هي النفس الشاعرة تميل أن تعيش انعطافات حالاتها وتثورات مشاعرها، تفجر طاقات إشاراتها إلى تلك الرموز التي أخذت حيزها الدائم على الوجدان، ليصبح الشاعر غير قادر على أن يسحب أنفاسه دون أن تمر على المناطق الخشنة من اعتمالاته، ولكنها في مستوى خياله تمتزج عطاءاته الشعرية بذاتيته الداخلية ليصنع رموزه الخاصة التي تؤكد هويته وحضوره المتفرد، فحينما تكون مواهب الشاعر مؤهلة لخلق رموزه وإيحاءاته الخاصة، ويحسن توظيفها على الوجه الصحيح والمتجدد باستمرار ومصاغة وفق صور منتزعة لدهشة المعنى وغرائبية الملامح، فهذا بلا شك مدعاة لأن يطلق طاقة موهبته الظاهرة منها والكامنة على شكل ابداع شعري ثر ومتميز إن كان على نطاق الحالة النفسية السالبة أو الايجابية.
وحين تنجرح ذاتية الشاعر بالجرح البليغ ويغور خنجر الغدر إلى العمق فإن التعبير عن كل الحالات يصاحبه أنة حزينة تأبى أن تغادره أو تضمحل، تظل تباغته في كل الأوقات ومع كل الحالات دون الالتفات للزمان والمكان، تكاد تطغى على غالبية أشعاره تقريبا، فنراه يتشظى بألامه حتى وهو يحاكي معشوقته أو ينتصر لقضايا أمته ووطنه، وهو يجمع أصداف نجاحاته، وهو يغرق بصره في الأحلام ، ويكتب نوتات معزوفات أفراحه، فإن الجرح يظل الضجيج الساكن بيداء عقله الباطن، يعيش على توق عجيب لحب ما زال بعيد المنال ينتظره على أحرِّ من الشوق.
من يعشق عطر الأرض
يصير محارباً
من يعشق أنوثة المرأة
يصير شاعراً
من يعشق الله
يصير زاهداً.. حكيماً
يتعظم هنا امتزاج هذه الذات بالموضوع في هذه الاستهلالة من خلال مكاشفة الشاعر عن رؤيته بموضوعية الحكيم، ليجعل من نفسه حكيماً وفيلسوفاً يقتبس حكمته من أعطاف ذهن متقد، في مباشرة مدوية تخاطب العقل وتؤكد الحضور، فالاتجاه الطبيعي لعشق الأرض الأم أن يصبح عاشقها محارباً من أجل تحريرها من ربقة احتلال غاشم ونصرة قضايا الوطن، وذلك الذي تهيمن عليه رومانسية العشق ويرى الدنيا جمالاً ورونقاً من خلال المرأة فإنه سيتحول بكل تأكيد إلى شاعر يصهره ما في المرأة من مزايا أنثوية طاغية ويلهبه ما يتحرك تجاهها من مشاعر، فيما عاشق الذات الإلهية يصبح عبداً طائعاً صالحاً زاهداً يتصرف بحكمة المتزن التي تتواءم مع ما شرع الله من أحكام ونواهي..إنما في الشمول يتبين من هذا وضوح ما يعتمل في عمق مشاعر الشاعر من يقين بالله الواحد الأحد من خلال ربط عشق الذات الالهية بما سوف يؤدي إليه ذلك من الحكمة لا محالة.
مبعثرة في التيه
حياتي
يحاصرها نداء الموت
غارقة في فيضان الحب
لم يأت بعد
يعاود الشاعر ولوج حالة التشظي وهو ينتقل مباشرة إلى إخراج تلك الأنة الكامنة داخله، ليعبر عن حالة تبعثر حياته في التيه، وكأن ما يحسب من عمره فقط هو ذلك الوقت الذي يكون فيه في وطنه أو على الأقل يكون حراً في الدخول إليه والخروج منه، وليس أعظم قسوة من الاحساس بالحرمان من الوطن حيث هناك يملك الانسان تاريخه وجذوره، فقد يهاجر المرء بخياره فلا يعود لموطنه إلا زائراً وقد لا يعود أبداً إنما لن يكون معذباً معتصر الفؤاد لأن الهجرة كانت خياره الشخصي وأن لا مانع يحول دون عودته لو أراد، لكن مجرد الشعور بوجود الحواجز والموانع والمخاطرات للعودة فسيتعظم الشوق ويتعمق الجرح، ويتنامى لديه الشعور أنه يغرق بالحالة الفوصوية التي تبعثر ذاته المتشظية فلا تقوم لها قائمة، وستتخبط أحاسيسه وتضطرب أحواله ليعاود من قلب هذا الاضطراب فيعلن أن حياته غارقة في فيضان الحب للوطن وحلم العودة إليه إنما أي وزن تتخذه مشاعره تجاه الاحساس بهذا الحب، فيجيب بأسى بالغ أن وعد العودة لم يأت ميعاده بعد، وهي الغصة التي تثير الفوضى داخله.
عارياً مكبلا بالغربة
يتلذذ نسر أسود بأكل كبدي
عيناي ترشفان شهوة حلم
شهوة رؤية حضورها
لأعجوبة صمتي
في ينابيع الحياة
لشهقات حزني
من صدر مشروخ
تتألم أرواح اليمام
وقسوة الاغتراب القسري والابتعاد عن الأهل والأحبة وذاكرة الطفولة تُشعر الشاعر بأنه عارٍ بلا أهل يمنحونه دفء لحظات الاقتراب، بلا أقارب يشدونه إلى الجذور، بلا طقوس جماعية تغرسه بالأرض، بلا أعياد تزين باحات نفسه في محيط ينتمي إليه ويسجل فيه أهازيج العجائز بحكمة ناتج تجاربهن ولذلك يشعر أن الحزن القاتم يأكل كبده، فيما هو يتطلع بشبق الحالم إلى الوصول لأرض الوطن محرراًً وقد فتح صدره لأبنائه، وإنه ليعجب كيف أنه استطاع الصمت وسط عجاج الحياة وأحداثها الانهزامية المتوالية، والصوت رجع الأحاسيس في التعبير عما يضج داخل النفس الحزينة من الاعتمالات ومن التمزقات، واليمام ذلك الشعب المسالم الذي منه الشاعر، والذي ما أدرك حجم المؤامرات التي تحاك حوله إلا بعد أن وجد نفسه ضحيتها يتلوى بالألم وحيداً عارياً دون حمى ولا ظهير.
آه يا حزناً يحمل ظلي
يتكئ على خاصرة قصيدة بحر
ترتعش مياهه
لعل أمواجه تمد نغماً باكياً
وصوتي في جزره المعذب
يرفرف فوق الظلال المنتشر
على صفحة السماء
يناديك في الغاب المخدرة بالضباب
هنا حلم يعيدني رضيعاً
يكشف عن نهد من وراء الغمام
يرضعني آيات الشعر
أحبو على سطوح المجرة
ملاكاً بحناحين من بلور
أنظر في مرأة
أنا لست أنا
بل عطراً من أنفاس الشهية..
وينطلق وجيع الأنات من صدر مجرح بالحزن، والأسى البالغ يتبعه كما الظل، يلاحق قصائده، يغرق بين أحرفه، يهز كلماته كبحر هائج يعزف سيمفونية حزينة باكية تجعل صوته يخبو قهراً لواقع غير مرضي عنه يجري رغماً عن أنوف كل المخلصين، فيضيع صوته بين أمم خدرتها أخبار الزيف وغسلت لها أدمغتها وغطى عقولها طبقة الغمام التي تمنع عنها رؤية الحقائق.
وهذا ما يجعل الشاعر يؤثر العيش ضمن حلم يُشعره باقتراب موعد العودة، يمنحة قوة الاستمرار والعطاء والانجاز أمام حاجته لأمومة الأرض الوطن، حلم يحدوه الأمل بقرب التحقيق، يمنحة قوة التدفق الشعري ويحلق بحلمه عالياً في سماء بعيدة لا حدود لها، ملاكأ ناصعاً ساطعاً بالشفافية، إنما مع شعوره أن جناحيه من بلور، والبلور غير مرن ولا يساعد على الطيران البعيد وإن لن يساعد على الطيران من أصله فكونه من بلور هش فهو سريع التهشم أمام الآخر المتقدم بوسائله، ولذلك عندما حاول الشاعر التعرف على نفسه في أعقاب مرور كمٍ من السنين لم يستطع اكتشافها والتحقق من ملامحها لكثرة ما أثخنته الجراح وما حملت أنفاسه من أحلام الشوق للوطن ولما نحتته السنين في داخله وعلى ملامحه من آثار، كاد أن يتنكر لها، ولكنه على الرغم من ذلك يفخر أن تكون هذه الآثار شذى أنفاس عطرة لحبه لوطنه، وإخلاصه بالحفاظ على الحلم الكبير عامراً في أشعاره وفي قلبه ووجدانه ليحفز من خلال قصائده الأجيال الحديثة لواجب حب وطنه.. فالحلم حو حلم العودة والنهد هي فلسطين الأسيرة التي تمنحة الالهام الشعري.
هناك
أرض تخضب دمي بالحناء
تزرع فيّ أشجارها
تبرّد جلدي بينابيعها
وتروي فؤادي بذكرى بعيدة..
حين علقت على صدر غجرية
آه يا حبيبتي
من أنا.. من أنت
سر لا متناه هو أنت
من لظى قصيدة
تؤرق العاشق
وأنا
سرّ
من دهشة النار الأولى
والشاعر وهو يحمل الامتنان لأرض استقبلته ومدينة منحته صدرها، بل وتبنته إبناً باراً ومبدعاً متسامقاً ألقت عليه عباءة الأمان ودفأته في أجواء البيت والأهل والذاكرة الكريمة، وما هي إلا بوخاريست تلك المدينة الغجرية التي تعلقها قلب الشاعر كما تعلق قلبه تراب وطنه الأم، فكان له أن ملك الحُضنان، حضن أُبعد عنه قسراً والآخر احتضنه أماً رؤوماً ، وهكذا لا ينسى الشاعر أن يبث بوخارست حبه ويطلعها على ما ينمو لها داخله من تقدير وامتنان من باب الوفاء لها ولأمومتها.
إنها صرخة النكران التي أطلقها صوت الشاعر وهو يُسائل نفسه من هو؟.. وكيف تغيرت أحواله وتغير عالمه وتناولته الغربة عن الأهل والأحبة بقسوة، ويُسائل وطنه السليب فلسطين من أنت؟ .. وقد اغتصبتها أيدٍ لئيمة قلبت هويتها وصبغت وجهها بأصباغ غريبة لهدف تزييف ملامحها وباتت تحتضن غرباءاً لا يمتون لأرضها، ولكنه يعلم أنها أسيرة لا تقوى على الرفض ولا تملك زمام قياد إرادتها، ولذلك تظل هي محبوبته، مهما قولبوها فستظل فلسطين المهد العربي الأصيل التي تنتظر أبناءها البررة، هذا هو سر أمومتها اللامتناهي الذي يستخرج حرّ القصائد التي تؤرق صاحبها لأنه هو ذاته أضحى بعشقه لها سرّ من ثورة متقدة بالشوق لأحضانها.
حبيبتي
شفافية الظل
الحلم
تخطو بكامل السحر
على سطوح مخيلتي
تحملني إليك
لأرتل آيات الحب
لك يا حبيبتي
يهدل طائر الجنة بفرح إلهي
قصائدي
تغرد سماء الشوق أوجاع أحزاني
يا من ترجمين بسحر النهد
نزق خيالات طفولتي
تعذبين فراشاتي بالشوق
لرحيق الشفاه
تعذبين عصافيري بالتحليق
بين أغصان السيقان..
تتشكل صيغة بث لواعج حبه للوطن لتفرض دلالاتها على السياق هنا، فتعزز مشاعره وأحاسيسه باعتمالاته الداخلية، وتجمع صور الانتماء للحلم والأرض والكرامة في بوتقة دلالية واحدة، تفيض منها تجليات معنوية زاخرة بالحب والجمال والانتماء، ليخطو الحلم بكامل سحره عبر خياله إلى حضرة الحبيبة فلسطين ليبثها هذا الحب وهذا الشوق ويؤكد لها قوة الانتماء والولاء، ويلقي في حضرتها قصائد الوجد والهيام، لينسل ما تبقى داخله من الحزن ويسعد بالانتماء إليها، إلى أماكنها التي احتضنت طفولته وأحلامها وملاعبها وأرضعته هذا الحب الذي ولّد هذا الشوق وكل هذا التوق، لرحيق تضاريسها المنتعشة بالجمال والتي منحها رمز الشفاه لما فيها من لهفة التلاقي، فيرى أحلامه كالعصافير المعذبة بالتحليق وهي صورة بلاغية غاية بالروعة، فمهمة العصافير أن تحلق دونما تعب، إنما الأحلام يُتعبها أن تظل محلقة ويتأخر كثيراً موعد تحقيقها، ويتعظم الجمال بالتعبير حين يكون التحليق بالحب والشوق بين غايات سامية وأماني متعددة.. وكأن الشاعر أراد التمويه حين استخدم تعبير "بين أغصان السيقان" وليس " بين سيقان الأغصان" ربما أراد بذلك التأكيد على معنى العذاب الذي تواجهه احلامه في التحليق الطويل فلا تنال هدف التحقيق، وربما أراد أخذنا بإيحاته بعيداً لتأخذ لها أكثر من دلالة من دلالات الرغبة التواقة، وهو ذكاء شاعر تمرس في البوح وفنياته.
أحبك
ارتعاش بحر في صوتي
وهديراً في قلبي
وبرقاً
مطراً أرجوانياً معطراً بالأحلام
يهطل في روحي أغان ملائكية
حبيبتي
يا معجزة الخلق الأولى
يا حلم الرغبة
يا شبق المطر
يا وحياً سماوياً في دمي
من ينتزعني
من هذاالجنون الالهي
يجعلني محارباً يمتطي خيول السماء
لأطهر قصري.. معبدي
من الجرذان والذئاب..
ويظل الشاعر منشغلاً بحبيبته رمز الوطن والحلم بالعودة إليه،لا يفتأ أن يناغيه ويبثه أصدق الوداد، يسكنه أرق الاعتمالات مما يجيش داخله، يهدر به قلبه المتشوق، ويرتعش بوحه في صوته المتأثر، مما يُحّمله قصائده من دفق وجداني بليغ، وثورة مُتقدة تستعر داخله لبارقة تلوح في فضاء الرؤية غيثاً يَحمل بُشرى معطرة تهطل في روح الشاعر بنداءات مغناة، ملائكية النية والمقصد، وماذا تكون هذه النداءات الملائكية إلا شيئاً سامياً كحلم التحرير والعودة.. يليق بوطن حبيب فريد، حلم عظيم تتعمق رؤياه حتى تغدو واقعاً لا يخادع ونتيجة لا تهادن، وليتفيأ ظلال النشوة بحلم الرغبة، وشبق الارتواء، لأن حب الوطن يختلط بدمه طبيعياً وتلقائياً، ينتزعه بعيداً عن جنون ما يحصل هناك الآن من فساد وإفساد وتنازل وتهاون، لأنه آثر أن يكون محارباً بقلمه وعطائه وأشعاره يمتطي ظهر قصائده المجنحة ليُحلق في فضاء النور والإشراق حين عزّ عليه أن يكون مقاتلاً، ساعتها سيتفيأ ظلال نشوة الانتصار ويصبح العمل يسيراً على تطهير الوطن من الوصوليين والنفعيين المتحكمين ظلماً بالعباد، ويُطهر بيته ومعبده منهم، ويقصد بذلك التطهير تفعيل القوانين بعدالة فينال الخائن قصاصه ويُكافأ المخلص على إخلاصه، واصفاً الفاسدين بالجرذان لأنهم قرضوا خيرات الوطن، وأيضاً بالذئاب الغادرة لأنهم نهشوا أركان الأمن وأوقدوا الفتن.
ونلاحظ أن الشاعر يقدم سرداً شعرياً رفيع المستوى، عميق الرمزية، بديع الايحاءات لائق بجوهر الأوطان والانتماء إليها والاخلاص لها، صور تتالى تتراً كأسراب النمل المنتظم الخطوات، النشيط الفاعلية، المتدفق المعاني .. فالحبيبة التي جعلها الشاعر رمزاً للوطن، للحلم، وللحياة الكريمة في ظل الهوية، وهو إبن لشعب شرده الظلم وشرده الاغتصاب للأرض، وشردته الهزائم.. فهل يجديه بعد ذلك البكاء؟ وهل ينهض الموتى من رموسهم الباردة وقد برمجوا على الصمت المكين؟
والقصيدة في ابتعادها عن المباشرة تجسد أشكالاً وحالات، تفجر ثورة كامنة رغم كونها موقوتة إلا أنها أكثر إنسانية مما يعتقده قارئها في القراءة الأولى، ولكنه حالما يتعمق المعنى يجد نفسه أمام معابر شتى، ويجد نفسه يعبر إلى الدرب الذي اشتدت إضاءته وبات أمامه الأوضح، وليكتشف أن الشاعر ليس مصوراً فقط بل مستشرفاً لراهن تاريخي متأجج القسمات ما خيبه ذكاءه في ذلك ولا وارى عنه عورات الأخطاء وفي ممارسة الشاعر لشعائره اللغوية نراه يتغلغل في التصوير اللغوي البليغ ويفرض أسلوبه المنمق الذي تتآزر فيه التراكيب وفق سياق متوالي سلس ومتهافت، تتراكب مداميكه بأريحية وبانتظام غير معقد..