تعتبر المجموعة القصصية " ذكريات من منفى سحيق " باكورة أعمال القاص المغـربي صخر المهيف ، وهو من مواليد 1971 بتازة ، بدأ النشر مبكـرا منذ سنة 1995 بالعديد من الأسبوعيات و الجرائد و المواقع و المجلات العربية و الوطنية ، يعمل أستاذ التعليم الابتدائي و فاعل جمعوي و منشط بالمطعم الثقافي الأندلسي بأصيلة . يهتم بمجالات أدبية متنوعة : المقالة ، المسرح ، الشعر و القصة و الرواية .
و المجموعة صدرت عن دار الوطن للصحافة و النشر سنة 2007 ، يتصدر الصفحة الأولى من غلاف المجموعة لوحة تشكيلية للفنان محمد واكريم أما الصفحة الرابعة من الكتاب فتتضمن ورقة تعريف بالكاتب .
تضم المجموعة القصصية ثمانية نصوص ، كما يشكل عنوان أحـدها عتبة للمجموعة ككل .
وسوف نحاول يناولها بالقراءة والتحليل في محاولة للبحث عن أهم الأفكار التي روجتها وذلك بتعقب مختلف الخيوط التي تمكننا من الإجابة عن "سؤال الكتابة " عند القاص صخر المهيف .
وقد توزعت النصوص بين الواقعية والإجتماعية والسير ذاتية...
يقول القاص على لسان سارده في نص " عودة من منفى سحيق" عبارة عن سيرة ذاتية و قد عبر عنه بقوله " لم يكن مقيتا أن أكتب جزءا من تاريخ ذاكرتي المحترقة على الرغم من المعانات التي تكبدتها في سبيل شنق ذاكرتي و هي تبوح ببعض التفاصيل المملة عن مجرى حياتي السابقة " صفحة 22 .
و هذا النص كتب بمرارة و حرقة و بانتقاد كبير للواقع الاجتماعي المزري الذي عاشه كرجل تعليم في بداية مشواره المهني . و إن كان النص يقدم لنا صورة مصغرة لشخصين أو مجموعة أشخاص فقد فتح أعيننا على واقع بانورامي حول أوضاع رجال و نساء التعليم بصفة عامة مبرزا معانات جيل بأكمله في مناطق نائية جدا لا تتوفر فيها الشروط الأدنى للحياة ، وغم هذا العائق حاول السارد التكيف مع الوسط الجديد يقول " تأقلمت بسرعة مع أجواء المنفى القاسية ، فصنعت عالما خاصا بي ، كان عالما جميلا " صفحة 24 .و لم يكن فقط جميلا بل كان من نوع خاص و صعب الاقتحام على الغير يقول : " لم أسمح لأحد بولوجه لأنه كان عالما مغلقا... مستعصيا على الاقتحام "ص 24.
لقد شيد السارد حول نفسه قلعة حصينة بداخلها تمكن من تأمل فضاء الصحراء ، و إعادة ترتيب أوراقه و مراجعة قناعاته السابقة ، و بالتالي الانغماس و الإقبال على الإبداع بشكل متميز " كنت استيقظ وسط النهار ، أتلذذ قطع الشوكولاطة ، أتدثر بالكلمات حين يسيل مدادها على المساحات البيضاء المنتشرة فوق المكتب "ص 26 . في ظل هدوء وصمت جميل ، لكن هذه السعادة سرعان ما سوف تنقلب سخطا على كل شيء و أعطته الإحساس بالهزيمة يقول " ليس في هذه الصحراء ما يثير الفرح " ص 23 و بأنه يحس بظلم مرير و بأنه سجين ، يقول " أنا سجين عمل لا أحبه في أرض لا أحبها ،... و أكرهها و في مهمة بت أمقتها " ص 25 منطقة فقد فيها الاتصال بالعالم الخارجي و تبددت همته و أمله لعدة أسباب منها ما هو متعلق بظروف الحياة أو حياته الخاصة و العاطفية .
و لعل أبرز مفاتيح هذا النص كان رسالة تلقاها من حبيبته مما أعطاه إحساسا بالعزلة و الحقيرة ، و رغم أن مضمونها لم يبح به السارد إلا أن ما بدا على نفسيته و ما باح به من أهات و بدى على محياه يكفي لفهم بعض أسباب هذا الانقلاب إلى أقصى درجات العزلة " تأملت الجبل الغربي ، كنت أريد أن أبكي ، لكن الدموع احتبست في محجري ، أحسست بغصة في حلقي " ص 30 بل وصل به الامر إلى الشعور بالهزيمة " شعرت بوطء الهزيمة ثقيلا علي ... أومن بأنني خسرت معرقة كانت أكبر مني بكثير ..." ص 31 .
لكن التساؤل المطروح بشدة : هل الخسارة في فصل معركة واحدة يعد خسارة للحرب بأكملها ؟ أليس في الأمر فرصة للتأمل و إعادة توحيد الصفوف من جديد ، وتضميد لكل الجراح الغائرة ؟ ففي أعماق اليأس تفتح لا إراديا أبواب أخرى تكون مغلقة يقول " كنت أشتغل لساعات طويلة ، و كلما فرغت من رواية أو قصة إلا و احتفلت بها احتفالا كبيرا " ص 31 فالقسوة و القهر و اليأس فتقت في أغصان شجرة عانت بعد مرور ويـلات فصل شتاء قارص وريقات جديدة وورودا بنفسجية و بيضاء جميلة واعدة بالكثير من العطاء ، بعد اشراقة شموس الربيع الحالمة والدافئة .
و لكي نمسك بمفتاحنا الأولي للنص جيدا نورد كيف جاء الحديث عن الرسالة بشكل عرضي في ص 29/30 " في ذلك الصباح داخت بي الدنيا .. قلبت الورقة في لهفة ... أحسست بأن رجلي لم تعودا تستطيعان حملي ... لم أعد أرى شيئا ... عدوت إلى المسكن حائرا و ملايين الأسئلة تلح علي دون أن أجد لها جوابا " فالحبيبة كانت هي الأمل الوحيد الذي يخفف من قسوة المنفى و أهواله .
كما تم تضمين النص بشكل متوازي لمواضيع أخرى حملتنا إلى عوالم السارد النفسية مما منحها نفسا و نكهة متميزة ، و بالتالي الإحساس بالانتقال و لو عبر الذاكرة إلى روعة الجنوب المغربي و التمتع بروعة غروب الشمس أو طلوع القمـر في جولة موغلة في فضاء لا محدود و مترامي الأطراف . مما أضفى جمالية على القصة الأصلية و جعلها تحبل بقيـم جمالية و تأملات فلسفية وجودية، و أعطاها قوة تأملية قل نظيرها في نصوص أخرى .منها على سبيل المثال لا الحصر ، الحب و مراتبه / هدوء الليل / الصمت / القمر و جماله / ورقة الإحساس رغم مرارة الواقع يقول "أحمل قلبا جريحا و كثيرا من ...الأشرطة الموسيقية .. " ص 32
و لم يمنع الجرح الغائر و الألم الكبير الكاتب مراجعة مواقفه و تصحيح أفكاره و كل ما يحيط به أو يتعلق به يقول عن المرأة على سبيل المثال " إمرأة عاقة قتلت حلمي في مهده ، اغتالت ورودا كانت تتفتح يوما بعد يوم " و هذا البوح الصامت لم يكن نهاية للقصة بل شكل منطلقا جديدا و عودة من ساحة وغـى بتفكير جديـد ، وفق منظور آخر حول المستقبل ، فرغم الإحساس بالغبن كانت تخالجه دوما رغبة ملحة في ركوب التحدي منبعثا من وسط رماد أحزانه محلقا و متحديا كل العوائق
" لم أنته بعد ، سأضع قـدري "ص 23 و هكذا فالإحساس بالعودة لحظة مغادرة المنفى أعاده بعضا من معنوياته الهائلة ، رغم الحسرة الغامضة يقـول " خفق قلبي بشدة قبل أن ندخل منعرجا سيحجب عني المدينة و المنفى و ثلاث سنوات أخـرى " ص 23 و هذا الإحساس الغريب هو الذي يشكل العودة الثانية للكاتب إلى نفس المكان، و هي عودة من خلال الذاكرة و ليس عبر الواقع ...
و من بين المواضيع الجانبية التي تخللت النص الأصلي، الحديث عن مسقط الرأس تازة و عن هموم الفلاحين يقول " وجدت البادية بئيسة تتظلل بجفاف قاس "ص 26 " قرأت القلق سطورا على جباه الفلاحين " ص 26
و اعتقد أن النص الذي بين أيدينا لم يكن كاملا لأنني لامست له مقدمة تكمن في نص آخر من نصوص المجموعة و هو تحت عنوان = من أجل لا شيء = ص 34 بحيث يعرض المراحل الأولى للتعيين و الاصطدام مع الواقع الجديد " المنفى " و نظرا لما يتضمنه من حمولات و أفكار و مواقف فقد رأيت أن أضمها لهذا النص كامتداد للتحليل و حفاظا على السيرورة .
لقد ولد الاصطدام في المجال الجغرافي الجديد ؛ مواقف رافضة و إحساس بالإجحاف و التمييـز يقـول " لماذا يا ترى لا يمتهن أبناء الوزراء و كبار الأعيان و أبناء زعماء الأحزاب هذه المهنة الشريفة ؟ " ص 40 " نحن رماة بلا بنادق أو أهـداف نرميها " ص 37 " تمرد الصمت بمزيد من الهـدوء الذي لبس الكون رداءا للتفاهة " ص 40
هذه الدهشة بدت كذلك على شخص آخر و هو الأديب رفيق السارد يقول عنه في ص 40 " ما بال الأديب يلتهم نفسه كجـدار أدابته ذرات الماء المتساقطة " بل وصل الأمر إلى الذروة عندما رآه ينتحب " بقي لفنان يرمق الأفق واقفا مخترقا بنظراته عمق السماء ... عندما سالت دموعه ردد طويـلا : أمي أريدك ، أرجوك ... " ص 40
إنها أقصى درجات العزلة ، حيث تخترق الكلمات الجسد و تدمي جروحه و إحساساته فاللحظة صورت بعمق مأساة الإنسان و انهزامه تحت طائلة أداء الواجب .
أما في نص الضباب فقد بناه المبدع باحترافية من خلالها مواقفه اعتمادا على تقنية الاسترجاع و التذكر بحبكة قل نظيرها معتمدا على تقنيات السرد التي مكنته من اللعب بالصـور و تركيبها وفق خطين مع تزيينها بحدث داخل فضاء مطعم ، ممررا من خلالها مواقفه و منتقدا التخاذل العربي و العرب بصفة عامة، إزاء الاستهتار بقضايا إخوانهم المصيرية . و قد تم ذلك داخل حلقة حدث الحرب اللبنانية ، بحيث يحلق بنا من مصر إلى سهل البقاع مقحما إيانا داخل معارك يومية ضد العدو الإسرائيلي .
و قد اعتمد الكاتب في النص على رمزية كبيرة من خلال توظيف " قيثارة خالد" و هو بطل القصة الأولى " قيثارة خالد كانت تؤنس بنغماتها نفسيتهم " كما اعتبر خالد رمزا للبطل اللبناني المثقف و المتميز داخل رحى حرب قذرة ، رجل يدافع عن قضية و مؤمن بها حد الجنون . كما انتقد عبثية الحرب و قذارتها و كل المساهمين فيها من أجناس بدون مواقف ؛ لا هم لهم سوى الكسب من وراء الدماء و الخراب " لعبة الحرب كانت مربحة بالنسبة إلى كثير من الأجانب الذين يتفرجون الآن على الفصول المميزة من المعارك في تشويق " ص 44
وقد استطاع السارد خلخلتنا بأسئلته و أقحمنا في نقاش حاد " لماذا نتقاتل دون هدف ؟ أو لماذا تتقاتل الميلشيات على شبر من تراب هو ملك لهم جميعا ؟ " ص 44 و اطرح عليه نفس السؤال الأول : لماذا تشارك أنت في هذه اللعبة القذرة في أرض ليست بأرضك و معركة ليست بمعركتك ؟
لم يكن الجواب عسيرا عليه و هو يطرز الحكاية بأجوبة مقنعة جدا يقول أنه صاحب قضية أيضا و صاحب مبدأ لن يتنازل عنه " أخذتني الأحلام السياسية بعيدا حتى وجدت نفسي مطاردا من أجل حلم اشتراكي لذيذ " ص 48 فهو رجل هرب من وطنه من أجل قضية لا يستهويه المال أو الكسب فقد " اختفى قبل عشر سنوات ، اختطف من الحي الجامعي و لم يظهر له أثر منذ ذلك الحين " كما جاء على لسان أمه صفحة 47 و رغم هذا الإيمان الكبير و المواقف الصلبة فقد اعتبر الحرب شيء تافه يقول " هذه الحرب بدت لي تافهة ... فكرة سخيفة " ص 47 لقد خاض الحرب رغم تفاهتها من مبدأ الإيمان بالقضية و ردا على من كانوا يصرخون نفاقا ضدها " حين كنا نهز الأرض تحت أقدام الغزاة ، كان آخرون من إخواننا يصرخون نفاقا ضد العدوان " ص 67
و قد لاحظت أن" القيثارة" كانت استمرار لصاحبها خالد نظرا لما كانت له من مكانة و مواقف فقد ظلت حاضرة " الأصدقاء احتفلوا بها في مدخل الخندق حتى صارت جزءا لا يتجزأ من المعركة " ص46 . عند مغادرة الجنود بيروت باتجاه قبرص ضاعت القيثارة و هذا الضياع فيه رمزية كبيرة فالأبطال يضلون دوما خالدين ، خالد / القيثارة . كما أن السارد اختفى قبل عشر سنوات و هذا تركيب فيه نوع من الجمالية و الدقة و البناء المتكامل لمؤثثات النص .
فقد ظلت القيثارة في أرض المعركة مع جثمان صاحبها و السارد أيضا سيفضل العودة ثانية للبحث عنها و هو موقف اتخذه عندما عرض عليه الشيخ الزواج بابنته الفاتنة حيث أخبره أن الرحيل عن البلاد ربما سيكون نهائيا فهو في نظر أهله مفقود كقيثارة خالد و قد عاش دوما من أجل حلم و قضية " من أجل شيء ضائع " " سأبحث عن قيثارة خالد " ص 48
لقد شكل بطل قصة الضباب نموذجا للمناضل اليساري المضطهد خلال فترة حملات القمع ، بكل طموحه و مواقفه ، فهو متشبث بفكرة و مؤمن بقضية و لا شيء يحول بينه و بين تحقيقها مهما كلفه ذلك و لو حياته .
كما شكلت المرأة داخل قصة الضباب رمز آخر، و تعبير عن وطن جميل بكل مغرياته، و دسائسه و غموضه ، فهي أكثر استشهاء " هذه الأنثى تشدني تقاطيع جسدها البض ، تغازل الفنجان و تفرق البن فتلامسه بلسانها في شبق ترتعش شفتاها كأنها تحاذي خذ حبيب "ص 47
فالبن / البطل و المرأة / الوطن / الجسد الجميل بتضاريسه ، و القيثارة / خالد ( القضية ) و الشيخ / عهد مرحلة ولت تحاول التصالح .... و تعرض فرصا جديدة للبقاء و التعايش ...
أما في قصة ذ ّكرى فالشخصية المحورية تعاني من البؤس الذاتي ، و تشعر بغرابة قاتلة و رغم وضعها الخاص قررت تغيير مسار حياتها بعدما "أحس بالشوق يهرب منه ، كانت اللحظات مجرد صفر على اليسار " " في ظل سكينة زائفة " ص 56 " "ثم انطفأت الأنوار ... كل الأنوار "ص 56
و هذا النص يطرح بقوة و يصور حالة المعتقل السياسي بعد خروجه إلى الحياة من جديد و صعوبة التأقلم التي يعاني منها ، ثم انكماشه أو نفوره المطلق من الناس و الحياة ، وقد مرر لنا الكاتب صور هذه القصة بكل قتامتها فاضحا أساليب الاضطهاد و التعذيب التي عانى منها آلاف الأشخاص في ظل ما بات يعرف بسنوات الجمر " ذكريات الحب و الألم و الزنزانة و المعتقل و سوط الجلاد .." ص 52 و تقدم القصة واقعا لأشخاص مهزومون بالقوة ، أمام قساوة الواقع الذي تنكسر فيه الأحلام ، و يفقد الإنسان إنسانيته و كرامته و المرأة اتخذت صفة الإنسانة ذات المشاعر الفياضة و الجميلة، فبعد اعتقال حبيبها تضطر الشخصية المحورية الثانية في النص إلى الاختفاء بشكل مطلق ثم تعود للبحث عنه بعد عشر سنوات من خروجه من المعتقل و معها طفلة صغيرة و كلها أمل في العودة إلى الحبيب الذي تركته لأسبابها الخاصة ( ؟ ؟ ) ...
و كانت لعودتها بشكل مفاجئ أثر كبير عليه ، و هو أمر قلب ذكريات البطل و أعادته سنوات كثيرة إلى الوراء " بعد عشر سنوات يلتقيان مرة أخرى ، بسرعة مضت الأعوام "ص 52
الأعوام مرت بسرعة و أوجاعه لازالت عالقة بذهنه و آثارها على جسده و نفسيته " رائحة جذران السجن طرية تسيج الذاكرة الخائفة " ص 54 و هو أمر أعطاه الإحساس " بغصة في حلقه ، لماذا يا ترى تحاصره الذكريات بكل قبيح أيضا "ص 53
مع القبح و الحزن و الظلمة يحاول البطل تجرع قلقه المستديم ، فالاعتقال علمه الوحدة و عدم الثقة و الخوف من النور و من الآخرين ، ومن كل الذين خذلوه ، حتى حبيبته فهو لا يعيش الحاضر كروح بل فقط كذات تساير فعل الزمن و عقل و نفسية غارقة جدا في تفاصيل الماضي أما الحاضر فهو يمثل بالنسبة له " سكينة زائفة " ص 56 " و ذاكرة خائفة "على نفس الإيقاعات القديمة و الأذواق السالفة حتى الموسيقى لا تزال نفسها " موسيقى حزينة ، و نغمات أنتغونا " ص 51 كما أن القلق المستديم و الحيرة القاتلة تسببا له في التورط في بعض العادات السيئة " صب من زجاجة الكونياك في كأسه و تجرعه دفعة واحدة " ص 54
و يتضمن هذا النص حس انتقادي للواقع و بالخصوص الشخصية رقم (2) عشيقته السالفة تقولها مزدرية نفسها " لقد انضممت إلى جيش المطلقة بطفلة جميلة جئت بها إلى هنا ، قررت أن أعمل " ص53 . هذا الازدراء للحالة و للوضع و للنفس تعبير عن الضياع و محاولة للبحث من جديد في ظل واقع مرير عن فرصة لإعادة ترميم الذات المهزومة و المنكسرة في إشارة إلى فترة تفاقم الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية بالبلاد بصفة عامة و أوضاع النساء بصفة خاصة ، فالبطلة تميط اللثام عن الواقع الجديد محاولة تدارك بصيص أمل فيه و البحث عن موضع قدم داخل مستقبل مجهول .
كما يبرز هذا النص الحقد الدفين للذات و الماضي و الشك في المستقبل " نظرت إلى عينيه مستكشفة ، كانت تهرب بنظراتها بعيدا عن مرماهما [..] عرف أخيرا أن الحيرة استبدت به " ص 53
إنها صورة مصغرة لآلاف الأشخاص في العديد من بقاع العالم ممن تعرضوا للعنف و الاضطهاد بسبب أفكار حملوها أو معتقدات آمنوا بها ... و هي قيمة مضافة أخرى في هذا النص بعد نص الضباب .
أما في نص " الحريق " فالأحداث تجري بين فاس و صقلية و تجمع بين تفاصيلها عشق امرأة . لقد كان العشق سببا للهجرة ، و كذلك سببا للقتل فدخول البطل إلى عالم الجريمة المنظمة بصقلية كان له أثـر كبير في تحوله إلى وحش كاسر ، و بدون الدخول في تفاصيل النص فقد قـدم الكاتب صورة لحيوان أليـف لكنه سرعان ما تحول إلى سفاك دماء حقيقي لم تكن تهمه الأرواح التي خلفها وراءه في صقيلة أو حفلة العرس بقدر ما كان يبـدو في شخص رامبو جديد همه الوحيد هو حاجته و ضالته في معركة طويلة لا مجال فيها للمشاعر .
لقد أطرت مشاهد العنف القوية و الغير مألوفة في نصوص " صخر المهيـف " الحارقة هذا النص الذي كتب بأنفاس متعددة و حمولات انفعالية قوية جـدا تمكن من خلالها تعريف وجه من وجوه الحقيقة المقنعة و الصور الباذخة التي نحملها جميعا في أذهاننا عن المهاجرين الذين يعيشون وهما كبيرا لكنه قاتل .
كما يبرز النص مدى الإحباط الكبير الذي يلف كثيرا من الناس و يعري زيف مظاهرهم و أحلامهم و بالتالي يرسم صور لشخصية مفتولة العضلات لكنها مغلوبة على أمرها ، رجل غبي كل الغباء. أما المرأة و إن أثثت فضاء النص القصصي بوداعتها في البداية ، فسرعان ما لبثت وأن تحولت إلى شخصية منساقة وراء مصالح والدها و أحلامه ، شخصية ضعيفة و بلا مبادئ و منكسرة أيضا. و هذا النص في نظري نموذج آخر و شهادة أخرى و مثال أكثر دلالة و عمقا في تصوير الإنسان و نوازعه / ضعفه / هذيانه في ركوب مغامرة معروفة العواقب و المصير مسبقا .
أما في في نص " ليس عدلا " فقد كان العنوان أكثر دقة و إيجازا و هو صرخة و احتجاج ضد عدل زائف و جائر ...
فالقصة اجتماعية بامتياز و تحكي بصدق عن الظلم الاجتماعي الذي تعرض له الكثير من الأبرياء و مشي ضحيته كل من رغب في تكسير رتابة حياته ، و هذا كان تحذير ساخر من الكاتب فالبطل " كان قد ضجر من المكوث في الدكان و مداعبة المكاييل و محاورة الزبناء "ص 62 و بما أنه رجل يحب الحياة فقد كان واجبه كتاجر يفرض عليه التواجد بدكانه باستمرار لخدمة الزبناء " لا يحضى بيوم عطلة واحد " ص 62
و هو داخل الحانة جالس رجلا يحتسي معه نفس النبيذ و ناقش معه العديد من المواضيع . و حدث أن ألقي القبض على بطل القصة بتهمة السكر العلني و لم يكن القاضي الذي ترأس أطوار الجلسة سوى ذلك الرجل الذي كان يتبادل معه الحديث و يشرب معه نفس الخمر الرديء " لو يكن نديمه إلا شخصا مهما في المدينة الكبيرة حسب ما دار بينهما من حديث " و بعد خروجه من السجن فكر في الانتقام منه على طريقته و تم له ذلك .
ما يمكن المسك به من خيوط في هذا النص هو مجموعة من الصور و المواقف شكلت أبرز مفاتيح هذا النص ؛ فالجلوس وجها لوجه اتخذ صورتين : الأولى في " البـار " و كانت أكثر حميمية و الثانية في قاعة المحكمة و كانت أكثر برودة و جفاء ، تطبيق القانون داخل المحكمة / تطبيق القانون في الشارع . الحبس / الحرية – الاغتناء / الفقر
القضية المحورية التي يطرحها نص ليس عدل هو السخرية من الواقع / القانون / و هي صورة واضحة و إشارة مفهومة إلى الخلل الذي يشوب نصوصا قانونية لأنها لا تطبق إلا على البسطاء من الناس . كما يطرح النص قضية الجفاء الذي يتعرض له المرء من طرف الأصدقاء فالبطل بمجرد ما دخل السجن تنكر له الجميع باستثناء زوجته " تذكر أنه تقيأ بعض الأحباب و الأصدقاء " ص 64 . و كلمة تقيأ هنا تحمل أكثر من دلالة في مجتمع مبنية قيمه على الوصولية و المصلحة و الخداع و الغـدر
ومن جماليات البناء القصصي في هذا النص أن بداية أحداثه كانت من الوسط / العمق لحظة خروج البطل من السجن " راوغ صوت المزلاج الحديدي أصوات أخرى تزاحمت في مخيلته ... تذكر شيئا مهما في ليلة عتيقة ، حدث شيء لم يبرح عقله " ص 62 فكثافة هذه الجملة بكل ما تحمله من دلالات بنيت بشكل رائع جدا ، بطريقة سينمائية تلعب فيه الصورة دورا مهما سواء على مستوى الفلاش باك أو على مستوى تشويق المتلقي أو القارئ و إجباره على التقاط كل الحيثيات المحيطة بالحدث وفق منظور و فنية و حبكة متميزتين .
لقد جاءت الأحداث متقطعة و متداخلة مع تصوير جميل و عميق لنفسية البطل و حنقه و هذيانه بشكل جعل البطل أشبه ما يكون في متاهة يصعب المغامرة فيها واقتحام عوالمها خوفا من التيه بدون بريق أو سنا ضوء خافت .
أما نص الهروب فتؤطره تيمات متعددة : المدينة / المرأة / الحلم ، و قد شكلت الأولى " ملاذا للاستشفاء من [ الجروح] الغائرة " ص 57 . و فضاء للهروب من صخب الواقع ، و الثانية نموذجا للمرأة المحبوبة لكنها من طينة أخرى ومن عالم مختلف تمام الاختلاف عما أسلفه السارد " كل ما أعرفه هو أنني جئت باحثا عن امرأة أعرفها جيدا من خلال الخطوط فقط " ص 57 و الثالثة الحلم .. أطللت مرة أخرى على الفردوس المفقود ، بللني البحر برذاذه غطست فيه طويلا ، حسبته يغسلني من أدران العفن و لوثة المساء " ص 57
و قد امتزجت صورتا المرأة و المدينة و اتخذتا أحيانا صورة واحدة لكنها كانت قاتمة جدا و كونتا أحيانا أخرى حلما جميلا " لا يطيب المقام بمدينة أدفأتني من قبل " ص 59 " الحياة علمتني أن الإبحار في بحر المرأة ، مثل الموج لا يتطلب التخاذل أبدا " ص 59 .
لذا رغب عنهما معا و عاش مع حلمه الجميل و صورة امرأة يعشقها " دخلت غرفتها ... لم يشعر بي أحد تأملتها طويلا [ ] لا مست خصلة من شعرها الفحمي ، خلت خريطة الوطن مرسومة على تقاطيع جسدها النابض " ص 61 فالمرأة مدينة و المدينة امرأة " إنها أجمل من رأيت فيهما أسئلة مشتعلة بمقدار عشقي "ص 60 و كل هذه الرؤى كانت هروبا من الواقع لأنه كان " نائم في سرير اللامبالاة السرمدية " ص 60 كما أن دخوله على حبيبته و هي نائمة " لم تشعر بوجودي ، كما لم تعرف أنني قادم من بعيد ، فثمة بحر ينتظرني " ص 61
كان حكيا داخل الحكي أو سردا داخل سرد، و هو أمر مقصودا لإكمال الحدث و إضفاء صورة غرائبية عليه ، فقد أوهمنا حد الاعتقاد أن ما يحدث حقيقي رغم تحذيراته .
الهروب كان بالروح لا بالجسد كان سفرا عبر ذاكرة / خيال مع تأثيث جيد لفضاء الحلم كمؤطر للأحداث فيه يصنع الحدث و من خلاله يتم الربط بين فضاءات أخرى المدينة / ذات المرأة ، رغم أن كل أحداث النص كانت تدور داخل نفسية المبدع و خياله بأسئلة محرقة و لذيذة و استعمال لغة عذبة إنسابت انسياب الرذاذ المنفلت من أمواج البحر التي لا تبلل مطلقا بقدر ما تدخل الرعشة الجميلة يقول " إنها أجمل ما رأيت ، رأيت فيها أسئلة مشتعلة بمقدار عشقي ، فيها ذاك الومض الخافت الذي يكشفني أمامها و أمام نفسي " ص 60
أما في نص" القبر المنسي" فتؤطره سمة أساسية تجلت في حدث حزين درامي ؛ موت شاب بعيدا عن الوطن و دفن في قبر منسي بتونس لكون والده لا يستطيع دفع تكاليف نقل جثمانه إلى الوطن هناك " دفن عـزيز بتونس ، لكن لماذا ؟ كنت أعرف بأن عم إدريس أفقر من أن يتوفر على ذلك المبلغ ... لماذا يموت بعيدا و يدفن بعيدا ؟ " و هنا يضعنا الكاتب في إطار النص بشكل عام فالبلد الذي لا يكرم أبناءه أحياء هل باستطاعته أن يكرمهم و هم أموات ؟
و قد كان هذا الحدث الرئيسي منطلقا للغوص في كثير من التفاصيل الخاصة بطفولة السارد رفقة " عزيز " و قد ذكرها بنوع من الحرقة و هو يحتسي زجاجة نبيذ رخيص تحت شجرة في مقبرة ، و لعل الفضاء الذي تم فيه السرد له أكثر من دلالة فعادة ما يكون مكانا للخوف و الرهبة " الموت " والأشباح بقدر ما أضحى بالنسبة للسارد مكانا للبوح الصامت ، بوح للأموات و قرب قبر منسي أو لربما قبور منسية ، و هذا له دلالات متعددة و رمزية كبيرة فتواجده أصلا هناك كان ضمن لائحة الأموات نفسيا لا جسديا . و إن كان الخمر وسيلة لنسيان فاجعة الموت فقد كان بالنسبة للسارد يشكل وسيلة لصفاء الذهن ومنحها القدرة على رثاء صديقه بطريقته الخاصة من خلال استرجاعه لمرحلة الطفولة المؤثثة بذكريات القرية الجميلة.
ويعتبر هذا النص بمثابة النص السيرداتي الثالث من ضمن نصوص المجموعة و لم يفت السارد من تضمينه بإشارات عن الجنوب المغـربي " إذ نفيت إلى إحـدى واحات الجنوب ، من أجل لا شيء ... " و هي إشارات التقطها عرضا و جاءت في سياق حديثه عن صديق الطفولة عزيز الذي لازمه لفترة طويلة جدا .
و مكانة عزيز حسب النص كانت جد مهمة بحيث معه و من خلال الحديث عنه التقطنا مساحات زمنية كبيرة من طفولة السارد و بالتالي صورة واضحة و جلية عن الوسط الذي عاش فيه و كثير من الأحداث التي أثرت في تكوين شخصيته كالعلاقة بالأخ و الأم و الأصدقاء و المجال بحيث رسم صورة بانورامية للقرية بكل تفاصيلها و هذا النص نظرا لمكانته عند القاص صخر المهيف فقد تصدر نصوص المجموعة و هو اختيار لا محالة له أسبابه و دواعيه حسيب ما استقيناه مقارنة مع باقي نصوص المجموعة ، و نظرا للحالة النفسية التي كتب بها-النص - فقد اعتبرته أول النصوص السيرذاتية التي كتبت بحرقة كبيرة و مرارة أكبر ... في محاولة للتأريخ للحدث و لنسيان الفاجعة التي حلت به فجأة ... لكونها كذلك تزامنت مع محنة منفاه السحيق و ما شابها من عذاب و حرقة كبيرين ، عذاب النفس / حرقة الذات ذات مبدع يفتض بكارة مساحات الأوراق البيضاء بمداد المعانات و آلاف من الصور و الذكريات .
و في ختام هذه القراءة سوف نتناول سؤال الكتابة عند القاص صخر المهيف الذي يترجم إلى حفل وجودي يأخذ أشكالا متعددة بحيث يمتع من أشكال تعبير مختلفة : الشعر / الخاطرة / المقالة / القصة، و إبداعات مرتبطة بشكل كبير بالواقع الإنساني و لحظاته المنفلتة بلغة شفافة و شاعرية .
تنبني أغلب قصص المجموعة بشكل جمالي بحيث نجدها ذات حمولات نفسية عميقة تحاكم الذات و الواقع و الوطن في إطار فهم و استيعاب كبير لكل التفاصيل .
و المجموعة تقدم نوعا من الاحتجاج يتجاوز ما هو اجتماعي ليشمل ما هو وجودي ، فالمبدع يتحدث عن عذاب الإنسان في نصوصه بصفة عامة و هو بهده الرؤية الشمولية يواجه الواقع المتردي من خلال التطرق للأوضاع النفسية كالشعور باليأس و الضياع و التيه ، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي . كما ينتقد الواقع العربي و مواقفه كما هو الحال في نص " الضباب " و هي مواقف متخاذلة إزاء قضايا مصيرية .
كما تطرقت المجموعة إلى موضوع الاعتقال و الاختطاف القسريين ، وقدمت صور قاتمة عن مغرب سنوات الجمر بكل جرأة و مرارة ، بالإضافة إلى إدانة الواقع الطبقي من جراء القهر و غياب عدالة اجتماعية << ليس عدلا / من أجل لاشيء / القبر المنسي / لعودة من منفى سحيق >>
تمتاز كتابة القاص المغربي صخر المهيف بنوع من السخرية من الواقع المرير و يبرز ذلك بوضوح من خلال الصراع مع النفس / و الطبيعة / و الآخر . منتقدا غياب إنسانية الإنسان و رصانة المواقف كما هو الشأن في نص " الحريق " .
بنى عالمه القصصي اعتمادا على المزج بين الواقع و الخيال وفق تركيبة خاصة اعتمدت أساسا لها المجتمع بكل سلبياته و أفكاره و مكوناته من خلال العديد من النماذج : المرأة / الساسة / السياسة / الفكـر / التخلف / الهجرة / الموت / السكر الجريمة الاعتقال / الحب / الكراهية / العدالة / القهر الاجتماعي / المنفى / المدينة .
أغلب شخوص المجموعة مهزومون يحسون بالانسحاق .
تبادل الكاتب مع بعض أبطال القصة صوت السارد و هذا الأمر أغرق بعض المضامين بمعاني اليأس و العبث و الضياع بحيث يتجلى الواقع كصورة مرئية للأبطال بشكل قاتم .
تعامله مع عدة وسائط منها الموسيقى / الخمر / الزمان / المكان / الصور / الخاطرة / التأمل من داخل فضاء أكبر هو اللغة بشكل أنيق و سلس تنم عن احترافية و تمكن كبيرين .
أغلب نصوص المجموعة مذيلة بتاريخ و مكان الانتهاء من كتابتها باستثناء نص واحد هو نص " الحريق " و هو أمر مكننا من أخذ صورة عن الفترة الزمنية التي كتبت فيها النصوص من 1994 إلى 2002 و أغلبها كتبت بفاس، و طاطا ، و طنجة .
تمتاز نصوص المجموعة بتعدد الأنفاس و الفضاءات و المواضيع من خلال إبداع متجدد و متعدد ( لا يعيد إنتاج نفسه ) داخل إطار عام و هادف وواضح و من خلال مشروع طويل الأمد بعين ثاقبة، و راصدة لكل خلل و متغير دون أن ينفلت من قبضته شيء ، كما أن زوايا الالتقاط كانت مختلفة و دقيقة للحدث دون أن تغرقه في كثير من التفاصيل مما جعل بناء النص يأخذ أشكالا متعددة و تقنيات متنوعة ( الفلاش باك / بداية الحدث من الوسط / السرد داخل السرد / توازي قضيتين أو أكثر داخل بناء قصصي واحد ) مما يجعل النصوص تمتاز بحبكة قصصية تتمظهر فيها أدوات من ضمنها الوصف للمحيط و الشخوص مع الالتزام بصيرورة أفقية للحركة ، كما أن الحدث الحكائي هو محوري و منظم لعملية السرد ، بالإضافة إلى استعراض لبعض المواقف كأداة للتعبير عن جل المضامين لجعلها تتخذ طابعا واقعيا .
كما تتضمن نصوص المجموعة حس انتقادي شمولي داخل بناء فلسفي هدف من خلاله تأصيل القيم الحقيقية في مجتمع فاسد و منحل ، محتجا على العالم ، وهو ضمنيا احتجاج على الواقع الاجتماعي الذي نما فيه و نضج فيه ككاتب ، فالنصوص تقدم إنسانا يحس بأن العالم ليست له قيمة أو معنى من خلال عدة تساؤلات محورية اعتبرها قيمة مضافة ، تأصل لفعل إبداعي متميز و هادف جاد مليء بالاحتراف و الروعة و البـوح الجميـل .
حميد ركاطة قاص و باحث مغربي
و لعل أبرز مفاتيح هذا النص كان رسالة تلقاها من حبيبته مما أعطاه إحساسا بالعزلة و الحقيرة ، و رغم أن مضمونها لم يبح به السارد إلا أن ما بدا على نفسيته و ما باح به من أهات و بدى على محياه يكفي لفهم بعض أسباب هذا الانقلاب إلى أقصى درجات العزلة " تأملت الجبل الغربي ، كنت أريد أن أبكي ، لكن الدموع احتبست في محجري ، أحسست بغصة في حلقي " ص 30 بل وصل به الامر إلى الشعور بالهزيمة " شعرت بوطء الهزيمة ثقيلا علي ... أومن بأنني خسرت معرقة كانت أكبر مني بكثير ..." ص 31 .
لكن التساؤل المطروح بشدة : هل الخسارة في فصل معركة واحدة يعد خسارة للحرب بأكملها ؟ أليس في الأمر فرصة للتأمل و إعادة توحيد الصفوف من جديد ، وتضميد لكل الجراح الغائرة ؟ ففي أعماق اليأس تفتح لا إراديا أبواب أخرى تكون مغلقة يقول " كنت أشتغل لساعات طويلة ، و كلما فرغت من رواية أو قصة إلا و احتفلت بها احتفالا كبيرا " ص 31 فالقسوة و القهر و اليأس فتقت في أغصان شجرة عانت بعد مرور ويـلات فصل شتاء قارص وريقات جديدة وورودا بنفسجية و بيضاء جميلة واعدة بالكثير من العطاء ، بعد اشراقة شموس الربيع الحالمة والدافئة .
و لكي نمسك بمفتاحنا الأولي للنص جيدا نورد كيف جاء الحديث عن الرسالة بشكل عرضي في ص 29/30 " في ذلك الصباح داخت بي الدنيا .. قلبت الورقة في لهفة ... أحسست بأن رجلي لم تعودا تستطيعان حملي ... لم أعد أرى شيئا ... عدوت إلى المسكن حائرا و ملايين الأسئلة تلح علي دون أن أجد لها جوابا " فالحبيبة كانت هي الأمل الوحيد الذي يخفف من قسوة المنفى و أهواله .
كما تم تضمين النص بشكل متوازي لمواضيع أخرى حملتنا إلى عوالم السارد النفسية مما منحها نفسا و نكهة متميزة ، و بالتالي الإحساس بالانتقال و لو عبر الذاكرة إلى روعة الجنوب المغربي و التمتع بروعة غروب الشمس أو طلوع القمـر في جولة موغلة في فضاء لا محدود و مترامي الأطراف . مما أضفى جمالية على القصة الأصلية و جعلها تحبل بقيـم جمالية و تأملات فلسفية وجودية، و أعطاها قوة تأملية قل نظيرها في نصوص أخرى .منها على سبيل المثال لا الحصر ، الحب و مراتبه / هدوء الليل / الصمت / القمر و جماله / ورقة الإحساس رغم مرارة الواقع يقول "أحمل قلبا جريحا و كثيرا من ...الأشرطة الموسيقية .. " ص 32
و لم يمنع الجرح الغائر و الألم الكبير الكاتب مراجعة مواقفه و تصحيح أفكاره و كل ما يحيط به أو يتعلق به يقول عن المرأة على سبيل المثال " إمرأة عاقة قتلت حلمي في مهده ، اغتالت ورودا كانت تتفتح يوما بعد يوم " و هذا البوح الصامت لم يكن نهاية للقصة بل شكل منطلقا جديدا و عودة من ساحة وغـى بتفكير جديـد ، وفق منظور آخر حول المستقبل ، فرغم الإحساس بالغبن كانت تخالجه دوما رغبة ملحة في ركوب التحدي منبعثا من وسط رماد أحزانه محلقا و متحديا كل العوائق
" لم أنته بعد ، سأضع قـدري "ص 23 و هكذا فالإحساس بالعودة لحظة مغادرة المنفى أعاده بعضا من معنوياته الهائلة ، رغم الحسرة الغامضة يقـول " خفق قلبي بشدة قبل أن ندخل منعرجا سيحجب عني المدينة و المنفى و ثلاث سنوات أخـرى " ص 23 و هذا الإحساس الغريب هو الذي يشكل العودة الثانية للكاتب إلى نفس المكان، و هي عودة من خلال الذاكرة و ليس عبر الواقع ...
و من بين المواضيع الجانبية التي تخللت النص الأصلي، الحديث عن مسقط الرأس تازة و عن هموم الفلاحين يقول " وجدت البادية بئيسة تتظلل بجفاف قاس "ص 26 " قرأت القلق سطورا على جباه الفلاحين " ص 26
و اعتقد أن النص الذي بين أيدينا لم يكن كاملا لأنني لامست له مقدمة تكمن في نص آخر من نصوص المجموعة و هو تحت عنوان = من أجل لا شيء = ص 34 بحيث يعرض المراحل الأولى للتعيين و الاصطدام مع الواقع الجديد " المنفى " و نظرا لما يتضمنه من حمولات و أفكار و مواقف فقد رأيت أن أضمها لهذا النص كامتداد للتحليل و حفاظا على السيرورة .
لقد ولد الاصطدام في المجال الجغرافي الجديد ؛ مواقف رافضة و إحساس بالإجحاف و التمييـز يقـول " لماذا يا ترى لا يمتهن أبناء الوزراء و كبار الأعيان و أبناء زعماء الأحزاب هذه المهنة الشريفة ؟ " ص 40 " نحن رماة بلا بنادق أو أهـداف نرميها " ص 37 " تمرد الصمت بمزيد من الهـدوء الذي لبس الكون رداءا للتفاهة " ص 40
هذه الدهشة بدت كذلك على شخص آخر و هو الأديب رفيق السارد يقول عنه في ص 40 " ما بال الأديب يلتهم نفسه كجـدار أدابته ذرات الماء المتساقطة " بل وصل الأمر إلى الذروة عندما رآه ينتحب " بقي لفنان يرمق الأفق واقفا مخترقا بنظراته عمق السماء ... عندما سالت دموعه ردد طويـلا : أمي أريدك ، أرجوك ... " ص 40
إنها أقصى درجات العزلة ، حيث تخترق الكلمات الجسد و تدمي جروحه و إحساساته فاللحظة صورت بعمق مأساة الإنسان و انهزامه تحت طائلة أداء الواجب .
أما في نص الضباب فقد بناه المبدع باحترافية من خلالها مواقفه اعتمادا على تقنية الاسترجاع و التذكر بحبكة قل نظيرها معتمدا على تقنيات السرد التي مكنته من اللعب بالصـور و تركيبها وفق خطين مع تزيينها بحدث داخل فضاء مطعم ، ممررا من خلالها مواقفه و منتقدا التخاذل العربي و العرب بصفة عامة، إزاء الاستهتار بقضايا إخوانهم المصيرية . و قد تم ذلك داخل حلقة حدث الحرب اللبنانية ، بحيث يحلق بنا من مصر إلى سهل البقاع مقحما إيانا داخل معارك يومية ضد العدو الإسرائيلي .
و قد اعتمد الكاتب في النص على رمزية كبيرة من خلال توظيف " قيثارة خالد" و هو بطل القصة الأولى " قيثارة خالد كانت تؤنس بنغماتها نفسيتهم " كما اعتبر خالد رمزا للبطل اللبناني المثقف و المتميز داخل رحى حرب قذرة ، رجل يدافع عن قضية و مؤمن بها حد الجنون . كما انتقد عبثية الحرب و قذارتها و كل المساهمين فيها من أجناس بدون مواقف ؛ لا هم لهم سوى الكسب من وراء الدماء و الخراب " لعبة الحرب كانت مربحة بالنسبة إلى كثير من الأجانب الذين يتفرجون الآن على الفصول المميزة من المعارك في تشويق " ص 44
وقد استطاع السارد خلخلتنا بأسئلته و أقحمنا في نقاش حاد " لماذا نتقاتل دون هدف ؟ أو لماذا تتقاتل الميلشيات على شبر من تراب هو ملك لهم جميعا ؟ " ص 44 و اطرح عليه نفس السؤال الأول : لماذا تشارك أنت في هذه اللعبة القذرة في أرض ليست بأرضك و معركة ليست بمعركتك ؟
لم يكن الجواب عسيرا عليه و هو يطرز الحكاية بأجوبة مقنعة جدا يقول أنه صاحب قضية أيضا و صاحب مبدأ لن يتنازل عنه " أخذتني الأحلام السياسية بعيدا حتى وجدت نفسي مطاردا من أجل حلم اشتراكي لذيذ " ص 48 فهو رجل هرب من وطنه من أجل قضية لا يستهويه المال أو الكسب فقد " اختفى قبل عشر سنوات ، اختطف من الحي الجامعي و لم يظهر له أثر منذ ذلك الحين " كما جاء على لسان أمه صفحة 47 و رغم هذا الإيمان الكبير و المواقف الصلبة فقد اعتبر الحرب شيء تافه يقول " هذه الحرب بدت لي تافهة ... فكرة سخيفة " ص 47 لقد خاض الحرب رغم تفاهتها من مبدأ الإيمان بالقضية و ردا على من كانوا يصرخون نفاقا ضدها " حين كنا نهز الأرض تحت أقدام الغزاة ، كان آخرون من إخواننا يصرخون نفاقا ضد العدوان " ص 67
و قد لاحظت أن" القيثارة" كانت استمرار لصاحبها خالد نظرا لما كانت له من مكانة و مواقف فقد ظلت حاضرة " الأصدقاء احتفلوا بها في مدخل الخندق حتى صارت جزءا لا يتجزأ من المعركة " ص46 . عند مغادرة الجنود بيروت باتجاه قبرص ضاعت القيثارة و هذا الضياع فيه رمزية كبيرة فالأبطال يضلون دوما خالدين ، خالد / القيثارة . كما أن السارد اختفى قبل عشر سنوات و هذا تركيب فيه نوع من الجمالية و الدقة و البناء المتكامل لمؤثثات النص .
فقد ظلت القيثارة في أرض المعركة مع جثمان صاحبها و السارد أيضا سيفضل العودة ثانية للبحث عنها و هو موقف اتخذه عندما عرض عليه الشيخ الزواج بابنته الفاتنة حيث أخبره أن الرحيل عن البلاد ربما سيكون نهائيا فهو في نظر أهله مفقود كقيثارة خالد و قد عاش دوما من أجل حلم و قضية " من أجل شيء ضائع " " سأبحث عن قيثارة خالد " ص 48
لقد شكل بطل قصة الضباب نموذجا للمناضل اليساري المضطهد خلال فترة حملات القمع ، بكل طموحه و مواقفه ، فهو متشبث بفكرة و مؤمن بقضية و لا شيء يحول بينه و بين تحقيقها مهما كلفه ذلك و لو حياته .
كما شكلت المرأة داخل قصة الضباب رمز آخر، و تعبير عن وطن جميل بكل مغرياته، و دسائسه و غموضه ، فهي أكثر استشهاء " هذه الأنثى تشدني تقاطيع جسدها البض ، تغازل الفنجان و تفرق البن فتلامسه بلسانها في شبق ترتعش شفتاها كأنها تحاذي خذ حبيب "ص 47
فالبن / البطل و المرأة / الوطن / الجسد الجميل بتضاريسه ، و القيثارة / خالد ( القضية ) و الشيخ / عهد مرحلة ولت تحاول التصالح .... و تعرض فرصا جديدة للبقاء و التعايش ...
أما في قصة ذ ّكرى فالشخصية المحورية تعاني من البؤس الذاتي ، و تشعر بغرابة قاتلة و رغم وضعها الخاص قررت تغيير مسار حياتها بعدما "أحس بالشوق يهرب منه ، كانت اللحظات مجرد صفر على اليسار " " في ظل سكينة زائفة " ص 56 " "ثم انطفأت الأنوار ... كل الأنوار "ص 56
و هذا النص يطرح بقوة و يصور حالة المعتقل السياسي بعد خروجه إلى الحياة من جديد و صعوبة التأقلم التي يعاني منها ، ثم انكماشه أو نفوره المطلق من الناس و الحياة ، وقد مرر لنا الكاتب صور هذه القصة بكل قتامتها فاضحا أساليب الاضطهاد و التعذيب التي عانى منها آلاف الأشخاص في ظل ما بات يعرف بسنوات الجمر " ذكريات الحب و الألم و الزنزانة و المعتقل و سوط الجلاد .." ص 52 و تقدم القصة واقعا لأشخاص مهزومون بالقوة ، أمام قساوة الواقع الذي تنكسر فيه الأحلام ، و يفقد الإنسان إنسانيته و كرامته و المرأة اتخذت صفة الإنسانة ذات المشاعر الفياضة و الجميلة، فبعد اعتقال حبيبها تضطر الشخصية المحورية الثانية في النص إلى الاختفاء بشكل مطلق ثم تعود للبحث عنه بعد عشر سنوات من خروجه من المعتقل و معها طفلة صغيرة و كلها أمل في العودة إلى الحبيب الذي تركته لأسبابها الخاصة ( ؟ ؟ ) ...
و كانت لعودتها بشكل مفاجئ أثر كبير عليه ، و هو أمر قلب ذكريات البطل و أعادته سنوات كثيرة إلى الوراء " بعد عشر سنوات يلتقيان مرة أخرى ، بسرعة مضت الأعوام "ص 52
الأعوام مرت بسرعة و أوجاعه لازالت عالقة بذهنه و آثارها على جسده و نفسيته " رائحة جذران السجن طرية تسيج الذاكرة الخائفة " ص 54 و هو أمر أعطاه الإحساس " بغصة في حلقه ، لماذا يا ترى تحاصره الذكريات بكل قبيح أيضا "ص 53
مع القبح و الحزن و الظلمة يحاول البطل تجرع قلقه المستديم ، فالاعتقال علمه الوحدة و عدم الثقة و الخوف من النور و من الآخرين ، ومن كل الذين خذلوه ، حتى حبيبته فهو لا يعيش الحاضر كروح بل فقط كذات تساير فعل الزمن و عقل و نفسية غارقة جدا في تفاصيل الماضي أما الحاضر فهو يمثل بالنسبة له " سكينة زائفة " ص 56 " و ذاكرة خائفة "على نفس الإيقاعات القديمة و الأذواق السالفة حتى الموسيقى لا تزال نفسها " موسيقى حزينة ، و نغمات أنتغونا " ص 51 كما أن القلق المستديم و الحيرة القاتلة تسببا له في التورط في بعض العادات السيئة " صب من زجاجة الكونياك في كأسه و تجرعه دفعة واحدة " ص 54
و يتضمن هذا النص حس انتقادي للواقع و بالخصوص الشخصية رقم (2) عشيقته السالفة تقولها مزدرية نفسها " لقد انضممت إلى جيش المطلقة بطفلة جميلة جئت بها إلى هنا ، قررت أن أعمل " ص53 . هذا الازدراء للحالة و للوضع و للنفس تعبير عن الضياع و محاولة للبحث من جديد في ظل واقع مرير عن فرصة لإعادة ترميم الذات المهزومة و المنكسرة في إشارة إلى فترة تفاقم الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية بالبلاد بصفة عامة و أوضاع النساء بصفة خاصة ، فالبطلة تميط اللثام عن الواقع الجديد محاولة تدارك بصيص أمل فيه و البحث عن موضع قدم داخل مستقبل مجهول .
كما يبرز هذا النص الحقد الدفين للذات و الماضي و الشك في المستقبل " نظرت إلى عينيه مستكشفة ، كانت تهرب بنظراتها بعيدا عن مرماهما [..] عرف أخيرا أن الحيرة استبدت به " ص 53
إنها صورة مصغرة لآلاف الأشخاص في العديد من بقاع العالم ممن تعرضوا للعنف و الاضطهاد بسبب أفكار حملوها أو معتقدات آمنوا بها ... و هي قيمة مضافة أخرى في هذا النص بعد نص الضباب .
أما في نص " الحريق " فالأحداث تجري بين فاس و صقلية و تجمع بين تفاصيلها عشق امرأة . لقد كان العشق سببا للهجرة ، و كذلك سببا للقتل فدخول البطل إلى عالم الجريمة المنظمة بصقلية كان له أثـر كبير في تحوله إلى وحش كاسر ، و بدون الدخول في تفاصيل النص فقد قـدم الكاتب صورة لحيوان أليـف لكنه سرعان ما تحول إلى سفاك دماء حقيقي لم تكن تهمه الأرواح التي خلفها وراءه في صقيلة أو حفلة العرس بقدر ما كان يبـدو في شخص رامبو جديد همه الوحيد هو حاجته و ضالته في معركة طويلة لا مجال فيها للمشاعر .
لقد أطرت مشاهد العنف القوية و الغير مألوفة في نصوص " صخر المهيـف " الحارقة هذا النص الذي كتب بأنفاس متعددة و حمولات انفعالية قوية جـدا تمكن من خلالها تعريف وجه من وجوه الحقيقة المقنعة و الصور الباذخة التي نحملها جميعا في أذهاننا عن المهاجرين الذين يعيشون وهما كبيرا لكنه قاتل .
كما يبرز النص مدى الإحباط الكبير الذي يلف كثيرا من الناس و يعري زيف مظاهرهم و أحلامهم و بالتالي يرسم صور لشخصية مفتولة العضلات لكنها مغلوبة على أمرها ، رجل غبي كل الغباء. أما المرأة و إن أثثت فضاء النص القصصي بوداعتها في البداية ، فسرعان ما لبثت وأن تحولت إلى شخصية منساقة وراء مصالح والدها و أحلامه ، شخصية ضعيفة و بلا مبادئ و منكسرة أيضا. و هذا النص في نظري نموذج آخر و شهادة أخرى و مثال أكثر دلالة و عمقا في تصوير الإنسان و نوازعه / ضعفه / هذيانه في ركوب مغامرة معروفة العواقب و المصير مسبقا .
أما في في نص " ليس عدلا " فقد كان العنوان أكثر دقة و إيجازا و هو صرخة و احتجاج ضد عدل زائف و جائر ...
فالقصة اجتماعية بامتياز و تحكي بصدق عن الظلم الاجتماعي الذي تعرض له الكثير من الأبرياء و مشي ضحيته كل من رغب في تكسير رتابة حياته ، و هذا كان تحذير ساخر من الكاتب فالبطل " كان قد ضجر من المكوث في الدكان و مداعبة المكاييل و محاورة الزبناء "ص 62 و بما أنه رجل يحب الحياة فقد كان واجبه كتاجر يفرض عليه التواجد بدكانه باستمرار لخدمة الزبناء " لا يحضى بيوم عطلة واحد " ص 62
و هو داخل الحانة جالس رجلا يحتسي معه نفس النبيذ و ناقش معه العديد من المواضيع . و حدث أن ألقي القبض على بطل القصة بتهمة السكر العلني و لم يكن القاضي الذي ترأس أطوار الجلسة سوى ذلك الرجل الذي كان يتبادل معه الحديث و يشرب معه نفس الخمر الرديء " لو يكن نديمه إلا شخصا مهما في المدينة الكبيرة حسب ما دار بينهما من حديث " و بعد خروجه من السجن فكر في الانتقام منه على طريقته و تم له ذلك .
ما يمكن المسك به من خيوط في هذا النص هو مجموعة من الصور و المواقف شكلت أبرز مفاتيح هذا النص ؛ فالجلوس وجها لوجه اتخذ صورتين : الأولى في " البـار " و كانت أكثر حميمية و الثانية في قاعة المحكمة و كانت أكثر برودة و جفاء ، تطبيق القانون داخل المحكمة / تطبيق القانون في الشارع . الحبس / الحرية – الاغتناء / الفقر
القضية المحورية التي يطرحها نص ليس عدل هو السخرية من الواقع / القانون / و هي صورة واضحة و إشارة مفهومة إلى الخلل الذي يشوب نصوصا قانونية لأنها لا تطبق إلا على البسطاء من الناس . كما يطرح النص قضية الجفاء الذي يتعرض له المرء من طرف الأصدقاء فالبطل بمجرد ما دخل السجن تنكر له الجميع باستثناء زوجته " تذكر أنه تقيأ بعض الأحباب و الأصدقاء " ص 64 . و كلمة تقيأ هنا تحمل أكثر من دلالة في مجتمع مبنية قيمه على الوصولية و المصلحة و الخداع و الغـدر
ومن جماليات البناء القصصي في هذا النص أن بداية أحداثه كانت من الوسط / العمق لحظة خروج البطل من السجن " راوغ صوت المزلاج الحديدي أصوات أخرى تزاحمت في مخيلته ... تذكر شيئا مهما في ليلة عتيقة ، حدث شيء لم يبرح عقله " ص 62 فكثافة هذه الجملة بكل ما تحمله من دلالات بنيت بشكل رائع جدا ، بطريقة سينمائية تلعب فيه الصورة دورا مهما سواء على مستوى الفلاش باك أو على مستوى تشويق المتلقي أو القارئ و إجباره على التقاط كل الحيثيات المحيطة بالحدث وفق منظور و فنية و حبكة متميزتين .
لقد جاءت الأحداث متقطعة و متداخلة مع تصوير جميل و عميق لنفسية البطل و حنقه و هذيانه بشكل جعل البطل أشبه ما يكون في متاهة يصعب المغامرة فيها واقتحام عوالمها خوفا من التيه بدون بريق أو سنا ضوء خافت .
أما نص الهروب فتؤطره تيمات متعددة : المدينة / المرأة / الحلم ، و قد شكلت الأولى " ملاذا للاستشفاء من [ الجروح] الغائرة " ص 57 . و فضاء للهروب من صخب الواقع ، و الثانية نموذجا للمرأة المحبوبة لكنها من طينة أخرى ومن عالم مختلف تمام الاختلاف عما أسلفه السارد " كل ما أعرفه هو أنني جئت باحثا عن امرأة أعرفها جيدا من خلال الخطوط فقط " ص 57 و الثالثة الحلم .. أطللت مرة أخرى على الفردوس المفقود ، بللني البحر برذاذه غطست فيه طويلا ، حسبته يغسلني من أدران العفن و لوثة المساء " ص 57
و قد امتزجت صورتا المرأة و المدينة و اتخذتا أحيانا صورة واحدة لكنها كانت قاتمة جدا و كونتا أحيانا أخرى حلما جميلا " لا يطيب المقام بمدينة أدفأتني من قبل " ص 59 " الحياة علمتني أن الإبحار في بحر المرأة ، مثل الموج لا يتطلب التخاذل أبدا " ص 59 .
لذا رغب عنهما معا و عاش مع حلمه الجميل و صورة امرأة يعشقها " دخلت غرفتها ... لم يشعر بي أحد تأملتها طويلا [ ] لا مست خصلة من شعرها الفحمي ، خلت خريطة الوطن مرسومة على تقاطيع جسدها النابض " ص 61 فالمرأة مدينة و المدينة امرأة " إنها أجمل من رأيت فيهما أسئلة مشتعلة بمقدار عشقي "ص 60 و كل هذه الرؤى كانت هروبا من الواقع لأنه كان " نائم في سرير اللامبالاة السرمدية " ص 60 كما أن دخوله على حبيبته و هي نائمة " لم تشعر بوجودي ، كما لم تعرف أنني قادم من بعيد ، فثمة بحر ينتظرني " ص 61
كان حكيا داخل الحكي أو سردا داخل سرد، و هو أمر مقصودا لإكمال الحدث و إضفاء صورة غرائبية عليه ، فقد أوهمنا حد الاعتقاد أن ما يحدث حقيقي رغم تحذيراته .
الهروب كان بالروح لا بالجسد كان سفرا عبر ذاكرة / خيال مع تأثيث جيد لفضاء الحلم كمؤطر للأحداث فيه يصنع الحدث و من خلاله يتم الربط بين فضاءات أخرى المدينة / ذات المرأة ، رغم أن كل أحداث النص كانت تدور داخل نفسية المبدع و خياله بأسئلة محرقة و لذيذة و استعمال لغة عذبة إنسابت انسياب الرذاذ المنفلت من أمواج البحر التي لا تبلل مطلقا بقدر ما تدخل الرعشة الجميلة يقول " إنها أجمل ما رأيت ، رأيت فيها أسئلة مشتعلة بمقدار عشقي ، فيها ذاك الومض الخافت الذي يكشفني أمامها و أمام نفسي " ص 60
أما في نص" القبر المنسي" فتؤطره سمة أساسية تجلت في حدث حزين درامي ؛ موت شاب بعيدا عن الوطن و دفن في قبر منسي بتونس لكون والده لا يستطيع دفع تكاليف نقل جثمانه إلى الوطن هناك " دفن عـزيز بتونس ، لكن لماذا ؟ كنت أعرف بأن عم إدريس أفقر من أن يتوفر على ذلك المبلغ ... لماذا يموت بعيدا و يدفن بعيدا ؟ " و هنا يضعنا الكاتب في إطار النص بشكل عام فالبلد الذي لا يكرم أبناءه أحياء هل باستطاعته أن يكرمهم و هم أموات ؟
و قد كان هذا الحدث الرئيسي منطلقا للغوص في كثير من التفاصيل الخاصة بطفولة السارد رفقة " عزيز " و قد ذكرها بنوع من الحرقة و هو يحتسي زجاجة نبيذ رخيص تحت شجرة في مقبرة ، و لعل الفضاء الذي تم فيه السرد له أكثر من دلالة فعادة ما يكون مكانا للخوف و الرهبة " الموت " والأشباح بقدر ما أضحى بالنسبة للسارد مكانا للبوح الصامت ، بوح للأموات و قرب قبر منسي أو لربما قبور منسية ، و هذا له دلالات متعددة و رمزية كبيرة فتواجده أصلا هناك كان ضمن لائحة الأموات نفسيا لا جسديا . و إن كان الخمر وسيلة لنسيان فاجعة الموت فقد كان بالنسبة للسارد يشكل وسيلة لصفاء الذهن ومنحها القدرة على رثاء صديقه بطريقته الخاصة من خلال استرجاعه لمرحلة الطفولة المؤثثة بذكريات القرية الجميلة.
ويعتبر هذا النص بمثابة النص السيرداتي الثالث من ضمن نصوص المجموعة و لم يفت السارد من تضمينه بإشارات عن الجنوب المغـربي " إذ نفيت إلى إحـدى واحات الجنوب ، من أجل لا شيء ... " و هي إشارات التقطها عرضا و جاءت في سياق حديثه عن صديق الطفولة عزيز الذي لازمه لفترة طويلة جدا .
و مكانة عزيز حسب النص كانت جد مهمة بحيث معه و من خلال الحديث عنه التقطنا مساحات زمنية كبيرة من طفولة السارد و بالتالي صورة واضحة و جلية عن الوسط الذي عاش فيه و كثير من الأحداث التي أثرت في تكوين شخصيته كالعلاقة بالأخ و الأم و الأصدقاء و المجال بحيث رسم صورة بانورامية للقرية بكل تفاصيلها و هذا النص نظرا لمكانته عند القاص صخر المهيف فقد تصدر نصوص المجموعة و هو اختيار لا محالة له أسبابه و دواعيه حسيب ما استقيناه مقارنة مع باقي نصوص المجموعة ، و نظرا للحالة النفسية التي كتب بها-النص - فقد اعتبرته أول النصوص السيرذاتية التي كتبت بحرقة كبيرة و مرارة أكبر ... في محاولة للتأريخ للحدث و لنسيان الفاجعة التي حلت به فجأة ... لكونها كذلك تزامنت مع محنة منفاه السحيق و ما شابها من عذاب و حرقة كبيرين ، عذاب النفس / حرقة الذات ذات مبدع يفتض بكارة مساحات الأوراق البيضاء بمداد المعانات و آلاف من الصور و الذكريات .
و في ختام هذه القراءة سوف نتناول سؤال الكتابة عند القاص صخر المهيف الذي يترجم إلى حفل وجودي يأخذ أشكالا متعددة بحيث يمتع من أشكال تعبير مختلفة : الشعر / الخاطرة / المقالة / القصة، و إبداعات مرتبطة بشكل كبير بالواقع الإنساني و لحظاته المنفلتة بلغة شفافة و شاعرية .
تنبني أغلب قصص المجموعة بشكل جمالي بحيث نجدها ذات حمولات نفسية عميقة تحاكم الذات و الواقع و الوطن في إطار فهم و استيعاب كبير لكل التفاصيل .
و المجموعة تقدم نوعا من الاحتجاج يتجاوز ما هو اجتماعي ليشمل ما هو وجودي ، فالمبدع يتحدث عن عذاب الإنسان في نصوصه بصفة عامة و هو بهده الرؤية الشمولية يواجه الواقع المتردي من خلال التطرق للأوضاع النفسية كالشعور باليأس و الضياع و التيه ، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي . كما ينتقد الواقع العربي و مواقفه كما هو الحال في نص " الضباب " و هي مواقف متخاذلة إزاء قضايا مصيرية .
كما تطرقت المجموعة إلى موضوع الاعتقال و الاختطاف القسريين ، وقدمت صور قاتمة عن مغرب سنوات الجمر بكل جرأة و مرارة ، بالإضافة إلى إدانة الواقع الطبقي من جراء القهر و غياب عدالة اجتماعية << ليس عدلا / من أجل لاشيء / القبر المنسي / لعودة من منفى سحيق >>
تمتاز كتابة القاص المغربي صخر المهيف بنوع من السخرية من الواقع المرير و يبرز ذلك بوضوح من خلال الصراع مع النفس / و الطبيعة / و الآخر . منتقدا غياب إنسانية الإنسان و رصانة المواقف كما هو الشأن في نص " الحريق " .
بنى عالمه القصصي اعتمادا على المزج بين الواقع و الخيال وفق تركيبة خاصة اعتمدت أساسا لها المجتمع بكل سلبياته و أفكاره و مكوناته من خلال العديد من النماذج : المرأة / الساسة / السياسة / الفكـر / التخلف / الهجرة / الموت / السكر الجريمة الاعتقال / الحب / الكراهية / العدالة / القهر الاجتماعي / المنفى / المدينة .
أغلب شخوص المجموعة مهزومون يحسون بالانسحاق .
تبادل الكاتب مع بعض أبطال القصة صوت السارد و هذا الأمر أغرق بعض المضامين بمعاني اليأس و العبث و الضياع بحيث يتجلى الواقع كصورة مرئية للأبطال بشكل قاتم .
تعامله مع عدة وسائط منها الموسيقى / الخمر / الزمان / المكان / الصور / الخاطرة / التأمل من داخل فضاء أكبر هو اللغة بشكل أنيق و سلس تنم عن احترافية و تمكن كبيرين .
أغلب نصوص المجموعة مذيلة بتاريخ و مكان الانتهاء من كتابتها باستثناء نص واحد هو نص " الحريق " و هو أمر مكننا من أخذ صورة عن الفترة الزمنية التي كتبت فيها النصوص من 1994 إلى 2002 و أغلبها كتبت بفاس، و طاطا ، و طنجة .
تمتاز نصوص المجموعة بتعدد الأنفاس و الفضاءات و المواضيع من خلال إبداع متجدد و متعدد ( لا يعيد إنتاج نفسه ) داخل إطار عام و هادف وواضح و من خلال مشروع طويل الأمد بعين ثاقبة، و راصدة لكل خلل و متغير دون أن ينفلت من قبضته شيء ، كما أن زوايا الالتقاط كانت مختلفة و دقيقة للحدث دون أن تغرقه في كثير من التفاصيل مما جعل بناء النص يأخذ أشكالا متعددة و تقنيات متنوعة ( الفلاش باك / بداية الحدث من الوسط / السرد داخل السرد / توازي قضيتين أو أكثر داخل بناء قصصي واحد ) مما يجعل النصوص تمتاز بحبكة قصصية تتمظهر فيها أدوات من ضمنها الوصف للمحيط و الشخوص مع الالتزام بصيرورة أفقية للحركة ، كما أن الحدث الحكائي هو محوري و منظم لعملية السرد ، بالإضافة إلى استعراض لبعض المواقف كأداة للتعبير عن جل المضامين لجعلها تتخذ طابعا واقعيا .
كما تتضمن نصوص المجموعة حس انتقادي شمولي داخل بناء فلسفي هدف من خلاله تأصيل القيم الحقيقية في مجتمع فاسد و منحل ، محتجا على العالم ، وهو ضمنيا احتجاج على الواقع الاجتماعي الذي نما فيه و نضج فيه ككاتب ، فالنصوص تقدم إنسانا يحس بأن العالم ليست له قيمة أو معنى من خلال عدة تساؤلات محورية اعتبرها قيمة مضافة ، تأصل لفعل إبداعي متميز و هادف جاد مليء بالاحتراف و الروعة و البـوح الجميـل .
حميد ركاطة قاص و باحث مغربي
خنيفرة - المغرب