المتنبي والمرأة ـ حسن الكندي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
جاء "المتنبي " في عصر متأخر من الحضارة العربية، التي ازدهرت وفاقت سمعتها أصقاع الدنيا وهو لا بلا شك قد تأثر بالشعراء الذين تغنوا بالمرأة كرمز حضاري له عبقه الشعري الخاص .
وإذا كان حال المرأة في الشعر الجاهلي صورة جميلة يزين بها الشعراء مطالع قصائدهم ، وعلاقتهم بها تتخذ طابع التكريم والتقدير مرة، والتبذل والمجون أخرى، فهي عند المتنبي أيضا على هذا النحو. فقد كانت صورها الحسية ماثلة في شعره - كما سنرى - تطفح منها رائحة الغرائز بأجل الصور البدائية، وبأسلوب يعتمد على التصريح كما نجد تشابها في المعاني التي طرحت لدى بعض الشعراء الذين جاءوا في كافة العصور، (كالبحتري وجميل بثينه ، وبشار بن برد، والطرماح

وغيرهم ) ومعاني المتنبي .

ولو استطردنا في شرح هذا التماثل في المعنى الذي طرحه المتنبي في غزلياته وجدنا تشابها مع هؤلاء الشعراء، غير ان المتنبي وصف حبيبته كالشمس في سطوعها ونقاوتها، وجمالها الأخاذ في قوله .
كأنها كالشمس يعيي كف قابضه

شعاعها ويراه الطرف مقتربا

فهو هنا يستحدث نفس الصورة الوصفية التي جاء بها "ابن عينيه " قبله في قوله :

وقلت لأصحابي هي الشمس نورها

قريب ولكن في تناولها بعد(1)

وفي قول "بشار بن برد":

أو كبدر السماء غير قريب

حيث يوفى والضوء منه قريب (2)

أو قول الطرماح:

تراها عيون الناظرين اذا بدت

قريبا ولا يسطيعها من يرومها(3)

وتأثر في وصفه لعيون حبيبته الحالمة

ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي

فتظهر فيه رقة ونحول

ويقول ابن المعتز.

ضعيفـة أجفانـه *   والقلب منه حجر( 4)

كأنما الحاظه      *    من فعله تعذر

ويقول البحتري :

وكأن في جسمي الذي *  في ناظريك من السقم (د)

ومن الملاحظ أن المتنبي قد جدد في المعنى بإبراز قوته ، وكثافته ،ودفعة خياله ، فهم جميعا لم يصلوا، إلى مرتبة المتنبي ، لقول "ابن المعتز" الأخير، وان كان أجود من "البحتري " ولكنه لم يصل إلى قول "المتنبي"، فسقم عين الحبيب انتقل اليه وأمرضه فهو تجاوز الوصف الى الفعل ، وأورد صورتين في البيت المذكور، وكلاهما ذا أثر فعال في شخص المحب ، بينما "ابن المعتز" و"البحتري " لم يتعديا وصف صورة واحدة.

ويمكن القول بأن "المتنبي " رغم أنه تأثر بغيره لكنه كان تأثيرا مصحوبا بجديد له جانب كبير من الإثارة.
نظرة المتنبي للمرأة

( 1 ) النظرة العدائية :

رغم تلك الكثرة من الدراسات التي تناولت حياة "المتنبي " وشعره ، إلا أنها لم تذكر شيئا عن علاقته بالمرأة، أو حبه لامرأة بحينها كمثل تلك العلاقات التي شاعت عند أقرانه ، ورفقائه .

ان تلك الدراسات تضاربت في آرائها حول المرأة عند هذا الشاعر كما يقول الأستاذ "القويضي " في دراسته "المتنبي بعد ألفي عام ".. "انه لم تمتلكه المرأة، ولم يشغله الحب " بل هو مترفع عنه مشغول بطموحه ، الذي تاق اليه في دنياه ، ولعل أبيات المتنبي التالية دليل هذه الدراسات في هذا الرأي .

لولا العلا لم تجب ما أجوب بها

وجناء حرف ، ولا جرداء قف ود

وكان أطيب من سيفي معانقة

أشباه رونقة الغيد الأماليد

لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي

شيئا تتيمه عين ولا جيد(6)

وكذلك قوله في قصيدة أخرى

وللخود مني ساعة ثم بيننا

فلاة إلى غيرالقاء تجاب

وما العشق الا غرة وطماعة

يعرض قلب نفسه فتصاب (7)

وغير فؤادي للغواني دمية

وغير بناني للرماح ركاب

غير أنني أختلف مع هذه الدراسات التي ترجع عداء "المتنبي " للمرأة. من خلال هذه المقطوعات التي يقتطعها الدارسون ، فيفسرونها حسب هواهم ، وأمزجتهم ، فالمقطع الثاني من قصيدة قالها وهو في حالة نفسية صعبة، وكما تشير مناسبتها، فإنه قالها عندما اتخذ قراره بهجر مصر، فانتابته اثر ذلك الوساوس ، فجمع قواه وما توزع من عزمه ، وما تشتت ، ثم صمم على الرحيل ، ويكشف ذلك في بقية القصيدة :

وفي الجحيم نفس لا تشيب بشيبة

ولو ان ما في الوجه منه حراب

لها ظفر ان  كل ظفر أعده

وناب إذا لم يبق في الفحم ناب

اذن ذلك التعزيز الذي تلمسه أولئك الكتاب في نظرتهم "للمتنبي " على أنه عدو المرأة في تلك القصيدة لم يكن صادقا، فـ "المتنبي " قد صارع الدهر فصرعه ، فها هو يستجمع قواه لينهض من كبوته فيظهر، وكأن غلاب الدنيا في فترات معينة من حياته لم يدع له فرصة يعطيها لعشقه ، فيهيم في أناة كما يصنع هؤلاء الذين وادعتهم الحياة وهادنهم الزمان فصادقهم الهوى، فعايشوا لهو المرح ، ومرح الحب والغزل .

وتبنى نظرة الدارسين الذين يؤيدون فكرة عدائية "المتنبي " للمرأة على بعض النماذ ج من قصائده ، فها هو المستشرق الفرنسي "بلاشير" يستشهد لذلك ببيتين هما:

اذا غدرت حسناء وفت بعدها

فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد

و قوله:

ومن خير الغواني فالغواني

ضياء في بواطنه ظلام

ويقول "بلاشير" "فالشاعر الذي يعبر عن رأيه في النساء بهذا الشكل لا يستطيع الاشادة بالمرأة الا مضرا مكرها"(8)

ويظهر لنا حكم "بلاشير" هذا، بأنه فيه شيئا من التجني على "المتنبي " ذلك أن المتنبي في حقيقة الأمر لم يكن عدوا للمرأة. ففي شعره دليل حي علي تقديره لها واعتزازه بها، فهو يقول في موضع آخر فيها:

أسر بتجديد الهوى ذكر ما مضى

وفي كان لا يبقى له الحجر الصلد

فالمتنبي ببسر عندما يجدد الهوى ذكر أيام الوصال ، وان كانت تلك الذكرى تقطع قلبه حزنا وأسى، بل يذوب لها الحجر الصلد أسفا وحنينا. فهل ألذي يقول هذا عدو للمرأة، وليس ذلك فحسب بل انه من أجل الحبيب يلذ طعم السهاد، كطعم الرقاد أيضا :

سهاد أتانا منك في العين عندنا

رفاد وقلام رعى سربكم ورد(9)

و"بلاشير" ليس وحده قد تبنى تلك الفكرة ازاء "المتنبي "، فهناك كتاب حذو حذوه في دراساتهم ، فها هو ذا "علي الجندي " في كتابه "غزل المتنبي وحبه " يعتقد بأن "المتنبي " يبرأ من الحب براءة تامة، فترام حبيبا شكس الخليقة، حمي الأنف ، كثير الاعتداد بنفسه ، بعيد مرامي الهمة، يهمس بالثورة تارة، ويصرح بها أخرى، ويتطاول الى معالي الأمور، ويتحدث عن آمال جسام . . . الخ

فهو القائل:

أمط عنك تشبهي بما وكأنه

فما أحد فوقي ولا أحد مثلي

وكذلك فعل "حسن علوان "، في مقالة له عن المتنبي اذ يقول عن المتنبي : "فلم ينفذ إلى قلبه سحر المرأة، ولم تلتهب فيه عواطف الغرام ، لأن نزوعه إلى المجد وتطلعه إلى الرئاسة لم يدع للمرأة سلطانا على قلبه .. هذه الحياة الصاخبة الجامعة المفزعة أبت على "المتنبي" أن يصغي الى الحب ، وأن يستجيب إلى صوت العاطفة".

وسرد الدكتور"سامي الدهان" في كتابه "الغزل منذ نشأته " نفس الفكرة قائلا بكل صراحة : وما لا يعرف "للمتنبي " قلبا أحب ، وهو القائل :

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه

ولكن من يبصر جفونك يعشق (10)

فمن هذه الفاتنة التي أحبها (المتنبي )؟ أهي الدنيا أم المناصب العالية أم الثروة والطموح ، والمجد والعز والنصر؟ وهل ترك قلبه مكانا للمرأة فيه غير أن يلهو بذكر اسمها ليفتتح بها شعره ويعطر بها نشيده ؟

هذه هي بعض الآراء حول النظرة العدائية "اللمتنبي " للمرأة، والتي يتبناها بعض مؤرخي سيرة هذا الشاعر، غير أنني لا أوافق هذه النظرة التي تحمل بعض الشطط في الحكم والابتسار فـ "المتنبي " كما أراه انه حتى ولو لم يعلق قلبه بواحدة فإنه أنصف المرأة، وقدرها حق التقدير، وأعتقد ان ابتعاده عن النساء، ووصفه لهن ببعض ما يظهر عداءه لهن له ما يبرره ، فهو ابتعد عنهن في مرحلة من حياته ، ولظروف خاصة ألمت به ، ولا أستبعد ان تكون تلك الظروف متعلقة بحبه للملك وطلب الاماراة، جعلته يفتعل التزمت ، وموقف عدم الاهتمام بهن ، لئلا يهتم بالهزل

ومطاردة النساء، واقتناص اللذة، ومعاقرة الخمر، كما فعل كبير الشعراء "امرؤ القيس" فضاع منه ذلك ، لذا هو يبتعد عن مواطن الهزل ، وينزع إلى العظمة، ليوهم من حوله أنه أهل لكبار الأمور، ويصلح أن يكون رجل دولة، وهو في حقيقة أمره شغوف بالنساء يحرص على حبهن ، وقد عشق كما يعشق الرجال ، لا سيما في صباه ولسنا ننكر ذلك في شعره القائل :

وكيف التذاذي بالأصائل والصخى

اذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا

ذ كرت به وصلا كأن لم أفز به

وعيشا كأن كنت أقطعه وثبا

وكذلك:

هذه مهجتي لديك لحين

فأنقضى من عذابها أو فزيدي

(2 ) النظرة الشغوفة بالمرأة :

أعتقد جازما بأن (المتنبي ) كان شغوفا بالمرأة، متيما في هواها، يدل على ذلك مفتتح قصائده ومطالعها، التي ينشدها ساعة الاستقرار، فيها الصور الكثيرة في الغزل بها والتشبيب بصفاتها، غير أن حياته التي اختارها ان تكون في بلاط أبي العشائر، أو سيف الدولة أو كافور، أو غيرهم من الأمراء وعلية القوم ، تكتم  عليه أن يكتم حبه وأن يلزم حياة المجد ليصل إلى الهدف .

وكما يقول الدكتور "سعد شلبي ". فان المتنفس الذي يفصح عن حبه المكتوم هو مطالع بعض قصائده (11)، ومن نماذج هذا الغزل الذي كان فيه ذ كر المحبوبة لأول مرة . وهي "جمل " قوله في قصيدة مدح فيها "شجاع بن محمد الطائي ":

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي

فأصبح لي عن كل شغل به شغل

ومن جسدي لحم يترك السقم شعرة

فما فوقه  الا وفيها له فعل

  اذا عذلوا فيها أجبت بأنه

حبيبتا قلبا فؤادا هيا جمل

كأن رقيبا منك سدى مسامعي

عن العذل حتى ليس يدخلها العذل

كأن سهاد الليل يعشق مقلتي

فبينهما في كل هجر لنا وصل

أحب التي في البدر منها مشابه

وأشكو الى من لا يصاب له شكل

فهذا المطلع ينبض ببأساء الحب ، وشجن المحب المتهالك الذي أصبح عبرة للمحبين ، فقد أحب حتى ذهب عقله ، وجرى الحب في عروقه ، فأذهله عن كل شيء ، وأصاب من جسمه كل شيء ، فلا مجال لرجعة عن حبه ، فلا يملك الا الأنين باسمها وصفاتها، وكأن جمالها قد صرفه عن كل عذل ، ذلك الجمال الذي أسهره ليله فلا يكاد ينام .

ومطالع (أبي الطيب ) الغزلية كثيرة ومتعددة. فله في كل البيئات المكانية التي قضى بها صفوة حياته حب ، فالحب لم يفارقه ولم يتعد سنين عمره ، فقصائده التي كتبها في الشام أو لسيف الدولة أو لكافور، أو التي صاغها وهو في بغداد أو شيراز أو خراسان كلها تنبض بالحب والإحساس به ، فانظر وصفه للمرأة، في مطلع قصيدته المدحية لـ"علي بن منصور" التي يقول فيها:

بأبي الشموس الجانحات غواربا

اللابسات من الحرير جلاببا

المنهبات قلوبنا وعقولنا

وجناتهن الناهبات الناهبا

الناعمات القاتلات المميتات

المبديات من الدلال غرائبا

حاولن تفديتي وخفن مراقبا

فوضعن أيديهن فوق ترائبا

وبسمن عن برد خشيت أذيبه

من حر أنفاسي فكنت الذائبا(13)

فهذه الأبيات تمتلىء بمعاني الحب ومعرفة الغواني وطبائعهن ، وما يحدثن من تأثير، ففي البيت الرابع مثلا مشابهة "عمر بن أبي ربيعة" حيث يترك الحسان يتغزلن فيه ، ويحرصن على حبه ، وفي البيت الأخير صورة طريفة تقوم على الاستعارة التصريحية والمكانية في آن واحد، فهي مختلطة حسب التعليل ، والأبيات تنساب انسيابا موسيقيا رائعا.

و"أبوالطيب " لطالما يستظهر حبه من شدة الجوى للحبيب ، وهو يتخيل طيف حبيبته يمر عليه فيخلق معه حوارا يستعطفه ليبعث اليه بأخبار محبوبته وأحوالها، فهو يوازن بين هذا الخيال وصاحبته ذاكرا رأيه في وصال كل منهما وهجره . . وعلى الرغم من أن هذا الحوار جاء كمطلع لقصيدة مدحيه مدح فيها عضد الدولة، فانها مليئة بالأحاسيس ، فهو يقول مخاطبا هذا الطيف الخيالي:

عد وأعدها فحبذا تلف

ألصق ثديي بثديها الناهد

وجدت فيه بما يشح بها

من التشتيت المؤشر البارد

وإذا خيالاته أطفن بنا

أضحكه أنني لها حامد

لا تعرف العين فرق بينهما

كل خيل وصاله نافد

والوجه الجمالي في هذه الأبيات ان المتنبي معني بالغزل ، فهو يتجاهل فيه تجاهل العارفين ، ويشخص الخيال ، ويجري على لسانه ذلك الحوار الحي .

وهكذا يبدو "المتنبي " متيما بالنساء، شغوفا بهن ، قد صدح بذلك في مرحلة ما قبل اتصاله بسيف الدولة، وهو ما يؤكد مصداقية حكمنا السابق  فانظر كيف يستنطق ذلك :

أطعت الغواني قبل مطمع ناظري

إلى منظر يصغرن عنه ويعظم (13)

ولا يمكننا الا القول ان "المتنبي " عرف الهوى وذ اق مرارته ، وحلاوته ، وعاش تجاربه ، تخرج بهذه النتيجة بعد أن قارب الخمسين من عمره تبرهنها قصيدته البائية التي تتوسم مظاهر التجارب ، والخبرة ولعل مطلع القصيدة يكشف ذلك:

وغير فؤادي للغواني رمية

وغير بناني للزجاج ركاب

وتشير بعض الدراسات التي تناولت ظاهرة الحب عند "المتنبي " إلى أنه كان عاشقا لأخت سيف الدولة "خولة" وان سيف الدولة كاف على علم بما كان بين المتنبي وأخته من المحبة الغالبة على أمرهما. وانه كان وعد "أبا الطيب " وعدا لم يوف به في أن يزوجه أخته هذه ، وتستدل هذه  الدراسات بقول "المتنبي ":

ومن مضت غير موروث خلائقها

وان مضت يدها موروثة النشب

وهمها في العلا والمجد ناشئة

وهم أترابها في اللهو واللعب

يعلمن حين تحيا حسن مبسمها

وليس يعلم إلا الله بالنشب (14)

فقد ذكر "أبوالطيب " في هذه القصيدة أخلاق "خولة" ثم ذكر ما كانت عليه من علو النفس والهمة منذ نشأتها، ثم ذكر ابتسامتها، وهذه كافية للدلالة على معرفته بـ"خولة" معرفة صحيحة تبرهنها الخبرة واللقاء.

وأراني اختلف مع هذه الدراسات في هذا الرأي ، ذلك ان "المتنبي"  كان اتصاله بسيف الدولة اتصالا ذا مطامع . . كما ان "خولة" في هذه القصيدة جعلت من المتنبي حكيم الشعراء، وشاعر الحكماء وذلك أمر مرفوض أيضا لأن "المتنبي " كان حكيما قبل أن يتصل بسيف الدولة والحكمة مبثوثة في ثنايا شعره قبل أن تطأ قدماه أرض حلب .

ولو نظرنا إلى تلك الأبيات لوجدنا انها خالية من أي منظر للحب ، فهي في أساسها قد كتبت في رثائها، وتقديم التعزية لأخيها سيف الدولة، ولا أعتقد ان الموقف يتحمل تبرير مكنونات النفس، ولكننا عرفنا أن "المتنبي " أيضا في كثير من قصائده يتشوق إلى "أم سيف الدولة" ويظهر الحب لها فهل يصح أن نقول انه أحب "أم سيف الدولة""، إنني لم أجد الدليل قويا إزاء هذه العلاقة في شعر "المتنبي " ولا حتى في تاريخ حياته وخاصة الخمسة عشرة سنة (أي منذ أن وطئت قدماه أرض حلب ) فهو لم يتفوه بذكرها ولو مرة واحدة، فكيف تأتي هذه الآراء إلا على سبيل الحدس "وخلاصة القول بأن "المتنبي " أحب ، وكانت صلته بالمرأة قوية في صباه ، وفي عنفوان شبابه ، كيف لا وهو الجواب في صحاري العراق ، وبوادي الشام ، متنقلا بين القبائل والحواضر، وهو الشاعر المرهف الإحساس ، الذي ما فتىء أن استلهم شغفه بالحب من خلال وصف واثارة "للبدويات الرعابيب على الحضريات " وذلك لجمالهن المطبوع ، وأيا كان الأمر ف "المتنبي " تبعا لذلك منساق وراء هذه الصفات الجميلة الأثيرة

إلى قلبه تبرهنها أبياته الجميلة :

هام الفؤاد بأعرابية سكنت

بيتا من القلب لم تمدد له طنب

وقوله واصفا البدويات:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها

مضبغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ظاهر تصوير المتنبي للمرأة :

سوف أركز هنا على المظاهر الحسية، والمظاهر الرمزية لتصوير "المتنبي " للمرأة مستلهما مطالع القصائد التي جاءت حاملة هذا الاطار.

* أولا : المظاهر الحسية :

حدد "المتنبي " المظاهر الحسية لصورة المرأة التي رسمها في خياله ، فطفق تغزلا بها واصفا وجهها ولونها، وشعرها، وقوامها، وعيونها، وغير ذلك من الصفات . فهي في لونها بيضاء مشرقة كأنها الدرر في لمعانه : "لها بشر الدر الذي قلدت به ".

أما وجهها فوصفه بأنه منير، ساطع ، محيا، يزيل الظلمة فيعيد النهار وسط دياجير الظلمة(15) "ووجه يعيد الصبح والليل مظلم ".

كما أنها كالشمس في سطوعها، وجمال محياها، وهي تنثر أشعتها، وضاءة، مشرقة :

كأنها الشمس يعيي كف قاصبة

شعاعها ويراه الطرف مقتربا(16)

وشعرها طويل ، فاحم السواد، وهو جعد، فيه رائحة العنبر ممزوجة بماء الورد يصفه بقوله:

حالك كالغداف ، جثل فحوجي

أثيب جعد بلا تجعيد

ذات فرع كأنما ضرب العنبر

فيه بماء ورد وعود

أما عينيها فقد أخذت النصيب الوافر من وصفه ، فقدم فيها أروع فنه الوصفي لأنها المعبرة عن خلجات نفسه الحبيبة، التي تزكيها صفات الجمال الحكلمي ، فاحتلت لذلك مساحة واسعة من غزله . ففي رأيه هناك ثلاثة أنواع من العيون ، أولها ، عيون قاتلة" تمثلها المتنبي في وجه البدويات الحسان التي تنعم بالبساطة، ولا تعرف المكر والخداع ولكنها ترمي قلوب المحبين دون قصد ولا إدارة بلحاظها القاتلة:

الراميات لنا ومن نوافر

والقاتلات لنا ومن غوافل

وأخرى قتلت المحب ولم تدر أنها باءت بإثم :

ان التي سفكت دمي بجفانها

لم تدر أن دمي الذي تتقلد

وثالثة تمثلها بقوله:

نفدت علي السابري وربما

تندق قيه الصعدة السمراء

وآخيرا تخترق هذه العيون القواتل الم الأحبة، وتتركهم صرعى ضحية الحب بفعلها، لكن الجديد أن تشق السهام القلوب قبل أن تمس الجلود، فهي ذ ات سحر عجيب راميات بأسهم ريشها الهدب تشق القلوب قبل الجلود

وثانيا العيون الوسيلة فهي في رأي "المتنبي " أكثر دقة، وأحق وطأة من سابقتها، فهي سبب للعشق ، فمن يرى تلك الأحداق الحسان ، لابد أن يسقط صريع الهوى :

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه

ولكن من يبصر جفونك يعشق

كما أنها وسيلة لتذليل الصعاب :

ومن خلقت عيناك بين جفونه

أصاب الحدود السهل في المرتقى الصعب

وثالثا العيون الحالمة: التي وصفها بقوله:

ألم يرى هذا الليل عينيك رؤيتي

فتظهر فيه رقة ونحول

وكذلك قوله:

أعارني سقم عينيه وحملني

من الهوى ثقل ما تحوي مآزره

والعيون كثيرة في شعر "المتنبي " فهي ساحرة تضفي سحرا خلابا يعشق ويتوق اليه:

بما بجفنيك من سحرصلى دنفا

يهوى الحياة، واما ان صددت فلا

وكذلك " عيون حائرة " يصف منظرها وهي تودع ، يراودها الخوف ،

ويعتصرها القلق ولم أر كالأحاط يوم رحيلهم

بعثن بكل القتل من كل مشفق

أدرن عيونا حائرات كأنها

مركبة أحداقها فوق زئبق

واذ ا جئنا للأوصاف الأخرى الحسية نجدها تتمثل في وصف قوام حبيبته فكما يصورها، فهي طويلة" رشيقة، ضامرة البطن ، دقيقة الخصر، ثقيلة الأرداف ، يتمثلها البيت التالي من قوله:

وقابلني رمانتا غصن بانه

يميل به بدر ويمسكه حقف

وتنثرها الأبيات التالية التي جاءت أولها في وصف الخصر:

وخصر تثبت الأبصار فيه

كأن عليه حدق نطاق

هذه أهم الصفات التي تتمين بها المرأة في وصف "المتنبي"، وهي صفات حسية، كشفت عن ذوق عربي أصيل ، ومعرفة بأسرار الجمال ، أظهرت التوازن والتكامل في الخيال ، وهو بذلك قد سلك مسلك القدماء من الشعراء الذين تجسد الوصف الحسي ظاهرا في قصائدهم ، وهو بذلك لم يأت بجديد، سوى رقة اللفظ والأسلوب .

و"المتنبي " في غزله بالمرأة انطلق في كثير من مطالعه من هذا الوصف الحسي المفرط الذي انتقى المرأة في هذا الجانب . ومن الغريب انه قدم هذا الوصف الح!ي في قصائد المدح كمثل التي قالها في مدح القافي المالكي "أبي الفرج أحمد بن الحسين ":

لجنيفة أم غادة رفع السجف

لوحشية ؟ لا . ما لوحشية شنف

نفور عرتها نفرة فتجاذت

سوالفها والحلي والخصر والردف

وخيل منها مرطها فكأنما

تثني لنا خوط ولاحظنا خشف

وقابلني رمانتا غصن بانة

يميل به بدر ويمسكه حقف

ثانيا: المظاهر الرمزية فى تصوير المرأة :

احتوت المظاهر الرمزية على كثير من قصائد وأبيات "المتنبي " في تصوير المرأة أو غزله بها "فهو يتجاوز التصريح إلى التلميح " ولعله بهذا الجانب الفني كسب أهمية كبيرة لدى كثير من النقاد، فهي جزء من شوارده التي نام ملء جفونه عنها، وسهر الناس حول تفسيرها الخصومة حولها.

والغزل الذي أورده "المتنبي " في كثير من مطالع قصائده – في اعتقادي لا يقصده بعينه لأن طابع القصيدة ومناسبتها مدحية غالبا - وانما القصد غير ذلك مما يهم الشاعر أمره ويأخذ عليه نفسه .

وكما يقول الدكتور "درويش الجندي " عن قصائده التي مدح بها "كافور" واستطلعها بوصف المرأة أو التغني بجمالها : "ان ما قاله لم يقصد  تصوير عواطفه نحو النساء على ما يفهم من ظاهره ، وانما كان يقصد حبيبه القديم "سيف الدولة" والحياة في جوار ذلك الحبيب . ... ".

 

ولعل من أهم ما يمكن تمثله في هذا الموقف تلك المقدمة التي جعلها في قصيدته التي كتبها في سجنه ، يطلب من الأمير اطلاق سراحه قائلا :

أيا خدد الله ورد الخدود

وقد قدد الحسان القدود

فهن أسلن دما مقلتي

وعذبن قلبي بطول الصدود

وكم للهوى من فتى مدنف

وكم للنوى من قتيل شهيد

فواحسرتا ما أمر الفراق

وأعلق نيرانه بالكبود

وأغري الصبابة بالعاشقين

واقتلها للمحب العميد

وألهج نفسي بغير الخنا . .

بحب ذوات اللحى والتهود

ففي هذه القصيدة نلمح طوابع التجنيس الذي جسد به "المتنبي " قصيدته ، فهو في الوقت الذي يدعو على الخدود أنيشققه الله ، ويزيل حسنه ، وأن يقطع القدود الحسان فهو يشير الى أصدقاء الأمير الذين وشوا به ، فيدعو عليهم لأنهم الذين كانوا سببا في غضبة الأمير عليه فأسالوا دمه ، وعذبوا قلبه ، فهو ضحية هذه الوشاية، فهو القتيل الشهيد من جرائها. وهو  المحب العميد للأمير .

فـ "المتنبي " يقصد أولئك المغرضين ، ويرمز إلى براءته .

و"المتنبي " عندما يستطلع قصائده في هذا الجانب ، يظهر أسي شديدا، ووجدا بليغا، فلا يكاد يشعرنا إلا بقلبه المتيم ، العاشق ، الذي لا يفارقه السهاد ومن ذلك قوله:

يا نظرة نفت الرقاد وغادرت

في حد قلبي ماحييت فلولا

كانت من الكحلاء سؤالي أنما

أجلي تمثل في فؤادي سولا

ولعل مظأهر الرمزية في اعتقادي سببها خوفه الشديد من خصومه الذين ألموا به ، ووشوا به ، وخاصة عندما ظل ممدتحا في قصور سيف الدولة، وكذلك خوفه من التقاليد والأعراف التي كانت مسيطرة على المجتمع ، فوجد في الرمز ملاذا في التعبير عن عواطفه كما رأينا في حبه ل(خولة) مثلأ.

ولو سلمنا بتلك الرمزية كسياج أخذ ينسج إليه "المتنبي " في غزله نجد أن مظهرا آخر بدا يسيطر عليه في هذا الغزل وهو "طابع العفة" فـ "المتنبي " كما رأينا أحب المرأة، ورأى فيها الانسان الجميل ، وبث في ذلك شعرا رقيقا في مطالع قصائده ، وكانت نظرته اليها مصدر الاعتزاز بها والتقدير لها، لذا عف في تصويرها تصويرأ فاحشأ بذيئأ، كما فعل غيره من الشعراء، ولعله كان قادرأ على ذلك :الا إن خلقه ، وخلق المجتمع من حوله أبت أن يقوم بهذا الدور، ولهذا تجده يقول:

وترى الفتوة والمروءة والأبوة

في كل مليحة ضراتها

هن الثلاث المانعاتي للذتي

في خلوتي لا الخوف من تبعاتها

فهذه العفة لم تمنعه من الحب البريء النزيه ، وانما منعته من الاقتراب من المحرمات . كقوله

اذا كنت تخشى العار في كل خلوة

فلم تتصباك الحسان الخرائد

و قوله :

يرد يدا عن ثوبها وهو قادر

ويعصى الهوى في طيفها وهو راقد

ان "المتنبي " وهو متعفف عن كل معاني المحرمات ، تلازمه هذه الصفة، وتسيطر على عقله الباطن ، فهو يتفادى الرذيلة ومن هنا شاعت المقولات ضده ، بأنه كان عدوا للمرأة، كارها لها على طول الخط ، ولعله كان يحس ذلك ، فاستصدر أبياته التي تعزي المناقب والمثل الرفيعة في وصفه ، وتعامله مع المرأة.

وما كل من يهوى يعف اذا خلا

عفافي ويرضى الحب والخيل تلتقي

وأخيرأ يظل هذا مظهرا بديعا، يتميز به "المتنبي " في شعره . ويظل "المتنبي " اثر تلك المظاهر مجتمعة، ولوعأ بالمرآة في داخله ، فهو رغم ذلك يلفظ بعبارات الحب الحقيقي لا المزيف ، فتخرج آحيانأ صراحته المتناهية، التي هي في حقيقة الأمر صراحة المحبين ، الذين يحبون التحدث عن أنفسهم ، وعن حبهم بشوق واندفاع ، فالشاعر لا يرى بأسا من الاعتراف بذنبه لأنه بعد أن عاش تجربة العشاق ، واكتوى بنار الحب ، وعرف الحقيقة، طفح لسانه بشعر رقيق كقوله .

جربت من نار الهوى ما تنطفي

نار الغضى وتكل عما تحرق

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لايعشق

وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني

عيرتهم فلقيت فيه ما لقوا

ولعلنا نلحظ أن "المتنبي" عبر عن تجربته الخاصة عن الحب ، وخبرته الطويلة له في عبارات شعرية تنم عن بساطة التعبير، وعدم التكلف في أداء المعاني ، وبألفاظ رقيقة عذبة، وذلك كله دليل قاطع على معاناة الشاعر الصادقة.
الظواهر الفنية في وصف المتنبي للمرأة

لعل أهم ما سنركز عليه من ظواهر فنية في وصف "المتنبي " للمرأة، هو عنصر اللغة، وما نجم عنها من استخدامات كثيرة تفرد بها وأصبحت تشكل ظواهر فنية، في شعره خاصة، ومن هذه الظواهر "ستخدام المحسنات البديعية " أو " ظاهرة ا لأضداد " .

ولقد شاعت تلك الظاهرة فنيا في العصر العباسي ، ولاسيما في شعر "أبي تمام " فكان يأتي بصورتين متضادتين ، ويجمع بين متناقضتين (17 )كما وصفه "شوقي ضيف " في كتابه "الفن ومذاهبه "... الا ان " المتنبي " الح عليه إلحاحا كبيرا، وآصبحت نتيجة ذلك ملفتة للنظر، فهو يعقبها، ويرصدها، ويحاول أن يمزجها في مجموعة من الألوان التي يؤثرها في وصفه . فهو عندما يعثر على البياض في اشراق وجه الحبيبة، والسواد في شعرها الفاحم ، يفيض عليهما من حسه ما يجعلهما أكثر تعقيدا، وأعظم اثارة للنفس .

ولقد رأينا هذه الظاهرة عند كثير من شعراء ذ لك العصر، فها هو "بشار بن برد" يصوغ أفكاره منساقا وراء هذه الظاهرة خاصة عندما يريد أن بشكل بعدا وصفيا يحدد أبعاد الجمال ويجسمه .

مظاهر استخدام "المتنبي " لظاهرة التضاد في وصفه للمرأة :

لعلنا نجد حذاقة "المتنبي ا، في وصفه للمرأة يتمثل في تصويره الجمالي للمرأة بين نحافة خصرها، ورقته من جانب ، وضخامة الردف وثقله من جانب آخر، الأول يريد أن ينطلق ، والثاني يشده كي يبقيه ، وذلك بحركة تزيد الصورة حيوية يجذبها تحت خصرها عجز كأنه من فراقها وجل

ففكرة التضاد في البيت أوضحت رؤية جمالية قوامها ذلك التصوير الرائع الذي رسمه "أبوالطيب " للمرأة المثالية في رأيه والتي "يدق خصرها ويعظم ردفها".

كما أننا نلمس مظهرا آخر لهذا التضاد في قوله:

بفرع يعيد الليل والصبح نير

ووجه يعيد الصبح والليل مظلم

فالظلمة والإشراق وجد مادتهما قي شعرها الأسود، ووجهها المشرق . والحبيبة ضياء تبدد الظلام حيثما حلت . وتهزم فلوله أينما استقرت ، لذا اطمأن الرقباء اليها وتبدد خوفهم من أن تقوم بمغامرة لزيارة حبيبها لأن نورها سيفضحها لا محالة . فضلا عن أن رائحة المسك ستفوح منها وتكشف سرها، وهذا مصدر قلقها وخوفها

أمن ازديارك في الدجى الرقباء

اذ حيث أنت من الظلام ضياء

قلق المليحة وهي مسك هتكها

ومسيرها في الليل وهي ذكاء

هكذا تظهر الأضداد جميلة وأجمل منها ايماءة خفيفة ترمز إلى قلقه هو المرهون بتعلق ت المليحة وهي أكثر ما يمثل للحب ويجسده وهناك صورة أخرى يطالعنا فيها استهواء بفكرة شروق الشمس . فصورة وجه المحبوبة شمس النهار، ذ ات شعر أسود كليل مظلم ، وهي كالغصن في اعتدالها، نابت على كثبان الرمل لم تجتمع الأضداد في متشابه الا لتجعلني لغرمي مغنما فهو بعد أن عثر على الألوان المتضادة في محياها، وشعرها، قام بتشكيل صورة أخرى محسوسة، استقاها من دقة قامتها، وثقل أردافها، وكل هذه المتنافرات اجتمعت في حسن متكامل ، متناسق

الأعضاء والطبيعة بما أملته على "المتنبي " من أحاسيس ومشاعر لم

يقف تأثره بها في حدود هذه المشاعر وانما أضفت الى استخدامات

التضاد الناتج من مظاهرها، فالتضاد حاصل في توظيفه للقمر دلالة على حسن الحبيبة. الذي يشبهه كالقمر في تمامه ، عندما يرتفع في علياء سمائه ، ويشع أنواره على الكون متحركا في رحلته الأبدية إلى عالم آخر، وقد خلف روحا معذبة تهيم فيه وجدا. وأخذ الشوق منها مأخذه ، حتى ان نحول جسمه بدا كالقمر في المحاق.

وقد أخذ التمام البدر فيهم

وأعطاني من السقم المحاق

على هذه الصورة تجمعت عناصر الصورة في وجه الحبيب الراحل ، وذبول وجه المحبوب ونحوله لأنها مقابلة تعمل عملها في النفس البشرية، وتغور في عالمها البعيد لتصل إلى ضروب الألوان المعقدة التي تشكل تضادا في نهاية المطاف .

استخدام "المتنبي " للون كملمح لظاهرة التضاد:

يتردد كثيرا في شعر "المتنبي " الغزلي تنازع الأضداد المتمثل في "الألوان " فهو بريشته الفنية المبدعة نلمح مقدرته على استخراج الألوان من منابعها، وهي تنبض بالحياة، وتتدفق بالحيوية، فالبياض بنصاعته هو اللون المفضل عند شاعرنا في وصفه ، واضافة قليل من اللون الأصفر يعطينا صورة شفافة ""اقتبسها من واقع حياته البدوية، التي عاشها أيام شبابه يجوب البادية والصحارى، حيث ناموسها الوداع ، والفراق ارتحال الأحبة، وما يعقب ذلك من الالم والبكاء على آثار الديار..."(18) فتكشف الحبيبة عن وجهها في لحظات الوداع ، وقد أخذ منها الألم صفرة وشحوبا

على محياها. ولذلك ترى اللون بارزا في ترجمة تلك المشاعر التي تبرز من وراء البراقع التي تستر محاجر الوجه .

سفرت وبرقعها الفراق بصفرة

سترت محاجرها ولم تك برقعا

فظا هرة "الطباق" تتمثل في " سفرت " و" سترت " و"الجناس الناقص " قي الوقت نفسه بين الحكمتين ، وذلك للدلالة على مظهر الجمال الذي شكله اللون ، كأحد عناصر الصورة الفنية المنبثقة من ظاهرة التضاد.

و"اللون الأصفر" أخذ مكانه في رسم الصورة الكلية لدى وصف "المتنبي "، فهو فنان مبدع يطرح دلالة ذلك اللون للتعبير عن الخوف والفزع الذي ألم بهذه الحبيبة وهي ترى حبيبها ذابلا قالت ، وقد رأت اصفراري من به ؟ وتنهدت ، فأجبتها المتنهد فمضت وقد صبغ الحياء بياضها لوني كما صبغ اللجين العسجد فاللون الأصفر الممتزج بالبياض يصور لنا موقفا من مواقف الحب لدى ا"المتنبي "، وهو يرسم حبببته مذويا عودها من شدة

الوجد وقد هالها حال حبيبها، فأنكرت ما به ، وجزعت لمصابه وتساءلت في غيظ واشفاق ترى من الجاني . ، ثم أرسلت من فؤادها زفرات مستعرة حرقت كبدها جزعا عليه ، ورحمة به فأجابها أنت قاتلتي .

ويعزي "أحمد الطبال " في كتابه عن المتنبي ظاهرة الأضداد المتمثلة في الألوان والمترددة(19) كثيرا في غزله الى كونه متشبعا ببعض الأفكار الفلسفية السائدة في عصره ، وأكاد أؤكد بأنه استقاها من "الفارابي" الذي اجتمع به في بلاط سيف الدولة لمدة عامين وذ لك استنادا الى الخلفية

(20) التاريخية لحياته .

التضاد في غزل المتنبي :

أعتقد جازما بأن سر نجاح "أبي الطيب المتنبي " في تشكيلاته للصور المتضادة التي يعتمد فيها على الفكر والحس لا على جمال الصور الكامنة في المجاز أو الكناية أو الاستعارة ففي تلك السمة يصحبنا "المتنبي " في غزله إلى عالم واسع ممتد تختلط فيه الألوان ، وتتسع عبره الأبعاد لتشكل صورا جديدة مثيرة، فهو يستقي في وصفه لحبيبته بقوله :

كل خمصانة أتق من الخمر

بقلب أقسى من الجلمود

صور مادية تتمثل في ضمور خصرها ورقتها، ويقابلها بأخرى معنوية يجدها في قسوة قلبها الذي امتنع عن الرحمة، وغلق أبوابه في وجه   الشفقة، فهو كالصخر أو أشد صلابة، كما أنه يقابلها مع الرقة التي أراد بها قوتها وصفاء لونها مع تلك الصلابة .

ويجمع في مثال آخر صورتين متنافرتين يستخلص منهما مثالا للجمال الذي يز!كيه السكون والحركة في وجه هذه الحبيبة . وعبر هذا التداخل يصل إلى صورة عميقة في معناها. ذلك أنها كيفما تحركت فالحسن كامن ، ساكن في محياها.

تناهى سكون الحسن في حركاتها

فليس لراء وجههالم يمت غدر

وفي أمثلة أخرى تظهر مظاهر هذا التضاد، ومن ذلك قوله :

أرينك أم ماء الغمادعة أم خمر

بفيء برود وهي في كبدي حجر

فهنا نرى صورة برد الرضاب في تحفرها، وأثره على نفسه ، واستحالته ، بدواعي الهوى جمرا أحرق كبده ، وبذا جمع برد الرضاب ، واحتراق الكبد في صورتين متضادتين ، ومن تفاعلهما تظهر روعة الابداع .

ويكرر نفس المشهد في موضع آخر ليصف ملت اق الترشف من

فيها فيقول .

ترشفت فاها سحرة فكأنني

ترشفت حر الوجد من بارد الظلم

الخصائص الفنية في شعر الغزل عند المتنبي :

بعد أن رحلنا في غزل "المتنبي "، ونظرته للمرأة، نستطيع أن نقول ان "المتنبي " خرج بالشعر العربي إلى آفاق جديدة لم يطرقها الشعر من قبل ، فقد سار بالشعر في نفسر الطريق التي سلكها الشعراء من قبل فمدح . وهجا ووصف ورثى، وشبب وافتخر، وعاتب وسخر، إلا أن له جهودا في كثير من زوايا الانتاج الفني واتجاهات جديدة في الشعر العربي طبعت انتاجه الخاص وميزته بالعديد من المزايا.

فهي من الناحية المضمونية المتعلقة بالغزل يحاول أن يضفي شخصيته على شعره . حتى في تلك المطالع التي كان طابعها العام ومقصدها

المدح .

وكما أشرنا أنه يلجأ الى الرمز في غزله ، فيحمله عبء تجربته الطموح ، الخاصة المتفردة، فربطها بتجربة الحب بكل أبعادها النفسية والوجدانية والانسانية، ولعل هذا الجانب يكشف عن توتر الشاعر بين الواقع والمثال ، أو عن احساسه بمأساة القيم في عصره وموقفه من هذه المأساة أو عن حرقة داخلية، ورغبة في التحرر منها.

واذا نظرنا إلى الأسلوب في هذا الجانب الرمزي فنجده ماثلا في كثير من أبياته مثل قوله :

أما الأحبة، فالبيداء دونهم

فليت دونك بيدأ دونها بيد

فقد استخدم الشاعر لفظ (الأحبة) وتعبير (حبيب القلب ) بمعنى الآمال البعيدة وكذلك (البيداء) التي ترمز إلى العقبات والوعورة. انها بيداء نفسية اجتماعية وليست بيداء الطبيعة ونجد في غزله قوة العاطفة، وعمق  الانفعال شديد التأثر والتأثير ويتجلى ذلك خاصة، في ناحيتين قد تبدوان متناقضتين .

أولها: رنة الأسى والحزن والتأثر الشديد، وذلك ناتج عن قوة العاطفة التي يكنها "المتنبي " ولا يستطيع أن يبوح بها بشكل مباشر . ولعل هذا يتحول الى اطارآخر يترجمه الطابع المثلي والحكمي والشكوي والشجن . وتلك هى طبيعة المحب العاشق دائمأ .

وثانيها: تعبير "المتنبي " عن طموحه ، واعتداده بنفسه وترفعه عن كل من حوله ، وهي نغمة محببة إلى نفسه ، كشفتها أبياته السابقة التي وصف بها "خولة" أخت سيف الدولة .

ويحظى غزل "المتنبي " نتيجة لذلك بعمق شديد في معانيه ، وألفاظه ، فكما رأينا يلجأ الى استخدام ظواهر البلاغة "كالطباق " و"المقابلات " و"الأساليب الخطابية"، ويربط في استعماله للألفاظ بايحاءاتها،  "أصواتها"، لأنها تتضمن حروفأ ملائمة لعواطف الحب ، والغزل وغير ذلك من عواطف الشجن الفريدة التي تحلى بها "المتنبي ".

وأخيرأ انطلق "المتنبي " من تجربة فريدة في الحب شعارها ذلك المحبوب الذي تاق إليه . فجعل منه شخصا فريدأ له تجلياته ، وعبقه الخالص لديه ويكفيه أن يصفه بقوله :

لئن تركن ضميرا عن ميامننا

ليحدثن لمن ودعتهم ندم

الهوامش :

1 - العميدي الإبانة عن سرقات المتنبي ، تحقيق ابراهيم دسوقي ،" ادار المعارف" 1959ص190.

2 - الوساطة بين المتنبي وخصومه ، الجرجاني "دار المعارف"

ص 37.

3 - المصدر نفسه  267.

4 - المصد ر المشار ( 1 ) ص 193

5 - المصدر نفسه ص 272

6-القيدود: الطويلة الاماليد الناعمات

7 - ديوان المتنبي 56/1 ، وكل الشواهد التالية مر شعر المتنبي مأخوذة عن ديوانه .

8 - أبو الطيب المتنبي:ريجيس بلاشير: ترجمة ابراهيم الكيلاني ، ط 2 دار الفكر،

9 - علي الجندي غزل المتنبي وحبه ط 1، دار الفكر. القاهرة، 1971 ص 108.

10- الغزل منذ نشأته: سامي الدهان ط 1 ،مكتبة الارياف. عمان. الأردن 1983.

11 - مقدمه القصيدة عند أي تمام وألمتنبي: د سعيد شلبي . ط مكتبة غريب القاهرة .

12 -الناهب الرجل الشجاع الوقور.

13 -الغواني الحسان طمح النظر ارتفع .

14 - لعل أهم الدراسات دراسة للسباعي بيومي ، وكذلك دراسة لابراهيم

العريض المتنبي بعد ألف عام.

 15 -صدر البيت ولدار بدر قبلها قلد الشهباء

16 -عجز البيت يقرع يصير الليل والصبح نير.

7 1 -الشعر ومذاهبه د. شوقي صيف ط دار المعارف. 82 9 1 ص 60 1

18 -شعرالمتنبي د. محمدإلشماع السابق ص 85

19 -المرأ ة و شعر المنتبي د. حمد الشماع السابق ص 87

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة