1- مصافحة أولى:
صدرت للقاص المغربي الأستاذ محمد كروم الطبعة الأولى من مجموعته القصصية التي تحمل عنوان" شجرة القهر"عن مطبعة Must بتارودانت.وقد صمم لوحة غلافها الفنان أمين ناهيري، وفيها تتداخل أشلاء متناثرة مع وجوه مذعورة خلف أسلاك شائكة.. ويتصدر المجموعة تقديم دال ومختصر لشيخ القصة القصيرة المغربية الأستاذ أحمد بوزفور ، ركز فيه على وجوه التميز في هذه المجموعة ، وهي الفضاء بمظهريه الحضري والبدوي ، واللغة المنسجمة مع هذا الفضاء ، والبناء القصصي المتماسك والمرصوص..وتقع هذه المجموعة في55 صفحة من القطع المتوسط ، تشمل القصص التالية: النجاة..النجاة/حدث ذات صباح/ عام الكلاب /شامة والباشا/ القهر/ الصراصير / الصعود إلى الهاوية / القانون الجديد/ سقط القناع /موزع الخبز/ معلمة بالقوة /الدائرة/ رأس السنة / الحذاء المؤجل / أحلام كبش / القصة الجديدة / البحث عن السروال / فجأة / حاطب ليل.
2- دلالة العنوان: " شجرة القهر".
يتكون العنوان من مركب إضافي ، يحيل طرفه الأول على دلالات التجذر والتفرع والسموق والهيمنة والإظلال والإثمار..ويحيل طرفه الثاني على دلالات التركيع والحرمان والبؤس والاضطهاد ومصادرة الحقوق والأماني والأحلام..والعلاقة بين الطرفين لا يمكن القبض عليها إلا من خلال ما يحمله المتن العام للنصوص القصصية المشكلة للمجموعة..فالعنوان باعتباره ثريا معلقة فوق المتن ، إذا استعرنا عبارة جاك دريدا ، يستمد دلالاته من هذا المتن ، ويعطيه ، في الوقت ذاته ، إضاءات وتنويرات..لذلك فإن العنوان أعلاه ، بما يفتحه من أفق انتظار أمام المتلقي ، يجعل القهر هو الثيمة الأساسية في المجموعة ، ويصبح بذلك هو القاسم المشترك بين القصص ، والخيط الناظم لها.كل الشخوص التي تتحرك في فضاءات هذه المجموعة القصصية مقهورون ، على اختلاف في أشكال هذا القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي والجنسي حتى..بل إن هذا القهر لا يقف عند حد ، فهو آخذ في التنامي باستمرار: "صار الشئ الوحيد الذي يشدك إلى هذا العالم يكبر في الليل والنهار كما يكبر القهر في بلادي"(فجأة..ص.50).
لقد جرت العادة أن يختار القصاصون عناوين مجاميعهم من بين عناوين القصص التي تؤلف تلك المجاميع..ويكون العنوان المختار ، في الغالب ، للقصة المفضلة لدى المؤلف ، أو لأكثرها قوة وتأثيرا على القراء..لكننا هنا أمام خرق لهذه العادة..فكأن العنوان هنا هو العنوان الرئيس ، وعناوين القصص مجرد عناوين فرعية ، تفرعت عن الأصل واستظلت بظله..وكأن كل قصة من هذه القصص ثمرة من ثمرات تلك الشجرة التي تقطر قهرا وتسيل مرارة..
ولعل هذه الشجرة كذلك تحيل في بعدها الرمزي على شجرة الخلد التي كانت سببا في هبوط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض ليذوق فيها كل ألوان العناء والمشقة..ولذلك تبدو شخوص هذه القصص ، وقد أكلت حتما من ثمرات شجرة القهر ، تبدو كما لو كـُشِفت سوءاتها وظهرت على حقيقتها وبدا وجهها الشاحب وقد ملأه القهر ندوبا وأخاديد..فانتفت بذلك عن الشجرة كل صفات الخير والعطاء ولازمتها بالمقابل صفات القهر والعذاب والمعاناة..
3 - ثنائية الفضاء في المجموعة:( مدينة / بادية):
يتوزع الفضاء في هذه القصص إلى فضاء حضري وفضاء بدوي يتحرك فيهما الشخوص وتتفاعل الأحداث وتتطور..وما يميزهما أساسا أنهما يستظلان معا بظل شجرة القهر ، لأن الكاتب يرصد فيهما حالات من الفقر والبؤس والحرمان جعلت أبطال قصصه ضحايا وضعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية مزرية..في قصة "حدث ذات صباح" يعود بوعزة وزوجته راضية من البيضاء حيث كان يشتغل بنـّاء ، وحيث كان يعيش في غرفة واحدة تتسع لكل شئ..عاد إلى قريته "الشويريج" فيما يشبه هجرة معكوسة ليعيد ترميم بيت آبائه القديم والمتهالك..لكنها عودة تنتهي بمأساة ، لأنه قتِل في نهاية المطاف على يد "كوبيزة" بسبب سنبلة كيف واحدة..(ص.11).
فضاء القرية هذا فقد الكثير من قيمه النبيلة والصافية ، وأصبح هو أيضا مرتعا لكل المآسي والمصائب: مخدرات وشذوذ جنسي وفساد سياسي وبطالة مستشرية جراء سنوات الجفاف المتعاقبة..حتى نجوم السماء في البادية لم يعد لها ذلك البريق السابق ، فما "عاد الأطفال يتعق بون حركتها أو يعرفون أسماءها… لقد أعمتها المصابيح التي انتشرت في القرية كالفطر.المصابيح التي زغردت لها النساء وسهرن على ضوئها في الزوايا التي كانت مأوى للعشاق’…(حاطب ليل..ص. 53)..
فضاء القرية كذلك لم يعد فيه ما يغري بالبقاء ولا ما يبعث على التضحية..في قصة "معلمة بالقوة" نقرأ هذا الوصف الدال لقرية معلقة فوق جبل وكأن مستقبلها سيظل معلقا إلى الأبد: "كل شئ كان معلقا : القرية على أكتاف الجبل ، الحيوانات على سطوح البيوت ، القراد على آذان الحيوانات ، الذباب على الأطفال ، عيون الأطفال على العصا والمدرسة ، عيون الأهالي على المعلمين والمعلمات ، عيون المعلمين على المعلمات ، عيون المعلمين والمعلمات على الطريق ، على الزاد ، على المدير ، على الوزارة ، على نهاية السنة.."(ص.32).
فضاء القرية كانت له نوستالجيا خاصة في نفس الكاتب..حتى إنك لتحس بحميمية الأماكن في قرية "الشويريج" التي قدمت عنها قصة "عام الكلاب" صورة مأساوية تجعلك تدرك الوضع المزري الذي آلت إليه جراء تعاقب سنوات القحط والجفاف : "البيوت الطينية ذاتها لا تزال صامدة قصيرة ، لكن سطوحها لم تعد كما كانت ملأى حطبا أو حشائش وفواكه جافة.."(ص.12).ونقترب بشكل افضل من التحولات التي أحدثها الجفاف في القرية ، حين تتداعى دكريات السارد ، الذي نكاد نجزم أنه يتطابق هنا مع الكاتب تطابقا كاملا:"أشواك السدر التي كنا نعرفها واحدة واحدة ، وكنا نبيع نبقها لأولاد المدينة أو نهديه مغتبطين لبناتها ، صارت حطبا.وأشجار الزيتون التي كنا نسرق حباتها لنبيعها للطاهر الأعور أو الحسن الأقرع…شاخت ولم تبق منها ألا هياكل منخورة سوداء ، تنعب فوقها بومة شمطاء قبل أن تنجحر في جحر سكنته الثعالب أيام كان أهل قرية الشويريج يستيقظون على صياح الديكة.الخطارات والحفر التي كانت تخزن مياه الأمطار لشهور وتغري طفولتنا بزجاج صقيعها وبيض ضفادعها المصطف كحبات عقيق سوداء ، غطتها الهياكل العظمية والقرون ونتف الصوف."(.(.13/14).
الفضاء الحضري بدوره يطفح هو الآخر بمشاهد الفقر ومظاهر القهر..شخوصه في أغلبهم شباب سدت في وجوههم أبواب الأمل ، فغدوا يلوكون قهرهم ويجترون مآسيهم فيما يشبه موتا بطيئا..تصور قصة "الصراصير" الحالة المزرية لغرفة طالب يكابد من أجل إتمام دراسته ، في ظروف تنعدم فيها أدنى شروط الإنسانية: "زحزحتُ علب الكارتون التي تحوي كتبي وأشيائي ال تافهة ، فبدت جثة فأر متورمة تتقرفص فوقها كتائب نمل مرعب طالما غزا سكري وعدسي وأشياء أخرى’..(ص.ص.20/21)..وفي قصة "الصعود إلى الهاوية" تتبع السارد بعض اللحظات من يوم في حياة مومس دفعتها ظروف أسرتها إلى امتهان أقدم حرفة..يوم لا نعرف كل تفاصيله ، لأن السارد اقتصر على لحظتي خروجها من البيت في غبش الفجر ، وعودتها إليه مع غروب الشمس..وإذا كانت المؤلفات الأدبية عموما قد تعودت على الحديث عن ظاهرة البغاء تحت جنح الظلام ، وهو الزمن المألوف في مثل هذه الحالات ، لأن الليل أخفى للويل ، فإن هذه القصة ، على العكس ، جعلت الظاهرة تمارس في واضحة النهار وبشكل علني ومكشوف ، وكأن هذا الفضاء الموبوء تجرد من كل القيم النبيلة وأصبح مرتعا للرذيلة والفساد..وهي الفكرة نفسها التي تعود بتنويعات مختلفة في قصص أخرى من هذه المجموعة ، مثل "سقط القناع" (ص.27) ، و"موزع الخبز" (ص.29) ، والدائرة (ص.33) ، و"رأس السنة"(ص.36).
4 - السخرية القاتمة :
تعتبر السخرية طريقة فنية لانتقاد الواقع من خلال رصد تناقضاته الصارخة وصوره المستهجنة ومواقفه المتنافرة..وبقدر ما يكون الواقع مرا ، تكون السخرية منه أشد مرارة..وبقدر ما تكون المواقف متناقضة تكون السخرية منها أبلغ أثرا وأعمق دلالة في انتقادها لحالات الاختلال ومظاهر الفساد..لقد أدت السخرية – في تاريخ الآداب الإنسانية – دورا كبيرا في تعرية الواقع والكشف عن مواطن الخلل في السلوك والحياة ، ليس بقصد الاستهزاء والضحك ، ولكن عن طريق الإمساك بخيوط المفارقات والتناقضات الصارخة التي إذا تجاوزت حدها المقبول انقلبت إلى عبث وهزل ، كما في المقولة الشعبية الشائعة "إيلى كثر الهم كيضحك"..
وتستوقفنا في هذه المجموعة القصصية مشاهد مثيرة للسخرية حقا ، التقطها الكاتب بذكاء ، ووظفها في قصصه بتقنية وفنية كبيرتين..في قصة "شامة والباشا" نجد سخرية واضحة من رجل السلطة الذي لا يتردد لحظة واحدة في قمع كل صوت قد يحمل بذرة احتجاج ، حتى وإن كان لصبي مغلوب على أمره. .أقبل رجل السلطة "يتلقفه من حضن أمه كفاكهة صبار ، ويجري به إلى خارج القاعة ، قبل أن يعود وهو ينفض رؤوس اصابعه ، مبتسما بخبث لصوت الميكروفونات الذي طغى على كل صوت"(ص.17).وستظل السخرية اللاذعة تلاحق رجل السلطة على اختلاف رتبه ، من الباشا إلى القائد فالمخزني والمقدم:
* "وفي رأس الزقاق رجل مسن يسب الفراغ ويتبول بتشف على باب بيت المقدم"(الصراصير..ص.20)..
* "ارتمى بكل ثقله تحتها(الشجرة) غير عابئ بالرائحة النتنة المنبعثة من جثة طائر تتحرك على إيقاع فيلق من الدود.تأملها فبدت له كقبعة المخزني الذي…"(القانون الجديد..ص. 25)..
* "أكيد أنني سأكون من نصيب رجل سلطة سيأتي حالا بجلبابه الشفاف الذي لم يدفع ثمن حياكته بعد ، يمشي على رؤوس أصابعه ، تسبقه كلابه ، في يمناه هاتف يتلقى به التهاني عابسا ، وفي يسراه آخر يتلقى به الشتائم باسما."(أحلام كبش..ص.43)..
* "بيت المقدم وحده ما تزال تدب فيه الحركة.بالأمس قبيل هذا الوقت تشاجر مع زوجته.عيرها بالجهل والغباء فردت منفجرة:
- إلى كنت رجل اخرج علي من داري…
لم يرد عليها رد على الهاتف الذي رن فجأة
- ألو سعادة القايد…
- ……
- نع م أسيدي
- ……..
- غدا تجيك أخبارهم كاملين."(حاطب ليل..ص.54).
وللفساد السياسي نصيبه من السخرية في هذه المجموعة القصصية..فقد
بلغ حدا من التعفن لم يعد يجدي معه مجرد الانتقاد..فأصبحت السخرية منه وسيلة من وسائل إدانته.."لقد حلت محل تلك الحكايات ، حكايات جديدة ، حكايات لم تعد تعمر طويلا باستثناء واحدة ظلت وستظل تنتقل من لسان إلى لسان ، هي حكاية المرشح الذي…صحيح أن الناس حكوا عنه أشياء كثيرة ، عن فشله في تعليم الصغار ، عن ذكورته المخصية ، عن زوجته التي تحركه كالخاتم…لكن الذي شدهم هذه المرة هو حكاية المصابيح التي سرقها وباعها في المدينة.
قال الشبان : صرف ثمنها على تعليم ولده.
قال الكبار : بنى بها بيته الجديد.
قالت النساء : اشترى بها لباسا جديدا لزوجته."(حاطب ليل..ص.53)
وللسخرية طعم خاص حين تقترن بالرمز ، حتى وإن كانت المأساة التي يتم التلميح إليها قد زكمت رائحتها كل الأنوف.."وفجأة وقف يتأمل. لا يدري كيف ولا متى وصل هذا الميزان البلاستيكي إلى وسط هذه الكومة؟ بصق عليه وهو ينفض الغبار عنه.علت شفتيه بسمة شاحبة.تلفت يمنة ويسرة ثم وضع الميزان في قفص لم يؤمن يوما بجد واه فعلقه منذ زمان على الجدران.تسارعت حركاته وهو يبحث عن أشياء أخرى يود وضعها بجانب الميزان.علت وجهه مرة أخرى تلك البسمة الشاحبة ووضع القفص في سطل القمامة ، فبال عليه ثم خرج ولم يعد."(النجاة…النجاة..ص.8)
وفي قصة "أحلام كبش" ، التي يذكرنا عنوانها بالرواية الجميلة لمحمد الهرادي "أحلام بقرة" ، تصادفنا سخرية من نوع خاص..سخرية لاذعة ومرة ، تأتي هذه المرة على لسان أكباش تتحاور في سوق "قهروان" قبيل عيد الأضحى..قال الكبش (ب) لزميله الكبش( ك) معربا عن خوفه من ان يشتريه موظف بسيط : "سيظل يلعنني ويلعن آبائي وجدودي إلى أن يرد السلف كاملا"(ص.41) أما الكبش (ش) فكل خوفه أن يقع بين أيدي ممرض : "عوض أن يذبحني مرة واحدة ، يقطع لحمي وأنا واقف أنزف ، ثم يعالج جروحي حتى إذا شفيت ، ونما لحمي من جديد ، جاء يقطعني مرة أخرى.
- ومن أين له هذه القدرة الجهنمية؟
- من المشاريط والأدوية التي يلهفها من المستشفى ، حتى لا تؤذي الناس الطيبين الذين يزدحمون كل يوم في قاعات الانتظار والممرات ، شاحبين متوسلين."(ص.ص.42/43).أما الكبش(ك) فيتيه على زميليه بصوفه الأبيض وقرنيه المعقوفين كمنجل ويقول: "أكيد أنني سأكون من نصيب رجل سلطة سيأتي بجلبابه الشفاف الذي لم يدفع ثمن حياكته بعد…لن تلمسني يده أبدا ، وعلى غير عادته سيدفع ثمني عدا ونقدا تجنبا لألسنة السوء التي تترصده.وفي بيته الواسع لن يقربني طفل قط لكثرة ما تعودوا رؤيتنا ، بل سيقوم على شؤوني موظف ما زال يتشعبط في السلم الإداري المدهون بالصابون البلدي.وستزين أطباقي بكل فواكه العربات المحجوزة.وسأطبخ في دفعتين أو ثلاث دون أن أعلق فوق أسلاك السطوح لأستحم في حمامات الملح والشمس ، وستخرج عظامي من بيته سالمة مكسوة…"(ص.43)
وفي قصة "البحث عن السروال" تطالعنا سخرية قاتمة ، موضوعها ذلك الشيخ الذي يظهر أمام مريديه في "صورة الأب العطوف والمربي المتفهم والمعلم الواعظ"(ص.46) ، ولكنه لا يجد أدنى غضاضة في هتك عرض مريده "الطايع" *، معيدا بذلك إنتاج التجربة التي عاشها هو نفسه على يد شيخه ، ومكرسا في الوقت نفسه استمرارية هذه الظاهرة المشينة.."حين التقت عيونهما ، قال (ن) :
- الآن صرت رجلا.
لم يرد الطايع ، وإنما انشغل بالبحث عن سرواله.(ص.48).
5 - اللغة بين الواقعية والشعرية:
على الرغم من أن قارئ هذه المجموعة يشعر أن لغتها تنساب انسيابا طبيعيا من قلم الكاتب لا أثر فيه للتكلف والتصنع ، إلا أنها مع ذلك ، حظيت باهتمام خاص من قبله..فهي تلبس لكل فضاء لبوسه فتنسجم معه "كأنما خلقت له"(تقديم..ص.5).وتحس وأنت تتابع مشاهد الوصف ، مثلا ، أن الكاتب حريص على اختيار المناسب من ألفاظه لوضع القارئ في صلب المشهد ، فهي:"تسمي الأشياء بأسمائها المستعملة في الواقع ولا تتحرج من أن تكون نابية أحيانا، وقاسية أحيانا وصادمة أحيانا.(نفسه..ص.ص.5/6).
ولئن غلب على لغة المجموعة البعد الواقعي الذي فرضته طبيعة الموضوعات المعالجة ، فإنها مع ذلك ، لم تخل من بعض النفحات الشعرية التي كان لها دور المخفف من عبء تلك الواقعية المؤلمة..من ذلك مثلا :
*"تطير به الريح إلى بلاد السند والهند، يصارع آلهة البحار ، ويعود بعد طول انتظار ، محملا بالهدايا والمحار"(النجاة…النجاة.ص.7).
*"تعود أن يستحم في بحار عيونها ويتدفأ في مواقد ابتسامته ا"(سقط القناع.ص.28).
*"كان الفجر يتثائب مجردا نوره من غمد الظلام"(معلمة بالقوة..ص.31).
*"حين يلف الليل الحي في عباءة صمته"(فجأة..ص.49).
*"كانت آهاتها تملك أجنحة من فراش الربيع ، تحملك عاليا ، عاليا ، حتى"تشرب الفجر خمرا في كؤوس من أثير" ثم تعود بك ذائبة ، ذائبا ، متلاشية ، متلاشيا ، كأنفاس الندى".(فجأة..ص.49)
وبالإضافة إلى هذه الانفلاتات الشعرية الجميلة ، حرص الكاتب على تكسير رتابة الواقعية في عدد من قصصه بإدراج بعض المقاطع الشعرية المناسبة للموقف ، أو مقاطع من بعض الأغاني المعروفة.(كما في قصتي "فجأة" و"الدائرة".)
ولعل ما يحبب هذه اللغة إلى نفس القارئ تلك التشبيهات الطريفة التي تتسلل إليها بين الفينة والأخرى ، فتضفي عليها خفة وجمالا ، فاتحة بذلك آفاقا من التخييل لدى المتلقي..ومن الأمثلة على تلك التشبيهات :
*غرفة تصلح لأي شئ إلا أن تكون بيتا. فيه يصبحون وإليه يروحون ، كأنه دبر دجاجة"(حدث ذات صباح..ص.9)
*"صارت الشمس في الأفق مائلة كعين الأحول"(حدث ذات صباح..ص.9).
*اندفع الرجال يزحزحون الشاحنة الرابضة كبعير"(شامة والباشا..ص.15).
*"كان الباشا يتلقفه م ن حضن أمه كفاكهة صبار"(شامة والباشا..ص.17)
*"تأملها فبدت له كقبعة المخزني الذي…"(القانون الجديد..ص.25).
*"فجأة تساقطت الذكريات كخمج من المشمش"(سقط القناع..ص.28).
*"داهمته صورة الحاج بفمه الأدرد كفم مزودة"(موزع الخبز..ص.29).
*تبدو(المدينة) في بحر أضوائها كراقصة شرقية"(الدائرة..ص.35).
*"تسحب من سيجارتها الشقراء أنفاسا كأنفاس الكير"(رأس السنة..ص.36).
*"غسلوا سفافيدهم المعوجة كمخالب ذئب"(أحلام كبش..ص.42).
*"امتدت يد خشنة إلى ظهره فأحسها كملقاط"(أحلام كبش..ص.43)
*"توقفت عيناه مرة أخرى على العنوان المنتصب كمقدة"(أحلام كبش..ص.43).
*"صورة وزير القبيلة "خازوق بن فرحان" الضاحكة كرأس خروف مشوي"(أحلام كبش..ص.43).
والملاحظ أن معظم تلك التشبيهات تمتح صورها من البيئة البدوية التي حظيت في هذه المجموعة باحتفاء خاص ، سواء على مستوى الفضاء أو مستوى الشخوص أو مستوى الرؤية التي تعكسها اللغة المستعملة..
6 - لعبة الضمائر:
قدم القاص نصوصه موظفا مختلف الضمائر المعتمدة عادة في السرد والحكي..غالبية القصص(13قصة) استعمل فيها الكاتب ضمير الغائب الذي يفسح أمامه مجالا أكبر للسرد والوصف ، وتحكما أكبر في الأحداث والشخوص والفضاء.. في حين استعمل في عدد أقل (5قصص) ضمير المتكلم الذي يقيد الكاتب نسبيا ، ويكاد يحصر حكيه في تجارب ذاتية معيشة..وانفردت قصة واحدة(هي قصة "فجأة") بضمير المخاطب "أنت"..وهي صيغة أخرى للطريقة الأولى ، ولكنها تجعل السارد أقرب إلى الشخوص ، بل إنها تجرده من "سرديته" وتجعله مجرد مخاطِب يتحدث إلى الشخوص ويُسمعنا ، من حيث لا نشعر ، مضمون خطابه إليها..وبذلك نغدو ، نحن أيضا ، طرفا في لعبة السرد /الخطاب..
وفي قصة "الصعود إلى الهاوية" عمد القاص إلى تقنية جعلت السارد يتراجع إلى الخلف ليفسح المجال لسارد آخر(هو الكاتب نفسه في الغالب) حين قطع حبل السرد للحظة وجيزة ليفضح السارد الذي ظل يتعقب خطوات البطلة:" خشي السارد افتضاح أمره ، فاكتفى بمراقبتها من بعيد .اخت فت بل ذابت كقطعة ملح.وخوفا من تعطيل عملية السرد ورد فعل القراء ، تحمل السارد مشاق الانتظار يوما كاملا.(ص.22).إن هذه التقنيةالتي تبدو وكأنها مقحمة هنا ، لها دوران: فهي من جهة تكسر رتابة السرد الأحادي، وهي من جهة أخرى تعيد للمؤلف سلطته ووصايته اللتين استولى عليهما السارد بقوة السرد..فكأن الكاتب بذلك يعيد الأمور إلى نصابها ، ويذكر القارئ أن هذا السارد هو مجرد أداة يستعين بها لنقل الحكاية إلى المتلقي ، وبالتالي فهو قادر ، في كل لحظة ،على إيقافه عن السرد وفضحه أمام القراء..
7- مصافحة أخيرة :
إن هذه المجموعة القصصية ، بما تميزت به من صدق في التصوير ، وجمالية في التعبير ، وتقنية في السرد ، وانسيابية في الحكي ، وتلقائية في اللغة والأسلوب ، لجديرة حقا بأن تعد "إضافة نوعية إلى المتن القصصي المغربي"(تقديم..ص.6). ولئن كانت هذه المجموعة تمثل باكورة أعمال الأستاذ محمد كروم فإن إبداعاته المرتقبة ستحمل ، دون شك ، إضافات أخرى تغني المشهد القصصي المغربي الذي عرف في العقود الأخيرة نهضة كبرى ، جعلت أحد المولعين بالتصنيفات يخص تونس بالشعر ، والجزائر بالرواية ، والمغرب بالقصة القصيرة…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*لاسم "الطايع" هنا دلالة لغوية مباشرة تقترن بالطاعة ، ودلالة أخرى رمزية تحيل على الكاتب المغربي عبدالله الطايع.!
المصطفى السهلي - سلا الجديدة - المغرب
3 - ثنائية الفضاء في المجموعة:( مدينة / بادية):
يتوزع الفضاء في هذه القصص إلى فضاء حضري وفضاء بدوي يتحرك فيهما الشخوص وتتفاعل الأحداث وتتطور..وما يميزهما أساسا أنهما يستظلان معا بظل شجرة القهر ، لأن الكاتب يرصد فيهما حالات من الفقر والبؤس والحرمان جعلت أبطال قصصه ضحايا وضعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية مزرية..في قصة "حدث ذات صباح" يعود بوعزة وزوجته راضية من البيضاء حيث كان يشتغل بنـّاء ، وحيث كان يعيش في غرفة واحدة تتسع لكل شئ..عاد إلى قريته "الشويريج" فيما يشبه هجرة معكوسة ليعيد ترميم بيت آبائه القديم والمتهالك..لكنها عودة تنتهي بمأساة ، لأنه قتِل في نهاية المطاف على يد "كوبيزة" بسبب سنبلة كيف واحدة..(ص.11).
فضاء القرية هذا فقد الكثير من قيمه النبيلة والصافية ، وأصبح هو أيضا مرتعا لكل المآسي والمصائب: مخدرات وشذوذ جنسي وفساد سياسي وبطالة مستشرية جراء سنوات الجفاف المتعاقبة..حتى نجوم السماء في البادية لم يعد لها ذلك البريق السابق ، فما "عاد الأطفال يتعق بون حركتها أو يعرفون أسماءها… لقد أعمتها المصابيح التي انتشرت في القرية كالفطر.المصابيح التي زغردت لها النساء وسهرن على ضوئها في الزوايا التي كانت مأوى للعشاق’…(حاطب ليل..ص. 53)..
فضاء القرية كذلك لم يعد فيه ما يغري بالبقاء ولا ما يبعث على التضحية..في قصة "معلمة بالقوة" نقرأ هذا الوصف الدال لقرية معلقة فوق جبل وكأن مستقبلها سيظل معلقا إلى الأبد: "كل شئ كان معلقا : القرية على أكتاف الجبل ، الحيوانات على سطوح البيوت ، القراد على آذان الحيوانات ، الذباب على الأطفال ، عيون الأطفال على العصا والمدرسة ، عيون الأهالي على المعلمين والمعلمات ، عيون المعلمين على المعلمات ، عيون المعلمين والمعلمات على الطريق ، على الزاد ، على المدير ، على الوزارة ، على نهاية السنة.."(ص.32).
فضاء القرية كانت له نوستالجيا خاصة في نفس الكاتب..حتى إنك لتحس بحميمية الأماكن في قرية "الشويريج" التي قدمت عنها قصة "عام الكلاب" صورة مأساوية تجعلك تدرك الوضع المزري الذي آلت إليه جراء تعاقب سنوات القحط والجفاف : "البيوت الطينية ذاتها لا تزال صامدة قصيرة ، لكن سطوحها لم تعد كما كانت ملأى حطبا أو حشائش وفواكه جافة.."(ص.12).ونقترب بشكل افضل من التحولات التي أحدثها الجفاف في القرية ، حين تتداعى دكريات السارد ، الذي نكاد نجزم أنه يتطابق هنا مع الكاتب تطابقا كاملا:"أشواك السدر التي كنا نعرفها واحدة واحدة ، وكنا نبيع نبقها لأولاد المدينة أو نهديه مغتبطين لبناتها ، صارت حطبا.وأشجار الزيتون التي كنا نسرق حباتها لنبيعها للطاهر الأعور أو الحسن الأقرع…شاخت ولم تبق منها ألا هياكل منخورة سوداء ، تنعب فوقها بومة شمطاء قبل أن تنجحر في جحر سكنته الثعالب أيام كان أهل قرية الشويريج يستيقظون على صياح الديكة.الخطارات والحفر التي كانت تخزن مياه الأمطار لشهور وتغري طفولتنا بزجاج صقيعها وبيض ضفادعها المصطف كحبات عقيق سوداء ، غطتها الهياكل العظمية والقرون ونتف الصوف."(.(.13/14).
الفضاء الحضري بدوره يطفح هو الآخر بمشاهد الفقر ومظاهر القهر..شخوصه في أغلبهم شباب سدت في وجوههم أبواب الأمل ، فغدوا يلوكون قهرهم ويجترون مآسيهم فيما يشبه موتا بطيئا..تصور قصة "الصراصير" الحالة المزرية لغرفة طالب يكابد من أجل إتمام دراسته ، في ظروف تنعدم فيها أدنى شروط الإنسانية: "زحزحتُ علب الكارتون التي تحوي كتبي وأشيائي ال تافهة ، فبدت جثة فأر متورمة تتقرفص فوقها كتائب نمل مرعب طالما غزا سكري وعدسي وأشياء أخرى’..(ص.ص.20/21)..وفي قصة "الصعود إلى الهاوية" تتبع السارد بعض اللحظات من يوم في حياة مومس دفعتها ظروف أسرتها إلى امتهان أقدم حرفة..يوم لا نعرف كل تفاصيله ، لأن السارد اقتصر على لحظتي خروجها من البيت في غبش الفجر ، وعودتها إليه مع غروب الشمس..وإذا كانت المؤلفات الأدبية عموما قد تعودت على الحديث عن ظاهرة البغاء تحت جنح الظلام ، وهو الزمن المألوف في مثل هذه الحالات ، لأن الليل أخفى للويل ، فإن هذه القصة ، على العكس ، جعلت الظاهرة تمارس في واضحة النهار وبشكل علني ومكشوف ، وكأن هذا الفضاء الموبوء تجرد من كل القيم النبيلة وأصبح مرتعا للرذيلة والفساد..وهي الفكرة نفسها التي تعود بتنويعات مختلفة في قصص أخرى من هذه المجموعة ، مثل "سقط القناع" (ص.27) ، و"موزع الخبز" (ص.29) ، والدائرة (ص.33) ، و"رأس السنة"(ص.36).
4 - السخرية القاتمة :
تعتبر السخرية طريقة فنية لانتقاد الواقع من خلال رصد تناقضاته الصارخة وصوره المستهجنة ومواقفه المتنافرة..وبقدر ما يكون الواقع مرا ، تكون السخرية منه أشد مرارة..وبقدر ما تكون المواقف متناقضة تكون السخرية منها أبلغ أثرا وأعمق دلالة في انتقادها لحالات الاختلال ومظاهر الفساد..لقد أدت السخرية – في تاريخ الآداب الإنسانية – دورا كبيرا في تعرية الواقع والكشف عن مواطن الخلل في السلوك والحياة ، ليس بقصد الاستهزاء والضحك ، ولكن عن طريق الإمساك بخيوط المفارقات والتناقضات الصارخة التي إذا تجاوزت حدها المقبول انقلبت إلى عبث وهزل ، كما في المقولة الشعبية الشائعة "إيلى كثر الهم كيضحك"..
وتستوقفنا في هذه المجموعة القصصية مشاهد مثيرة للسخرية حقا ، التقطها الكاتب بذكاء ، ووظفها في قصصه بتقنية وفنية كبيرتين..في قصة "شامة والباشا" نجد سخرية واضحة من رجل السلطة الذي لا يتردد لحظة واحدة في قمع كل صوت قد يحمل بذرة احتجاج ، حتى وإن كان لصبي مغلوب على أمره. .أقبل رجل السلطة "يتلقفه من حضن أمه كفاكهة صبار ، ويجري به إلى خارج القاعة ، قبل أن يعود وهو ينفض رؤوس اصابعه ، مبتسما بخبث لصوت الميكروفونات الذي طغى على كل صوت"(ص.17).وستظل السخرية اللاذعة تلاحق رجل السلطة على اختلاف رتبه ، من الباشا إلى القائد فالمخزني والمقدم:
* "وفي رأس الزقاق رجل مسن يسب الفراغ ويتبول بتشف على باب بيت المقدم"(الصراصير..ص.20)..
* "ارتمى بكل ثقله تحتها(الشجرة) غير عابئ بالرائحة النتنة المنبعثة من جثة طائر تتحرك على إيقاع فيلق من الدود.تأملها فبدت له كقبعة المخزني الذي…"(القانون الجديد..ص. 25)..
* "أكيد أنني سأكون من نصيب رجل سلطة سيأتي حالا بجلبابه الشفاف الذي لم يدفع ثمن حياكته بعد ، يمشي على رؤوس أصابعه ، تسبقه كلابه ، في يمناه هاتف يتلقى به التهاني عابسا ، وفي يسراه آخر يتلقى به الشتائم باسما."(أحلام كبش..ص.43)..
* "بيت المقدم وحده ما تزال تدب فيه الحركة.بالأمس قبيل هذا الوقت تشاجر مع زوجته.عيرها بالجهل والغباء فردت منفجرة:
- إلى كنت رجل اخرج علي من داري…
لم يرد عليها رد على الهاتف الذي رن فجأة
- ألو سعادة القايد…
- ……
- نع م أسيدي
- ……..
- غدا تجيك أخبارهم كاملين."(حاطب ليل..ص.54).
وللفساد السياسي نصيبه من السخرية في هذه المجموعة القصصية..فقد
بلغ حدا من التعفن لم يعد يجدي معه مجرد الانتقاد..فأصبحت السخرية منه وسيلة من وسائل إدانته.."لقد حلت محل تلك الحكايات ، حكايات جديدة ، حكايات لم تعد تعمر طويلا باستثناء واحدة ظلت وستظل تنتقل من لسان إلى لسان ، هي حكاية المرشح الذي…صحيح أن الناس حكوا عنه أشياء كثيرة ، عن فشله في تعليم الصغار ، عن ذكورته المخصية ، عن زوجته التي تحركه كالخاتم…لكن الذي شدهم هذه المرة هو حكاية المصابيح التي سرقها وباعها في المدينة.
قال الشبان : صرف ثمنها على تعليم ولده.
قال الكبار : بنى بها بيته الجديد.
قالت النساء : اشترى بها لباسا جديدا لزوجته."(حاطب ليل..ص.53)
وللسخرية طعم خاص حين تقترن بالرمز ، حتى وإن كانت المأساة التي يتم التلميح إليها قد زكمت رائحتها كل الأنوف.."وفجأة وقف يتأمل. لا يدري كيف ولا متى وصل هذا الميزان البلاستيكي إلى وسط هذه الكومة؟ بصق عليه وهو ينفض الغبار عنه.علت شفتيه بسمة شاحبة.تلفت يمنة ويسرة ثم وضع الميزان في قفص لم يؤمن يوما بجد واه فعلقه منذ زمان على الجدران.تسارعت حركاته وهو يبحث عن أشياء أخرى يود وضعها بجانب الميزان.علت وجهه مرة أخرى تلك البسمة الشاحبة ووضع القفص في سطل القمامة ، فبال عليه ثم خرج ولم يعد."(النجاة…النجاة..ص.8)
وفي قصة "أحلام كبش" ، التي يذكرنا عنوانها بالرواية الجميلة لمحمد الهرادي "أحلام بقرة" ، تصادفنا سخرية من نوع خاص..سخرية لاذعة ومرة ، تأتي هذه المرة على لسان أكباش تتحاور في سوق "قهروان" قبيل عيد الأضحى..قال الكبش (ب) لزميله الكبش( ك) معربا عن خوفه من ان يشتريه موظف بسيط : "سيظل يلعنني ويلعن آبائي وجدودي إلى أن يرد السلف كاملا"(ص.41) أما الكبش (ش) فكل خوفه أن يقع بين أيدي ممرض : "عوض أن يذبحني مرة واحدة ، يقطع لحمي وأنا واقف أنزف ، ثم يعالج جروحي حتى إذا شفيت ، ونما لحمي من جديد ، جاء يقطعني مرة أخرى.
- ومن أين له هذه القدرة الجهنمية؟
- من المشاريط والأدوية التي يلهفها من المستشفى ، حتى لا تؤذي الناس الطيبين الذين يزدحمون كل يوم في قاعات الانتظار والممرات ، شاحبين متوسلين."(ص.ص.42/43).أما الكبش(ك) فيتيه على زميليه بصوفه الأبيض وقرنيه المعقوفين كمنجل ويقول: "أكيد أنني سأكون من نصيب رجل سلطة سيأتي بجلبابه الشفاف الذي لم يدفع ثمن حياكته بعد…لن تلمسني يده أبدا ، وعلى غير عادته سيدفع ثمني عدا ونقدا تجنبا لألسنة السوء التي تترصده.وفي بيته الواسع لن يقربني طفل قط لكثرة ما تعودوا رؤيتنا ، بل سيقوم على شؤوني موظف ما زال يتشعبط في السلم الإداري المدهون بالصابون البلدي.وستزين أطباقي بكل فواكه العربات المحجوزة.وسأطبخ في دفعتين أو ثلاث دون أن أعلق فوق أسلاك السطوح لأستحم في حمامات الملح والشمس ، وستخرج عظامي من بيته سالمة مكسوة…"(ص.43)
وفي قصة "البحث عن السروال" تطالعنا سخرية قاتمة ، موضوعها ذلك الشيخ الذي يظهر أمام مريديه في "صورة الأب العطوف والمربي المتفهم والمعلم الواعظ"(ص.46) ، ولكنه لا يجد أدنى غضاضة في هتك عرض مريده "الطايع" *، معيدا بذلك إنتاج التجربة التي عاشها هو نفسه على يد شيخه ، ومكرسا في الوقت نفسه استمرارية هذه الظاهرة المشينة.."حين التقت عيونهما ، قال (ن) :
- الآن صرت رجلا.
لم يرد الطايع ، وإنما انشغل بالبحث عن سرواله.(ص.48).
5 - اللغة بين الواقعية والشعرية:
على الرغم من أن قارئ هذه المجموعة يشعر أن لغتها تنساب انسيابا طبيعيا من قلم الكاتب لا أثر فيه للتكلف والتصنع ، إلا أنها مع ذلك ، حظيت باهتمام خاص من قبله..فهي تلبس لكل فضاء لبوسه فتنسجم معه "كأنما خلقت له"(تقديم..ص.5).وتحس وأنت تتابع مشاهد الوصف ، مثلا ، أن الكاتب حريص على اختيار المناسب من ألفاظه لوضع القارئ في صلب المشهد ، فهي:"تسمي الأشياء بأسمائها المستعملة في الواقع ولا تتحرج من أن تكون نابية أحيانا، وقاسية أحيانا وصادمة أحيانا.(نفسه..ص.ص.5/6).
ولئن غلب على لغة المجموعة البعد الواقعي الذي فرضته طبيعة الموضوعات المعالجة ، فإنها مع ذلك ، لم تخل من بعض النفحات الشعرية التي كان لها دور المخفف من عبء تلك الواقعية المؤلمة..من ذلك مثلا :
*"تطير به الريح إلى بلاد السند والهند، يصارع آلهة البحار ، ويعود بعد طول انتظار ، محملا بالهدايا والمحار"(النجاة…النجاة.ص.7).
*"تعود أن يستحم في بحار عيونها ويتدفأ في مواقد ابتسامته ا"(سقط القناع.ص.28).
*"كان الفجر يتثائب مجردا نوره من غمد الظلام"(معلمة بالقوة..ص.31).
*"حين يلف الليل الحي في عباءة صمته"(فجأة..ص.49).
*"كانت آهاتها تملك أجنحة من فراش الربيع ، تحملك عاليا ، عاليا ، حتى"تشرب الفجر خمرا في كؤوس من أثير" ثم تعود بك ذائبة ، ذائبا ، متلاشية ، متلاشيا ، كأنفاس الندى".(فجأة..ص.49)
وبالإضافة إلى هذه الانفلاتات الشعرية الجميلة ، حرص الكاتب على تكسير رتابة الواقعية في عدد من قصصه بإدراج بعض المقاطع الشعرية المناسبة للموقف ، أو مقاطع من بعض الأغاني المعروفة.(كما في قصتي "فجأة" و"الدائرة".)
ولعل ما يحبب هذه اللغة إلى نفس القارئ تلك التشبيهات الطريفة التي تتسلل إليها بين الفينة والأخرى ، فتضفي عليها خفة وجمالا ، فاتحة بذلك آفاقا من التخييل لدى المتلقي..ومن الأمثلة على تلك التشبيهات :
*غرفة تصلح لأي شئ إلا أن تكون بيتا. فيه يصبحون وإليه يروحون ، كأنه دبر دجاجة"(حدث ذات صباح..ص.9)
*"صارت الشمس في الأفق مائلة كعين الأحول"(حدث ذات صباح..ص.9).
*اندفع الرجال يزحزحون الشاحنة الرابضة كبعير"(شامة والباشا..ص.15).
*"كان الباشا يتلقفه م ن حضن أمه كفاكهة صبار"(شامة والباشا..ص.17)
*"تأملها فبدت له كقبعة المخزني الذي…"(القانون الجديد..ص.25).
*"فجأة تساقطت الذكريات كخمج من المشمش"(سقط القناع..ص.28).
*"داهمته صورة الحاج بفمه الأدرد كفم مزودة"(موزع الخبز..ص.29).
*تبدو(المدينة) في بحر أضوائها كراقصة شرقية"(الدائرة..ص.35).
*"تسحب من سيجارتها الشقراء أنفاسا كأنفاس الكير"(رأس السنة..ص.36).
*"غسلوا سفافيدهم المعوجة كمخالب ذئب"(أحلام كبش..ص.42).
*"امتدت يد خشنة إلى ظهره فأحسها كملقاط"(أحلام كبش..ص.43)
*"توقفت عيناه مرة أخرى على العنوان المنتصب كمقدة"(أحلام كبش..ص.43).
*"صورة وزير القبيلة "خازوق بن فرحان" الضاحكة كرأس خروف مشوي"(أحلام كبش..ص.43).
والملاحظ أن معظم تلك التشبيهات تمتح صورها من البيئة البدوية التي حظيت في هذه المجموعة باحتفاء خاص ، سواء على مستوى الفضاء أو مستوى الشخوص أو مستوى الرؤية التي تعكسها اللغة المستعملة..
6 - لعبة الضمائر:
قدم القاص نصوصه موظفا مختلف الضمائر المعتمدة عادة في السرد والحكي..غالبية القصص(13قصة) استعمل فيها الكاتب ضمير الغائب الذي يفسح أمامه مجالا أكبر للسرد والوصف ، وتحكما أكبر في الأحداث والشخوص والفضاء.. في حين استعمل في عدد أقل (5قصص) ضمير المتكلم الذي يقيد الكاتب نسبيا ، ويكاد يحصر حكيه في تجارب ذاتية معيشة..وانفردت قصة واحدة(هي قصة "فجأة") بضمير المخاطب "أنت"..وهي صيغة أخرى للطريقة الأولى ، ولكنها تجعل السارد أقرب إلى الشخوص ، بل إنها تجرده من "سرديته" وتجعله مجرد مخاطِب يتحدث إلى الشخوص ويُسمعنا ، من حيث لا نشعر ، مضمون خطابه إليها..وبذلك نغدو ، نحن أيضا ، طرفا في لعبة السرد /الخطاب..
وفي قصة "الصعود إلى الهاوية" عمد القاص إلى تقنية جعلت السارد يتراجع إلى الخلف ليفسح المجال لسارد آخر(هو الكاتب نفسه في الغالب) حين قطع حبل السرد للحظة وجيزة ليفضح السارد الذي ظل يتعقب خطوات البطلة:" خشي السارد افتضاح أمره ، فاكتفى بمراقبتها من بعيد .اخت فت بل ذابت كقطعة ملح.وخوفا من تعطيل عملية السرد ورد فعل القراء ، تحمل السارد مشاق الانتظار يوما كاملا.(ص.22).إن هذه التقنيةالتي تبدو وكأنها مقحمة هنا ، لها دوران: فهي من جهة تكسر رتابة السرد الأحادي، وهي من جهة أخرى تعيد للمؤلف سلطته ووصايته اللتين استولى عليهما السارد بقوة السرد..فكأن الكاتب بذلك يعيد الأمور إلى نصابها ، ويذكر القارئ أن هذا السارد هو مجرد أداة يستعين بها لنقل الحكاية إلى المتلقي ، وبالتالي فهو قادر ، في كل لحظة ،على إيقافه عن السرد وفضحه أمام القراء..
7- مصافحة أخيرة :
إن هذه المجموعة القصصية ، بما تميزت به من صدق في التصوير ، وجمالية في التعبير ، وتقنية في السرد ، وانسيابية في الحكي ، وتلقائية في اللغة والأسلوب ، لجديرة حقا بأن تعد "إضافة نوعية إلى المتن القصصي المغربي"(تقديم..ص.6). ولئن كانت هذه المجموعة تمثل باكورة أعمال الأستاذ محمد كروم فإن إبداعاته المرتقبة ستحمل ، دون شك ، إضافات أخرى تغني المشهد القصصي المغربي الذي عرف في العقود الأخيرة نهضة كبرى ، جعلت أحد المولعين بالتصنيفات يخص تونس بالشعر ، والجزائر بالرواية ، والمغرب بالقصة القصيرة…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*لاسم "الطايع" هنا دلالة لغوية مباشرة تقترن بالطاعة ، ودلالة أخرى رمزية تحيل على الكاتب المغربي عبدالله الطايع.!
المصطفى السهلي - سلا الجديدة - المغرب