومية، وتتجلى في الإحساس الفاجع بالمرحلة التاريخية التي انبثق فيها شعره: (من 1967 إلى الآن) وهو إحساس يصور سلسلة هزائم الأمة العربية منذ بداية الستينيات، وتحديدا انطلاقا من: انهيار ثورة حزب البعث العربي الاشتراكي، وصولا إلى نكبة فلسطين ثم إلى الوضع العربي في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي.
ومن هنا تبدو طبيعة هذه البنية الرثائية التي يشتمل عليها شعره مرتبطة عنده بتجارب أمته، وبواقعها السياسي والوطني والاجتماعي طوال العقود الأربعة الأخيرة من الزمن. ولذا وجب تحديد طبيعة هذه البنية، واستخلاص رؤاها ومرتكزاتها الفنية، وذلك بالعودة إلى النصوص الشعرية التي تفصح عن هذه البنية.
يقول ممدوح عدوان في قصيدته: روي عن الخنساء"(1)
"تبح حناجر النداب من ندم بعاشوراء
يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه
ويملأ جوفه المسعور بالحمأ
ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ
وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا
تؤذن للصلاح وللفلاح... ولا يمر الصوت في الصحراء
ينبه غافلا يقضي... ولا يدري
 بأن الفقر، أن العذر في الملأ".
إن الرثاء هنا مستلهم من فداحة المصاب بضياع فلسطين من أيدي العرب؛ ولذلك يبلغ الشاعر في هذا المقطع الشعري درجة عالية من التوتر، يحاول جاهدا إخفاءه داخل تداعيات تاريخية، وذلك بتوظيف حدث عاشوراء المرتبط بمقتل الحسين.
ويكثر صراخ الشاعر وبكاؤه في مقطع موال حينما يقول:
"إليك أهيم في الصحراء، أركض خلف ظلي، خلف حد الأفق
اندبه فانكفئ
إليك حميت ملء متاعبي جمرا، أخاف عليه ينطفئ
ركضت... ركضعت حتى تهب عن ساقي
كأني كنت أبحث عن إله ضاع في نهر من العدم
صرخت...صرخت... حتى ألقيت في الرمل حنجرتي
وحتى امتص صوتي في فمي الصدأ"(2).
وحينما يهدأ من هذا الصراخ القاتل، يحاول أن يعزي نفسه، لكنه سرعان ما يحمل القيادة العربية مسؤولية الهزيمة. لأنها لم تضطلع بمسؤوليتها القومية كما كان عليها أن تفعل:
و"يهدأ كل من حولي... فاهدأ مثلما هدأوا
أعزي النفس "قد تنبو سيوف الثأر، تكبو في الوغى الفرسان
ولكني أراهم دونما خيل... ولا سيفا لديهم
قد تربع في عروشهم... وفي حرماتهم خصيان"(3)
يستوحي عدوان في هذا المقطع المثل العربي القديم: "السيف ينبو والفرس يكبو" للدلالة على الهوة الفاصلة بين الجماهير العربية ـ المتحمسة لخوض الحرب واسترجاع الكرامة ـ والقيادة العربية المهزومة المتذرعة بتبريرات واهية لتفسير هزيمتها.
ومن ثم تبدو هذه الهزيمة قاسية على الشاعر، إنها تذكرة بالموت والظلام:
"يذكرني غروب الشمس بالقتلى
بمن من ليلنا انطفأوا
وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل
تأبى الشمس أن تأتي مع الريح
....
ويجهش حولنا فوج التماسيح
يدوم بكاهم جيلا".
...
إلى قوله:
"يذكرني غروب الشمس كيف تضمخوا بالضوء... وانطفأوا
وكيف مضوا
وما طلعت علينا الشمس بعدهم
وكيف تهالكوا تعبا...
وكيف الأرض غاضت...
عندما اتكأوا" (4).
يستوحي الشاعر في هذه المقاطع الشعرية مرثية الخنساء الشهيرة لأخيها صخر كما يوظف معاني: الانطفاء والظلام والبكاء للدلالة على وطأة الهزيمة التي منيت بها أمته بعد أحداث 1967.
وتكاد تنسحب هذه البنية الرثائية على معظم ما كتب من قصائد شعرية منذ 1967 إلى الآن.
إن الموت منتشر في كل الأنحاء، فوق أرصفة المدن العربية المهزومة؛ إنه موجود حتى في الرغيف الذي يؤكل، في اللباس، وهو يظهر على الوجود كذلك.
يقول في قصيدة: "سيأتيكم زمان": (5).
"ها هو الموت يأتي... خطاه على الأرصفة
وجهه سيفاجئ في العطفات
وقد يشرئب في الأرغفة
ها هو الموت يأتي..
تنفسه عند بابي،
وفوق وجوه النيام،
ها هو الموت يأتي.. انهضوا أيها الميتون
جاء موت جديد
نابع بين حبل الوريد وبين الجبين.
هادئ، مختف بين دفء الكرى والنعاس
قادم مطرا فوق هذي البيوت
ها هو الموت يأتي، اطمئنوا، اكشفوا موتكم
فالذي لا يموت قتالا،
صراخا يموت، وغدرا يموت، وغيظا يموت
يؤكل الموت، يشرب، يلبس، تغسل فيه الوجوه
إلى حد قوله:
كل نبع يحاصر،
لم يبق للشرب إلا الدماء
من ضفاف المحيط إلى كربلاء".
هكذا أصبح الموت يحاصر الشارع حصارا لا يقوى معه إلا على الصراخ الذي يهز السماء؛ إنه صراخ الشهداء الذين اختنقت حناجرهم بالدموع:
"جفت الزغردات التي أطلقت في الجنائز
مذ أقبلت أعين الشهداء
وصاحت "لماذا قتلنا؟"
مذ اختنقت بالدموع الحناجر
جاءت صراخا يهز السماء فتهتز
مثل الذي يسلم الروح
والشهداء، يطلون عبر الثوابيت
يحتضرون..
تصير شهادتهم ميتة
واحتضارا يطول
انتهى زمن الزغردات
وجاء زمن البكاء".
ويخيم عليه اليأس لدرجة أنه أصبح يشتهي الموت، ويطالب بالدفن:
"أتينا نموت أمام الشهود الجناة
ادفنونا
يحق لنا أن نستريح
انثرونا على الأفق
نحن شهود عليكم
تضيق القبور بنا
أبت الأرض أن تحوينا
إلى حد قوله:
...
كل صدر تنفس بعد الفجيعة
صار ضريحا لنا
فافتحوا أيها الأهل هذي الصدور لنا أضرحة(6).
إن الأرض، والقبور والأضرحة تضيق بكثرة القتلى، والشهداء، أما حشود الناس التي تتراءى للشاعر فهي ليست سوى حشودا ميتة لا تقوى على الحركة:
"دثريني
فهذه الحشود قبور
وهذا الضجيج خواء
...
والقبور تضيق من كثرة القتلى:
كيف، بعد الممات، تضيق الصدور؟
وبعد الحياة، يضيق الممات؟
فأين تلاقين واحة عشق لنا"(7).
هكذا تنتشر رائحة الموت في قصائد ممدوح عدوان: ولا أدل على ذلك من هذا القاموس اللغوي الحافل بدلالات الموت والذي يكاد يحقق ثباتا لافتا للانتباه من كثرة ترديد الشاعر للألفاظ الدالة على الموت المطلق ك: الدماء ، الجنائز ـ الشهداء ـ الثوابيت ـ الاحتضار ـ الدفن ـ القبور ، الفجيعة ـ الضريح ـ القتلى ـ الممات... إلخ.
فالموت والاحتضار والشهادة، دلالات تبدو- من شدة وطأتها على ممدوح عدوان - وكأنها وباء، بل أوبئة تعم الحياة العربية المعاصرة:
"ليس بين الوباء وبين الوباء سوى الأوبئة
هيء له ما تبقى من الجسد المهتري
وتهيأ كما تتهيأ للعرس عاشقة
وكما تتهيأ ثاكلة لاستلام ثوابيث أبنائها
إنه الموت،
بين الحشود يفاجئ"(8).
هكذا يصبح الموت هاجس الشاعر لا يفارقه قيد أنمله؛ لذلك فهو يتوقع خبره بين عشية وضحاها كيف لا وقد انقلبت الأغاريد إلى حداد، والأعراس إلى مجازر، والأفراح إلى جنائز، بل أصبح اسما لكل الفصول:
"وأي الفواجع تحملها النشرة القادمة
وكل صباح توشح بالدمع أو بالسواد
وكل أغاريدنا للحداد
كانا نسير ولا نتحرك
أو أننا سائرون ارتداد
كأن المجازر أعراسنا
وكأن الجنائز أفراحنا
ها هو الأفق وهج حرائق
تفرج معي:
قد يجيء غد نتعود فيه على موتنا
مثلما نتعود أمواتنا
قد تجف الدموع
وقد تيبس فينا الفصول
وقد يصبح الموت إسما لكل الفصول"(9).
إن هذه القصائد عبارة عن شهادة بالغة الدلالة على ما أصاب العروبة من نكسات وآلام ومواجع من جراء الهزائم التي منيت بها طوال العقود الأربعة الأخيرة والمتجسدة ـ أساسا ـ في نكبة فلسطين، ثم الاستيطان العسكري الصهيوني لمناطق ومدن عربية عدة: كالجولان والقنيطرة بسوريا، وسيناء والنقب بمصر، وجنوب لبنان... إلخ، كما أن قصائد عدوان هاته شهادة بالغة التجسيد عن السقطة المروعة التي تلقتها حركة القوميين العرب وانهيار أحلامها السياسية وذلك بفشلها في مواجهة عدوها التاريخي المسؤول عن هذا الخراب والدمار، والجو الجنائزي الذي انتشر في المحيط العربي.
وهكذا يتضح من خلال تصفحنا لدواوين ممدوح عدوان الشعرية أن بنية الرثاء عنده أكثر احتفالا بالمحتوى السياسي، والخيبة الكبرى التي هيمنت عليه بعد انهيار الحلم القومي وافتضاح السلطة عقب نكسة حزيران المريعة.

الهوامش:
من المجموعة الشـعرية: "الظل الأخضـر" دار العودة. بيـروت ط 2-1982 ص: 19.
من المجموعة الشعرية: "الظل الأخضر، من قـصيدة "روي عـن الخنساء"، ص: 22.
نفسه.
نفسه، ص 22 ثم 25.
من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" دار العودة. بيروت ط 2-1982. ص : 44-45-46.
"ولا تحسـبـن" من مجـموعته الشعـرية: "أقـبل الزمـن المستـحـيل"
    ص: 91/92/94/95.
"ولا تحسبن" من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" ص: 98.
قصيدة: و"كان الخوف شوقا" من المجموعة الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص 113.
من مجموعـة الشعرية: "للخوف كل الزمان" دار العودة. بيروت ط 2-1982 ص 53-55.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة