الكتابة السلطانية: ضوابط و مؤهلات - د. عبدالرحيم الخلادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseعلى ضوء وصايا عبد الحميد الكاتب
تمـهـيد:
تحتل الكتابة السلطانية مكانة شريفة ضمن الدرجات العلى لأهم مناصب الدولة، لكونها تتولى صياغة وتدبيج الرسائل الصادرة باسم السلطان فتؤدي وظائف نبيلة وخطيرة في نفس الآن، مما يجعل السلطان ينتقي كتابه من الصفوة المثقفة والملمة بالأحداث وبضوابط الكتابة والتعبير. ولا زالت أهم البلاطات الإسلامية تهتم بالكتابة السلطانية أيما اهتمام، مستحضرة طبيعة المتلقي والعديد من الشروط التواصلية، بواسطة خطاب رسالي محدد المعالم، أثار اهتمام النقاد منذ القديم فحاولوا تتبع أهم آلياته بالنقد والتقويم حتى يتسنى للرسالة السلطانية أن تؤدي وظائفها في تفاعل تام مع النشاط الدبلوماسي والسياسة الخارجية للدولة. وإذا التفتنا إلى تراثنا فإننا  نجد العديد من الأفكار والمعطيات والوصايا في الموضوع؛ لكن تستوقفنا رسالة أهم بكثير، دبجها عبد الحميد الكاتب ووجهها إلى الكتاب مضمنا إياها العديد من النصائح القيمة التي لا شك أنها ستنير درب كل كاتب أو مقبل على مهمة الكتابة السلطانية.
1- عبد الحميد الكاتب:

ظهرت الكتابة السلطانية العربية منذ العصر الجاهلي، ولعبت دورا في التواصل بين القبائل والممالك، وفق شروط العصر وخصوصياته الحضارية والثقافية والسياسية؛ وما أن جاء الإسلام حتى استلهمت قيمه وشرائعه فواصلت حياتها وتجددها، وعرفت بنيتها العديد من التغييرات انسجاما مع روح العصر... وبمجيء العصر الأموي ستعرف قفزة نوعية متميزة من حيث أدبية الكتابة، بحيث نبغ في هذا العصر العديد من الكتاب المترسلين البلغاء، لكن نجمهم أفل أمام شمس عبد الحميد بن يحيى الكاتب الذي اكتملت للرسالة السلطانية معه العديد من مقوماتها الفنية، ليؤسس بذاك مذهبا في الترسل يتجاوز الوظائف الإبلاغية والتواصلية إلى تحقيق فعل الكتابة.
لعل المكانة التي احتلتها رسائل عبد الحميد الكاتب، جعلت النقاد يعتبرونه أول من فتق أكمام فن الرسالة العربية وأول من وضع أصول وقواعد الكتابة الإنشائية؛ فقيل: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد[1]. وفي هذا اعتراف بما وضعه عبد الحميد بن يحيى من دعائم وأسس للكتابة الإنشائية هي نتاج ثقافته واحتكاكه بديوان الإنشاء منذ وقت مبكر، حيث التحق به في عهد هشام بن عبد الملك؛ و"اتصل بمروان بن محمد وكتب له أيام كان واليا، فلما صارت إليه الخلافة أقامه على ديوانه، فنهض بالعمل فيه خير نهوض"[2].
2- رسالته إلى الكتاب ووصاياه:
انفرد عبد الحميد الكاتب بصياغته لرسالة في غاية الأهمية وجهها إلى الكتاب، تعكس خلاصة تجربته وتمرسه في ديوان الإنشاء، بما قدمه فيها من نصائح ووصايا وتوجيهات علمية وفنية، التزم هو نفسه بها في رسائله المتعددة، وكل ذلك ثمرة تبحره في الثقافة العربية الإسلامية، من جهة، واتصاله بالثقافة الفارسية والثقافة اليونانية من جهة أخرى.
* علاقة الكاتب بخالقه :
حاول عبد الحميد الكاتب رصد المكانة التي خصصها الله سبحانه وتعالى للكتاب بين باقي عباده؛ فبعد مرتبة الأنبياء والمرسلين، ومرتبة الملوك، يتربع الكتاب على عرش الفئة الثالثة، وذلك لما خصهم به من شرف العلم والأدب والمروءة والرزانة؛ قال: "فجعلكم – معشر الكتاب – في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءات، والعلم والرزانة"[3].
ويبين ابن عبد ربه القرطبي هذا الشرف وهذا الفضل اللذين نالهما الكتاب، بحديث ذكر فيه أن هذا الفضل يجسده "قول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: (علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)[4]، وقوله تعالى: (كراما كاتبين)[5]، وقوله (بأيدي سفرة كرام بررة)[6]"[7]. لذلك أحس الكتاب الكبار بأهمية هذه المكانة التي خولها الله لهم، ومن ثم جاءت ضرورة تحليهم بالمسؤولية، قال ابن عبد الغفور الكلاعي: "فنبه عز وجل على هذه النعمة التي أنعم بها علينا، والمنة التي أسداها إلينا فتفقهنا بها في حقائق الإسلام، واستدللنا بها على الطرق المؤدية إلى دار السلام"[8].
كما يبقى هذا الشرف وهذه النعمة التي أنعم بها الله على الكتاب، بمثابة المحفز الحقيقي على تبجيل الله عز وجل وعلى مراقبته في السر والعلن أثناء ممارسة المهام والمسؤوليات، مع الاهتمام بأمور العباد وعدم التقصير في ذلك. ويتجلى هذا في عدد من الفضائل التي ينبغي التحلي بها والحرص على الالتزام بها أمام الله من جهة، وأمام الناس من جهة أخرى، حتى يكون الكاتب مدرسة تعلم الناس العدل والإنصاف وتعودهم على التواضع والحلم وغير ذلك من الأخلاق السامية. وفي هذا السياق، يقول عبد الحميد الكاتب في رسالته الخالدة إلى الكتاب: "وإذا ولي الرجل منكم، أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله، فليراقب الله عز وجل، وليؤثر طاعته وليكن مع الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرا، وللرعية متألفا، وعن أذاهم متخلفا، وليكن في مجلسه متواضعا حليما"[9].
كما يدعو نظراءه من الكتاب إلى الاستعانة بالله ، وحمده ورد الفضل إليه وحده، دون الاغترار بالنفس، وإلا وكلهم الله إلى أنفسهم، حيث لا يستطيعون تحقيق شيء بمعزل عن قدرة الله وإرادته: "وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وآدابه. فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك من تأمله غير خاف"[10]. وأعقل الرجلين من رأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته " وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته"[11].
* دور الكاتب في أجهزة الدولة :
حدد عبد الحميد الموقع الذي يحتله الكاتب في جهاز الدولة من منظور مكانته في نفس السلطان، وما يلعبه من دور في خدمة السلطنة... إذ توجه إلى الكتاب قائلا: "بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها. وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم. لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم. فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون"[12]. فالكتاب يضطلعون بدور خطير في دواليب السلطة بعملهم إلى جانب الملوك والسلاطين ومشاركتهم لهم في الرأي والتدبير… أو كما قال ابن عبد ربه: "وللكتاب أحكام بينة كأحكام القضاة، يعرفون بها وينسبون إليها ويتقلدون التدبير وسياسة الملك دون غيرهم، وبهم يقاد أود الدين وأمور العالمين"[13]. وبناء على هذا، يعتبر ابن عبد ربه الكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة كما أورد الراغب الأصفهاني أن الكتابة بلغت بقوم مبلغ الملوك وأعطتهم أزمَّة الخلافة، ونال الخلافة أربعة من الكتاب: عثمان وعلي ومعاوية وعبد الملك[14].
ومن جميل بعض الخلفاء على كتاب الدواوين عامة، ما رواه الجهشياري من أن الخليفة المهدي جعل للكتاب عطلة خاصة يوم الخميس في قصة جاء فيها: "وكان أبو الوزير عمر بن مطرف يتقلد للمهدي ديوان الخراج، فاتصل بالمهدي أن أبا الوزير احتجم في يوم الخميس في ديوانه، فأمر أن يجعل يوم الخميس للكتاب يستريحون فيه، وينظرون في أمورهم، ولا يحضرون الدواوين، ويوم الجمعة للصلاة والعبادة، فلم يزل الأمر جاريا على ذلك إلى أن كتب الفضل بن مروان للمعتصم، فأزال ذلك الرسم، وأخذ الكتاب بالحضور يوم الخميس"[15].
* ما يحتاج إليه الكتاب من الخصال :
سرد عبد الحميد سلسلة من الخصال والسجايا التي يحتاج إليها الكاتب، وتعتبر محددا إيجابيا لشخصيته التي يفترض أن تتسم بسمات خاصة تميزها عن باقي الشخصيات، مثلما هي بمثابة المعايير الأخلاقية التي يقيس بها الملك شخصية كاتبه. وقد حددها عبد الحميد في قوله: "فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، مقداما في موضع الإقدام، محجما في موضع الإحجام، مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيا عند الشدائد، عالما بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنها"[16].
وقد ركز ابن عبد ربه على ذكر الخصال الخلقية في صفة الكاتب، فأورد بعض ما قيل في ذلك كاعتدال القامة وصغر الهامة وكثاثة اللحية، دون أن ينسى الحث على ملاحة الزي، مذكرا بقول بعض المهالبة لولده: تزيوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة[17]. وأضاف إلى ذلك أن من كمال آل الكتابة "أن يكون الكاتب نقي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسالك، مستقر التركيب"[18].
ودعا عبد الحميد الكاتب إلى السمو بالكتابة من كل الأمور الوضيعة، ومحاربة الخصال الذميمة، وذلك بتجنب الطمع وتسخير المسؤولية في سبيل سفساف الأمور محذرا مما يترتب عن هذه السفاهات من عواقب الأمور: "وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها، فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربؤوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات. وإياكم والسخف والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة، واحذروا السرف وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر ويذلان ويفضحان أهلهما ولاسيما الكتاب وأرباب الآداب"[19].
فالكتابة فضيلة من الفضائل يؤتيها الله من يشاء من عباده. ومن اعتراف الكاتب بفضل خالقه عليه، أن يقابل هذه النعمة وهذه الهبة بتطهيرها من رجس القبائح المذمومة. وفي هذا المعنى يقول ابن عبد الغفور الكلاعي: "الكتابة من حلي الملائكة، قال تعالى: "كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون"[20]. فالواجب على من آتاه الله هذه الفضيلة وبوأه هذه الدرجة الرفيعة، وعلمه فصول الخطابة وفقهه في ضروب الكتابة أن يطهرها من دنس القبائح. فيخزن لسانه عن الغيبة، ويخلع نعل الدناءة، ويمتطي صهوة العافية، ويكون بعيد الهمة، نزيه النفس، حسن الهيئة..."[21].
كما ركز عبد الحميد على حث أترابه من الكتاب على تجنب الوقوع في الزلات بتغير الأحوال والمواقف، وهو ما لا يليق بطبقة الكتاب، مبينا درجة المهانة التي يمكن أن يصل إليها الكاتب في هذه الحالات: "وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال. فإن العيب إليكم – معشر الكتاب – أسرع منه إلى القراء، وهو لكم أفسد منه لهم"[22]. وهذه مناسبة استغلها عبد الحميد للدعوة إلى ضرورة التحلي بالوفاء والإخلاص في العمل وفي المعاملة، فالكاتب إذا صحبه  من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه أن يعتقد من وفائه وشكره واحتماله خيره و نصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه... فنعمت الشيمة هذه ومن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة[23].
حاول عبد الحميد، انطلاقا من هذه النصائح، جهد إمكانه، تنزيه الكاتب عن كل الأخلاق الذميمة والأفعال المهينة، ونحت مبدأ مهما مفاده أن الكاتب الحق من لم يتجاوز حق قدره، أو قدر حقه، فقال: "ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه"[24]. وهو لا يكتفي بالتوجيه النظري لنصائحه، بل يتعدى ذلك إلى إعطاء الأمثلة الممثلة لها، بما يقرب قصده من فهم المتلقي، حيث ضرب مثلا في كيفية سياسة الأمور بسائس البهيمة الذي لا يمكن أن يسوسها إلا بعد معرفته بأخلاقها؛ إذ تعتبر هذه المعرفة القبلية ضرورية، قبل الخوض في أية قضية واعتماد تصور لها: "وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال على صرفه عما هواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة"[25].
ويتميز عبد الحميد – في سياق هذه السلسلة من النصائح – بإثارته للدعوة إلى مبدأ سام طالما نراه يطرح في يومنا الحاضر عبر وسائل وقنوات متعددة، يتمثل في حثه على التحاب والتآزر والتكافل بين الكتاب في كل الأحوال والظروف، بل يدعو إلى الاهتمام بمن أقعده الزمان، لا من حيث عيادته وزيارته ومساعدته فحسب، بل باستشارته والاستفادة من آرائه الناتجة عن تجربته في ميدان الكتابة الإنشائية، وبذلك  يحس هذا المقعد بأن قلبه لا زال ينبض بالحياة والعطاء... مما قاله بصدد هذه الدعوة النبيلة: "وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره. وإذ أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته"[26].
* ثقافة الكاتب :
لم يتوان عبد الحميد بن يحيى في الحث على التثقيف والتحصيل اللذين يخولان للكاتب تبوأ المكانة العلمية اللائقة به، والتي تكون في مستوى المسؤولية التي يقوم بها. فالمستوى العلمي المنشود لا يمكن تحقيقه إلا عبر تشرب ثقافة واسعة تشمل العديد من العلوم والمعارف، توجه بعقل ذكي وأدب حسن وتجارب حقيقية؛ فالكاتب الحق هو الذي "قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيء لكل وجه هيئته وعادته"[27].
وقد أكد أبو هلال العسكري أن الكتابة الجيدة تحتاج إلى أدوات جمة، وآلات كثيرة، من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ، وإصابة المعاني، وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة. وأوضح ابن الأثير أن صناعة تاليف الكلام تفتقر إلى آلات كثيرة، وقد قيل: "كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، فيقال: "فلان النحوي، وفلان الفقيه، وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة، فيقال" فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن"[28]. لذلك لم يكن من العبث أن ننسب عبد الحميد بن يحيى إلى الكتابة، فنسميه عبد الحميد الكاتب، وهو الذي أرسى دعائم مدرسة أدبية متميزة في الترسل العربي، بعد طول تجربة وتمرس بديوان الإنشاء؛ فها هو يحث الكتاب على المنافسة العلمية الشريفة: "فتنافسوا – يا معشر الكتاب – في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين"[29]، وهذا الحث على التحصيل العلمي رافقه ترتيبه للعلوم التي ينبغي تعلمها والتضلع فيها تدريجيا: "وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل، والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها..."[30].
* أهمية الخط :
هكذا، فإن تعلم الخط الجيد يعتبر من الأولويات التي على الكاتب الاهتمام بها، "فالكتابة لا تستقيم لشخص ما إلا إذا جمع بين الأسلوب البليغ والخط الجيد"[31]. ومن هنا فإن أول ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه – حسب ابن عبد ربه – هو "حسن الخط، الذي هو لسان اليد، ولهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة..."[32]. ويحث ابن عبد ربه على الاهتمام بالقلم حتى يستوي الخط[33] على الوجه المطلوب، إذ من الواجب "أن يصلح الكاتب آلته التي لا بد منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلا بها، مثل دواته، فلينعم ربَّها[34] وإصلاحها، وليتخير من أنابيب القصب أقله عقدا، وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء، ويجعل لقرطاسه سكينا حادا، لتكون عونا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة[35]. هذه وصايا قيمة تبين الطريقة التي ينبغي اتباعها لصنع الأقلام الجيدة الكفيلة بجعل خط الكاتب واضحا في مستوى أسلوب كتابته وأهمية موضوع رسالته، فقد قيل: كل كتابة تحتاج إلى ذكاء إلا الكتابة، فإنها تحتاج إلى ذكاءين: جمع المعاني بالقلب والحروف بالقلم، ولذلك قيل بالفارسية (ديبر)، أي: له ذكاءان[36].
بل لقد جعل العديد من النقاد للقلم أهمية بالغة، لا تقل عن أهمية محتوى الرسائل المكتوبة بهذا القلم... فمما يجب على كاتب الإنشاء – حسب الكلاعي – أن يجيد قلمه، فهو ترجمانه ولسانه وسنانه[37]. وقال ابن عبد ربه: "واعلم أن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس"[38]. أما أجود وأحسن الورق الذي أوصى بها النقاد، فهو الكاغد الأبيض لأنه ضد لون المداد. وقد قال الجعفي: وبضدها تعرف الأشياء[39].
فكل من تناول موضوع الكتابة نقديا، إلا وألح على ضرورة الكتابة بخط واضح متميز مقروء وجميل، وأن يتحرى في اختيار الأقلام والورق مثلما يتحرى في اختيار الألفاظ والمعاني. ويرون كل تقصير في ما يتعلق بالخط والكتابة والقلم نقصا في شخص الكاتب... ومن أحسن ما وصف به كاتب مقصر: "كاتب ما عرف قط كيف البرية والقط، ولا نسخ سطرا إلا فسخ منه شطرا. ألفاظه ملحونه، ومعانيه ملعونة، ومقاصده خبيئة مكنونة، وحروفه مطحونه. إذا تهجى هجا، وإن تكلم شح وشحا، ألفاته سجود، ولاماته رقود، وميماته عقد لا عقود، وقافاته واوات، ونوناته راءات، يرفع بالنواصب، ويكثر تنوين الكواذب، ويعمى عن المعنى الجلي، ويخاطب العدو مخاطبة الولي. وتقر كتبه بما فيها من الفساد، بأنه قرته عيون الأعداء والحساد"[40].
هكذا، لا يجادل اثنان في كون عبد الحميد الكاتب أفاد الكتاب إفادة عظيمة وفوائد جمة غزيرة لا تقدر بثمن، من خلال هذه النصائح الهامة التي قمنا بتتبعها في الفقرات السابقة، مع محاولة إغنائها بآراء بعض النقاد، وأبرزهم ابن عبد ربه والكلاعي. وقد كانت تلك النصائح نتاج احتكاك حقيقي ومتميز لعبد الحميد الكاتب بديوان الإنشاء وبصناعة الإنشاء التي أبلى فيها البلاء الحسن، حتى عد رائدا فيها بدون منازع. ولا يمكن لمن وجه هذه النصائح السامية إلا أن يكون متشبعا بها في عقله وروحه وممارسته لا كمن يأمر الناس بالمعروف وينسى نفسه؛ من ثم لم ينس عبد الحميد ختم رسالته بهذا المثل – الالتزام: "من تلزمه النصيحة يلزمه العمل"[41].
3- جوانب التقصير في رسالة عبد الحميد :
لعل أبرز ما أؤاخذ عبد الحميد الكاتب عليه  – في رسالته إلى الكتاب– هو تقصيره في توجيه نصائح تتعلق بفنية الكتابة. ذلك أنه، وبعد حثه على التعلم والتثقف، لم يتجاوز الحض على بعض الجوانب الفنية العامة حين قال: "فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي في منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره"[42].
ولما لم يهتم عبد الحميد الكاتب بتقديم توجيهات فنية تحدد الإطار الفني الذي ينبغي للكاتب الاقتداء به، نحس بوجود فراغ في تلك السلسلة من النصائح القيمة التي وجهها إلى أترابه من الكتاب... ولسد هذا الفراغ وتعويض تلك الحلقات المفقودة، نلجأ إلى نقاد آخرين، فنتبع بعض النصائح الهامة التي رامت التوجيه الفني لأدبية الكتابة في فن الرسالة العربية عامة، والسلطانية منها على وجه الخصوص؛ كمراعاة أحوال المرسل إليهم، وذلك بمناسبة الرسالة لمقام المكاتبين عبر صنوف الافتتاح، والدعاء، واللغة، والإيجاز، والإطناب... إلخ.
ففي سياق مقارنته بين الكاتب والشاعر، ذهب المرزوقي إلى أن ما يطالب به الكاتب أشد صعوبة مما يطالب به الشاعر[43]. واهتم النقاد بشرح ما يتوجب على الكتاب أن يحلوا به رسائلهم من تقنيات ومقومات الكتابة الفنية، كما هو شأن ابن قتيبة[44] – مثلا – في توجيهه لبعض النصائح والإرشادات كتجنب الوحشي الغريب، وتعقيد الكلام، مع مراعاة مقامات المتخاطبين، وما إلى ذلك.
وقد عقد ابن عبد الغفور الكلاعي فصلا في قوانين الكتابة وآدابها[45]، أكد فيه أن الكتابة موطن ترحيب وتأهيل، لذلك وجب على الكاتب أن يلقى كل طبقة من الناس بما يشاكلها من اللفظ ويوافقها، ويقابل كل فئة بما يشاكلها من المعنى ويطابقها[46]. ومن ثم انتقل إلى الإلماع ببعض النكت الدالة على هذا الغرض عبر توجيهات فنية تخدم كاتب الديوان في علاقته بالمراسلات السلطانية.
فمما أورده من نصائح قيمة قوله: "وأما قولك: أدام الله إعزازه، فلا يكتب به إلا إلى أولي النهي والأمر، ممن يكتب عن نفسه، ونحن فعلنا كذا، لأن هذه اللفظة لا يكتبها عن نفسه إلا آمر أو ناه. وفي الكتاب العزيز: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[47]"[48]. كما سرد مجموعة من الألفاظ والعبارات التي يتوجب استعمالها في الرسائل السلطانية، مفسرا الموقع والسياق الذي ينبغي أن توضع فيه، حسب مبدأ "لكل مقام مقال"، آخذا بعين الاعتبار شخص المرسل إليه ؛ ومن ذلك – يرى الكلاعي – أن قولك : (أدام الله عزه)، يكتب به إلى أهل النباهة والرفعة...، ممن يكتب إليه : (فإن رأيت كذا)، لأن هذه اللفظة إنما يكتب بها إلى أهل الجلالة والعلى[49]. وكذلك الشأن في قول الكاتب : (فرأيك في كذا)، حيث جعله الكلاعي مما يكتب به إلى الأكفاء، مفسرا ذلك بأن فيها معنى الأمر، ولذلك نصبت[50].
ومن ثم، على الكاتب أن يخاطب الناس على أقدارهم بدون زيادة أو نقصان وإلا انقلب إلى خلاف المقصود، "فقد قال بعضهم : من مدح أحدا بغير ما فيه فقد بالغ في هجائه"[51]. ويجب عليه أيضا مراعاة طبيعة موضوع الرسالة التي يكتبها، إذ عليه "إذا كتب كتاب اعتذار، أو رسالة استعطاف واستنزال، ألا يصدر بالألفاظ الخشنة، والمعاني القلقة، فإن ذلك إذا كان أول ما يقرع السمع، نفرت له النفس، فإذا نفرت النفس لم تستأنس إلا بعد علاج شديد"[52]. كما يقدم الكلاعي تفسيرات لما يدعو إليه مدعمة بالأدلة الكافية، من خلال التفسير وتقديم الأدلة خصوصا من رسائله هو.
ويرى أن من أوجب الواجبات على الكاتب إذا ذكر الله سبحانه أن يعترض بتحميده، ويشير بتمجيده، بما شاكل الكلام، ووافق المقام ولو بقول: جل ذكره، أو عز وجهه، أو سبحانه ؛ وكذا يجب أن يخص الرسول (ص) بالصلاة والتسليم كما أمر – جل ثناؤه – في كتابه الكريم[53]. ومن جهة أخرى، فإن نصائح الكلاعي الموجهة إلى الكتاب، تمتد إلى وسائل أخرى متعددة منها الاحتراز من التصحيف واللحن والتحريف، ويضرب مثلا لهذه العيوب بهذا القول: "اللحن في الكلام كالجدري في الوجه"[54]. كما يدعو إلى ضرورة الاحتفاظ من تكرير المعاني والألفاظ والفِقر والنوادر والغرر. إذ الفقرة المكتوبة كالذرة الموهوبة، فإن وقع عليها ذر فهو بيع وشر"[55].
خـاتمة:
تلك كانت بعض التوجيهات الفنية الهامة التي حث عليها النقاد ودعوا كتاب الإنشاء إلى أخذها بعين الاعتبار لدى تدبيجهم لرسائلهم. هكذا فإن منصب الكتابة السلطانية يستدعي من تتوافر فيه العديد من الخصال والسجايا وكذا الكفايات الثقافية والمعرفية التي تجعله في حجم المهمة المنوطة به جوار السلطان. والأهم هو أن هذه النصائح لا تفنى ولا تبلى ولا تتقادم، بل تبقى صالحة لكل العصور، ومنها عصرنا الحالي، حيث نجد رسائل الملك محمد السادس –على سبيل المثال- راقية ومتميزة، وهي تجمع بين أصالة البناء وحداثة العصر، مما يجعلها جديرة بالبحث والدراسة التطبيقية.
د. عبدالرحيم الخلادي – أكادير  


الهـوامش:

[1]  "إحكام صنعة الكلام"، ابن عبدالغفور الكلاعي، ص 113. (تحقيق رضوان الداية، ط. دار الثقافة، بيروت، دت).
[2]  "الفن ومذاهبه في النثر العربي"، شوقي ضيف، ص 113-114. (ط, 6، دار المعارف، مصر).
[3]  "المقدمة"، ابن خلدون، ص 194. (ط. 1، دار الكتب العلمية،بيروت، 1993).
[4] سورة العلق، آية 4 و 5.
[5]  سورة الانفطار، آية 11.
[6]  سورة عبس، آية 15 و 16.
[7]  "العقد الفريد" لابن عبد ربه، 4/ ص 243 (تحقيق الترحيني، دار الكتب العلمية، ط 3 – 1978). وقال الراغب الأصفهاني: "جعل الله كتبة الملائكة كراما كاتبين، حيث يقول (كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون)، "محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء"، ص 97، (ط. بيروت، 1961).
[8]  "إحكام صنعة الكلام"، ص 40.
[9]  "المقدمة" م.س.، ص 195.
[10]  المقدمة، ص 196.
[11]  نفسه.
[12]  نفسه، ص 194. وقال الجهشياري: "ولم يكن يركب الهماليج في أيام الفرس إلا الملك والكاتب والقاضي"، "الوزراء والكتاب"، ص 9 (ط . II  . مصر. 1980).
[13]  "العقد الفريد" 4/243.
[14]  "محاضرات الأدباء" 1/97، وانظر "العقد الفريد" 4/243-244.
[15]  "الوزراء والكتاب"، ص 166.
[16]  المقدمة"، ص 194.
[17]  "العقد الفريد"، 4/253.
[18]  نفسه، ص 253-254.
[19][19]  المقدمة، ص 194-195. وقال الجهشياري: "وكان كشتاسب يقول للكتاب: الزموا العفاف، وأدوا الأمانة في كل ما يفوض إليكم، واجمعوا على غرائزكم وعقولكم سماع الأدب، واستعملوا ما استفدتم من الأدب ب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة