قوافل الثلج أو عشق الشاعر المتدفق ينابيع من العواطف الجياشة تجاه المعشوق هو مقاربة منفتحة لشعر الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري والمستهل بقصيدة( '' وتمرين بي'' إلى'' المتكالبون على رغيف الوقت'') فالرؤية الجمالية والتخييلية لهذه القصائد تبدو وكأنها قطعة موسيقية يسودها التوافق والانسجام اللذان يسموان بالنفس إلى مقامات البهجة والإنبهار، وهو يتألف من 96 صفحة من الحجم المتوسط ويتضمن 29 نصا شعريا من القصائد العمودية تتخللها نصوص تفعيلية ، وهذا الديوان تم إصداره عن مطبعة تبوك وهي الطبعة الأولى للكتاب الذي هو قطعة من حلم الشاعر الأثيل وتذكار أزلي لعلاقته بالحبيبة والطبيعة ولوحة الغلاف تعانق هذا البعد المكاني بما يتواشج في فضائها من مكونات بصرية كما أن العلاقة بين الشاعر والقصيدة العمودية التي ترجم من خلالها أحاسيسه ومشاعره الجياشة تجاه المعشوقة / الأنثى ، والطبيعة واللغة ، تعلو إلى مراقي العشق الخلاق المنسوج بحرير الحياكة الرؤيوية المغايرة والحلم المستشرف والممتد بين الإنتشاء والإفتتان، كل هذا جعلنا ندرك قدرة الشاعر على خلق روح الإنفعال العاطفي المتمثل في مناخ من الشعر الوجداني وهو بهذا صنع له عالما خاصا به حين استمر بتداخله العاطفي في طرح عشقه إلى معشوقته حيث طيفهالا يفارق مخيلته إذ هي دائمة الحضورفي رواحه وغداته وفي اختياره للعنوان '' قوافل الثلج '' الثلج/ الماء ، لأنه يمثل عنصر الحياة على سطح الكون,. . وبكل ما تحمله هذه التسمية ،. ماهي إلا تعبير يقوي هذه الرابطة ،وهي دلالة على الوحدة العضوية بين عشقه للأنثى وبين قوافل(كثرة) الثلج النقي الأبيض اللون الذي يدلّ على الطهارة والصفاء.
ولكن ثلج محياك ترجى ************* حياة على دربه أو منون
والشاعر في استخدامه للطبيعة في شتى قصائده جاء لتثبيت تشبته بهذه العلاقة الطبيعية الشفافة المتمثلة في صفاء الحياة وبراءة سننها، مبرزا قدرته على تمثيل ما بداخله عليها إذ هي مرآة لعواطفه ومخاض روحه في عشقه لحبيبته مستخدما في ذلك رموزها بشكل مكثف في قصائده( الثلج ، النار، البحر ، سواد الليل ، السواحل ، الفراش ، الورد ، السماء ، الطيور ، الأشجار ، البجع ، النسيم ، العطر، المساء ، منازل ، الأنهار ، الموج ، النجوم ، القمر ، البدر،الظبي ..) .
ولعل المتابع لقصائد هذا الشاعرالمبدع، يجد ما تحمله من عاطفة قوية تتغلغل في داخل القلب وتطرب لها النفس، ولعل قصيدتيه "قوافل الثلج و تتحدث ملء فم عبق " دليلٌ واضح على مدى صدق هذا التدفق العاطفي :
رذاذ التمنع في شفتيك شهي
كطعم البنفسج في همسات الفراش
.......
سأسكب قارورة الوجد
فوق سفوح الخيال وأرصفة القلب
........
تهتز لضحكتها الغرف
جدلا وتهش لها السقف
........
ونوافذ قلبي مشرعة
لنسيم تحمله السجف
وشموع الوجد ترافقه
فتضيء الروح وتنصرف
والعشق يحمل عادة على الشوق والصبابة والهوى النابع من جوف الروح وثغرة اللسان الذي ينفتح تلقائيا للتعبير مباشرة لهذا الهيام وجنون الحب الشيء الذي جعل شاعرنا يوظف كل الصور الدالة عليه ،والتي من خلال عناصرها أكسبت الديوان لغة تعبيريّة جديدة محتجبة في دلالتها ومتحوّلة في معانيها ومتداخلة في مقاصدها ، وهذا التفاعل الحاصل بين الشاعر وبين المشهد الطبيعي زاد من حيوية القصائد وقدرتها على التأثير؛ لما لها من الصدق في الإثارة وفي البناء والصياغة، فنجده يقول في مطلع القصيدة ''سيف الملامة''
البدر لاتنتابه الرعدات
أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها
أو اشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى
فتراقصت من شعرها الخصلات
حيث نلاحظ ثراء لغة الشاعر واتساع مروحة موضوعاته وخصوبة مخيلته ومايوحد هذه القصائد على تباينها هو مصدرها القلبي وجذورها المكانية الطالعة من هامات السحاب وغلالات الضباب وأحشاء تلك الجبال الشامخة والهضاب والأودية والبحر و....
ونتحسس بعضها من قصيدة تقاسيم على أوتار رملية وهمسات في آذان البحر وأنا شبح يختلي بالمرايا...
ركز الوهم حرابي ********** فوق هامات السحاب
حين سافرت دهورا********* في غلالات الضباب
.........
أين مني شهقات ********** ملء أنفاس الروابي
.......
ومتاهاتي وسبلي********** وفجاجي وشعابي
...................................
لقلبي أن يحضن الموج
.......
أن أركب الرمل فوق كثيب الحنين
......
سألتك ياليل هل في رؤاك
غديفتدي يومه والغدا
وهل يسكن النجم برد الظلال
وقد بايعته الربى سيدا
فهذه مشاعر تصوغها مخيلة لاتنام ، دائمة التيه والترحال ، ترنو إلى توقيف الزمن وفتح باب الأمل ...
المنى في عيني غابة أيك *********** والأسى في كفيك حزمة شوك
......
تورد العمر مورد ليس فيه ********** غير تسهيد أو معيشة ضنك
......
فخذي أسباب الوصال ، تعالي ********* إن أسباب البعد أولى بترك
مع تأمل الشاعر لأداته الشعرية المتمثلة في الهجرة الرمزية التي تحمل ملامح شبه صوفية والمرتبطة برمزية الليل وهدأة المساء منطوية على الخوف و التفاؤل اللذين يبسطان دلالتهما على مابعدها في عينيه العاشقتين وفي بهجة تجدد حياته ، حيث نجده يقول في قصيدته '' ما زلت أشرد في آثار راحلتي '' و '' أكفان العتمة ملء يدي''
منازل الدفء شتى ..كيف أحرسها ********* والثلج تلبسه ليلا ويلبسها
أنى مررت بها استشرفت طلعتها ********* في سورة الشوق حتى كدت ألمسها
......
ما زلت أشرد في آثار راحلتي ****** أتجأر الآن أم أرقى فأنخسها
أريدها رحلة في جوف عاصفة **** هوجاء لا نصب في القلب يحبسها
...................................
وأنوب وروحي هائمة ****** وأؤوب بقلب مبتهج
قمري ... مشكاتك مثبتة **** في باقة ليلي .. في الفرج
فأنا المولود على وتر **** ما حاجة شدوي للحجج
فالديوان قد أوصل الصورة التعبيرية للقارئ ،لما تحتوي عليه قصائده من جمالية وصور رائعة تستهوي النفس وتشد انتباهها خصوصا وهو يتغنى بالفراش وشدو الأطيار فنراه يقول :
رذاذ التمنع في شفتيك شهي
كطعم البنفسج في همسات الفراش
.......
وفراشة الشبق القريبة تنتشي
فتكاد تجدبنا اشتهاء تلبس
.....
يثب الفراش الغض بين أصابعي **** يجتاحه خفر يشب تضرعا
......
افرد جناحك ياهزاز تمنعا ********* للرفرفات نوافذ لن تشرعا
......
وذري للبلبل نمرقة
حبلى يتوسدها الحلم
.....
قالت عصافير الجنان غريرة
ومكانها الأشجار والعرصات
لو كان ربع العاشقين محصنا
تلقى على محرابه الصلوات
....................
فاختياره للفراش هو ترجمة لعشقه المتنقل عبر أزهار قلبه وحدائق نفسه ، المحترق في معاناته ليهبه قربانا للمحبوبة ،بشدى العصافير المغردة لجمالها الأخاذ وطلعتها البهية والتواق للعيش تحت ظلها محتفلا بالحياة بجانبها...
و في الختام نجد أن قصائد الديوان في شكلها ومضمونها، رائعة ودفاقة بالرومانسية التي طغت على أبياتها و تمتاز بالتجديد الحقيقي، كما أنها، جسدت حس الشاعر، و صورت أفكاره وانطباعاته وأعماقه في اتصاله المباشر بالحياة ، كما أن كلماتها غاية في الرقة والشفافية والوضوح .
والديوان هو بمثابة مجموعة من الثيمات (الحب والمرأة واللغة والطبيعة) والتي شغلت اهتمام الشاعر وعبر عنها بأحاسيسه ووعيه .وعندما تآزرت فيما بينها جعلت القصائد تتميز بعمل شديد التفرد والعمق والتأثير .
محمد محقق