الرب باقٍ في الموسيقى .. آلام المسيح برواية "متى" لباخ - أحمد عبد الله

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
bach.jpgثراء عصر الباروك الموسيقي مازال أمرا مثيرا للدهشة ، في هذا العصر الذي يحدد المورخون بدايته  ببداية القرن السابع عشر (١٦٠٠)  و ينهونه تقريبيا بوفاة  "باخ " عام ١٧٥٠ بلغت الموسيقي أوج  بهائها و إزدهارها، ٌآزدهارا  لم تعرفه في عصور سابقه بل و ربما في كل  تبعه من عصور أو  يجدر بنا القول  أن ما عايشته الموسيقى في هذا العصر من تطور كبير في القواعد و الأساليب كان أضعاف ما عرفته  من تطور في تاريخها السابق كله و ما أرساه من تقاليد فنية  كان أساسا للتتطورات اللاحقه في القرنين الثامن و التاسع عشر.امتاز تيار موسيقى عصر الباروك باتساع و تنوع رقعته، فلم يقتصر الإنتاج الموسيقي علي قطر واحد بل اتسع ليشمل عددا من  المدارس المختلفة في العديد من البلدان الأوربية فبدأ بدايته الحقيقية في إيطاليا بظهور العبقري مونتيفردي Montiverdi(١٥٦٧-١٦٤٣) الذي أخرج أول أوبرا حقيقية و خلافاءه من أمثال "كوريللي Corelli ( ١٦٥٣-١٧١٣) و فيفالدي Vivaldi(١٦٧٠-١٧٤٣)  و "سكارلاتي "Scarlatti(١٦٨٥-١٧٥٧) و قد كان لمدرسة الباروك الإيطالية فضلا عظيما علي موسيقي ذلك العصر فقد أرسي أعلامها القواعد الخاصة بقوالب السوناتا و الفوجه  Fugeو الكونشرتو ، كما نشأ علي أيديهم فن الأوبرا و إلي جانب المدرسة الإيطاليه كان هناك الباروك الإنجليزي  الذي حمل لواءه "هنري بورسل " Purcell الذي ألف عددا كبيرا من الأوبرات تأثر فيها إلي حد كبير بالأوبرا الإيطالية و أيضا بإسلوب معاصره الفرنسي " لولي " (١٦٣٢-١٦٨٧)الذي قاد بموهبته الثورية هو و معاصره"كوبران " Couperin(١٦٦٨-١٧٣٣) ثم "راموه " Ramu( ١٦٨٣-١٧٦٤) مدرسه الباروك الفرنسيه التي صنعت للموسيقي الفرنسية إسلوبا خاصا و سمعة ممتازه  تجاري الإيطاليون فيما حققوه من نهضة موسيقية ، أما ألمانيا فقد كانت الموسيقي فيها أقل شأنا من نظيرها في إيطاليا و فرنسا إلي أن جاء العبقري العظيم " يوهان سبستيان باخ" (١٦٨٥-١٧٥٠) الذي اقترنت موسيقي الباروك باسمه و قدم أروع و أخلد منجازاتها و ارتفع بالموسيقي إلي سموات علا لم يطأها عقل قبله و لا بعده


"إننا لا نقيم وزنا لما كان للقرن الثامن عشر من علم لاهوت و من ثقافة كنسية و  لكننا نري في منشدات باخ و قصص الآلام التي وضعها  أعظم ترقية للثقافة المسيحية "هرمان هيسه - "لعبة الكريات الزجاجية "
    كان القرن السابع عشر و الثامن عشر في أوربا  عصر "العقل" الذي قام من سباته الطويل    لينشيء للإنسانية فوق أنقاض اللاهوت  المهزوم صروحا فكريه أخاذه منتقلا من  نصر إلي نصر،  ثورات كوبرينكوس و نيوتن و جاليليو اللاتي  طردن من الكون أشباحه و أساطيره فصار  قريبا ممهدا للعقل ليعمل فيه أدواته و مقاييسه بلا خوف و أخذت المسيحية يوما بعد يوم في الإنزواء تخسر كل يوم موقعه خلف الأخرى فأقصيت الكنيسة من شؤون الحكم و الفكر إن لم يقف  منها المفكرون و الساسة  موقف عنيف معادي و أصبحت قصص الكتاب المقدس و مواعظه و فلسفته ضربا من  الثقافة  الهامشيه التي اعتقد انه ربما كان من الأفضل تجنبها و اختفت صوره من الأدب كما اختفت الأطروحات الكنسية من الفكر، و كاد يختفي المسيح و صليبه و أمه المكلومة و حورايه من الفن التشكيلي  بعد أن حلت محلهم  بدينات "روبنز " العاريات و ملائكة "الركوكو " الأشقياء ، بقت الموسيقي وحدها مأوي المسيحية الأخير الذي لم يتقوض بل أخذ علي عكس التيار الثقافي العام يزدهر و يزدان  بكل ما هو  جديد،صحيح أن هذا العصر قدم فن الأوبرا الذي أرضى بظهوره في إيطاليا أولا ثم في باقي البلاد الأوربية الذوق الناشئ عن ما عصف بالمجتمع من تغيرات ثقافيه كبيرة. و الأوبرا قد أخرجت الموسيقي من الكنيسة، مكانها الأثير في العصور السابقة .فالموسيقي قبل ذلك كانت كلها تقريبا إما موسيقي شعبيه خفيفة لم يعتد بها التاريخ و لا بمؤلفيها ولم يحفظ لنا الكثير مما أنتجته، و إما موسيقي دينية تحتضنها قاعات الكنائس و تخصص لها فرق الكورال و تعين لها المؤلفين جاء فن الأوبرا بشكل موسيقي مختلف أقبل عليه برجوازيوا العصر الجديد بحماس  ليحقق في فترة وجيزة نجاح  كبير و انتشار عظيم الإتساع. ظهر فن الأوبرا  ليكون خير ممثلا للنزعة الإنسانية التي أجتاحت الفكر الغربي في عصر النهضة و استلهمت مثلها في الفنون و الأداب من تراث الثقافة الإغريقيه القديمه التي تصاعد الولع بكشف كنوزها و محاكاة قيمها الجماليه .نقول أنه رغم ظهور فن الأوبرا وإثباته لجدارته كفن قادر علي البقاء و التطور إلا أن  الموسيقي الدينية لم تتأثر سلبا. لم تسلب الأوبرا بمسارحها الباذخة و نصوصها الدنيويه و أساطيرها القديمة وثنية الطابع و مويسقاها حسيه الإيقاعات سحر الموسيقي الدينيه فبقت آمنه محتفظة بمكانتها و لم يصبها ما أصاب صروح المسيحية الأخرى من وهن بل ارتفعت و تسامت  أبداعاتها أكثر من أي وقت أخر  و أصبحت بفضل عظمة مبدعيها قلبا للثقافة المسيحية  النابض بالحياة و الجمال التي خفتت أصواتها في كل مكان ، ربما نفر مفكر حر من تقليد كاثولكي ما، ربما هاجم المسيحية و أغلظ فيها القول. ربما استنكر ناقد فنى ما في كتابات تولستوي الأخيرة أو أشعار ت.س. إليوت  T.S.Eliot من روح صوفيه و نزعات وعظية دينية و لكن لا يملك كلاهما إلا إبداء  الخشوع و الإجلال إذا ما استمعا إلى قداس لباخ أو أوراتوريوا Oratorio لهاندل ، مع أن دوافع "باخ " في تأليف قداسه لا تختلف كثيرا عن دوافع تولستوي في كتابة " البعث " مثلا، فكلاهما أنتج ما انتجه مدفوعا بإيمان ديني عميق و ورع صادق و حس أخلاقي أكيد. و لكن يبدو أن عظمة "باخ" الموسيقية قد فاقت كل ما تحتويه موضوعاته من فكر و معان  أو هي قد بثت في تلك الموضوعات روح عجيب أعاد خلقها من جديد ،فبدت لكل من امتلك حس مرهف ساحرة خلابه باعثه على خشوع غامض،أيما كانت ثقافة المستمع و عقيدته و مهما كان موقفه من المسيحية أو معرفته بثقافتها و قصصها، خلاصه القول أنه إذا كانت المسيحية قد تراجعت مدحورة في الكثير من شؤون الحياة في ذلك العصر فقد إشرأبت عنقها إلي السماء و استطالت بفضل موسيقي الباروك الدينية ثم موسيقى العصر الكلاسيكي التالي، لقد ساهمت إسهاما عظيما في  الحفاظ علي رونق الثقافة المسيحية و حمايتها من الإضمحلال ، لقد انتصرت الموسيقي للمسيحية في الفن !
******
لو أردنا الحديث عن نموذج من الأعمال الموسيقية في عصر الباروك ، فلن نجد خيرا من "آلآم المسيح برواية "متي" " لباخ ، فهو يعد أحد أهم الأعمال الموسيقية في التاريخ ، و هو بجانب قداس "موتسارت" الجنائزي و أوراتوريو "قصة الخلق"Die Schöpfung  لهايدن  أعظم ما أنتجته الموسيقي الدينية في كل العصور .و قصة الآلام أو Passion كما تكتب في اللغات الأوربية هي شكل موسيقي ربما ترجع نشأته إلى القرن التاسع الميلادي ثم أخذ في التطور و تعددت أشكاله التي يهمنا منها ما ظهر في القرن السابع عشر و ألف علي نسقه باخ عمله الشهير .و ال Passion هي قصة معاناة المسيح من لحظة أن اعتقله الرومان و حتى موته فوق الصليب كما دونها المبشرين في أناجاليهم الأربعه ، و لم يصلنا من قصص الآلام التي ألفها باخ سوي رواية القديس يوحنا Johannes Passion  و رواية القديس متى Matthäus Passion  و لحسن الحظ فقد وصلنا هذا الأخير كاملا و هو يتكون من ثلاثة أجزآء و تصل مدته إلى ثلاثة ساعات و هو كعادة قصص الآلآم المؤلفة على التقليد البروتستانتي باللغة الألمانية .و لب النص هو الآيات ٢٦ و ٢٦ من إنجيل بالإضافة إلي صياغات شعرية كتبها صديق باخ الشاعر الألماني فردريش هينرتشي (١٧٠٠ -١٧٦٤ ) Friedrich Henrici و النص الشعري متواضع و لكنه على كل حال احتوى على ما احتاجه باخ من عناصر درامية و احسن استخدامه و يقوم العمل علي ثلاثة عناصر أساسية ، تلاوة منغمة  Secco-Rezitative للنص الإنجيلي الأصلي و يقوم بأدائها "تينور"Tenor يلعب شخصية القديس متى نفسه (في سلم لا ) ، و" باص "  غليظ  Bass منخفض يلعب شخصية "المسيح " ثم أدوار ثانوية تؤدى بالتلاوة النغمية أيضا ليهوذا و بطرس و أجزآء يتلوها الكورال الذي يلعب تارة أدوار اليهود، وتارة أدوار تلاميذ المسيح أو الجنود الرومان . و التلاوة المنغمة يصاحبها عادة لحن خلفي للأورغن و باص وتري .و العنصر الثاني هو "الأريا " Arie أو أغنية السولو التي تقاطع النص الإنجيلي و تعلق عليه أما العنصر الثالث فهو أناشيد الكورال و هي مقاطع يغنيها الكورال و تتكرر طوال النص .و قد كان هذا العمل ثورة من حيث التأثير الدرامي ، فقد حشد له باخ بدلا من أوركسترا واحدة إثنان ، و كورال مزدوج رباعي الأصوات بالإضافة إلي ألتي للأورغن ، و لم يكن مثل هذا الحجم من العازفين و المغنيين قد عرفه عصره من قبل . و هو عمل فريد النوع من حيث طوله أيضا الذي يصل إلي أكثر من ثلاثة ساعات و يغني علي ثلاثة أجزاء ، و قد وضع باخ في هذا العمل أفضل ما لديه من قدرة علي التعبير و الصياغة الدرامية ، فاللحن يكاد يخلق الصور الإنجيلية خلقا، تتصاعد حدته دراميه في جزءه الأخير حيث يحكم على المسيح بالموت و يرفع على الصليب ثم كلماته الأخيرة  و هو يصرخ ألما فوق الصليب " " إلهي ، إلهي ، لما خذلتني! " حيث يبلغ التأثير الدرامي أقصى مدى له فيكاد اللحن يقطر حزنا بدم المسيح . و بعكس كل قصص الآلام التى سبقت "باخ " ، كانت آلام متى أول عمل فني من هذا النوع  يسود التكامل  مختلف عناصره و ينتظم هيكله في وحدة لحنية و شعرية حافظت على الطاقة الإنفعالية و قوة ألحانه الدرامية طوال العمل .ما يدهش النقاد حتى يومنا هذا هو الإستقبال الجاف لهذا العمل الملحمي ، فقد إنتهى منه باخ حوالي عام ١٧٢٧ ليؤدي بكنيسة القديس توما بلايبتسيج لأول مرة ، ثم أعيد أداءه مرة أخرى بعدها بتسعه سنوات لينسى بعد ذلك تماما فيموت باخ عام ١٧٥٠ ثم تمر السنون لا يسمع فيها أحدا شيء عن هذا العمل إلي أن يجيء الموسيقار الألماني العظيم "فيلكس مندلسون " ( ١٨٠٩-١٨٤٧) Felix Mendelssohn و يقوم بإعادة توزيع مخطوطة العمل و يخرجه للنور بقيادته في برلين عام  ١٨٢٩  ليصبح حدث العام الفني و يلقى نجاحا ساحقا و تقديرا كبيرا من النقاد و الجمهور و يعاد عزفه بعد ذلك مئات المرات ، فنحن ندين لمندلسون بإعادة اكتشاف هذا العمل فلولا مجهوده الجبار في إحياءه و إحياء  غيره من أعمال باخ التي كانت من قبله شبه مجهوله ، مهددة بالضياع لما كنا قد عرفنا بها اليوم و ما كان لباخ أن يحظى بالمكانة الكبيرة التي يحظاها في حياتنا الثقافية و الفنية . و يبدو أن "جوته " قد وصله خبر إعادة إكتشاف هذا العمل فنراه يكتب في رد على خطاب لأحد أصدقاءه " إن النجاح الذي لقيه أداء المقطوعة الموسيقية القديمة العظيمة ( آلام متي ) المذكور في خطابك الأخير قد حملني علي التفكير ، فشعرت و كأنني أسمع هدير البحر من بعيد .. إنني أتمنى النجاح لهذا الإنجاز الذي يبدو تحقيقه و كأنه مستحيل " و يروى أن "باخ " قد أعطي عمله هذا تقدير خاص ، فقد كتبه علي ورق فخم لم يكتب على مثله في حياته و استخدام الحبر الأحمر و الأسود و اعتنى به معيدا نسخه و إصلاح أصغر تلف قد يكون أصابه.. أما عن تأثيره في الأجيال التي استمعت إليه بعد ذلك فحدث و لا حرج ، ققد انطبعت الموسيقي الدينية في العصر الرومانتيكي كله بتأثيرات من قصص الآلام لباخ بدءا من مندلسون و شومان و حتى أوج عصر الأوبرا الألمانية على يد فاجنر .

مراجع :-
1-dtv-Atlas zur Musik : Band 1 : Ulrich Michels.19772-Musik Abi - Basiswissen Oberstufe : Norbert Heukäufer 20093- Das Grosse Lexikon der Musik : Band 6 : Passion :Günther Massenkeil .1976 ٤- يوهان سباستيان باخ : مارتن جك : ترجمة عادل الدمرداش ١٩٩٧

 أحمد عبد الله
جامعة لودفيج مكسميليان -ميونخ - ألمانيا

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة