احتراق الشعراء- المصطفى السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstrait7لانقصد هنا الاحتراق بمفهومه الفيزيقي والمادي..ولكننا نقصد المفهوم المجازي للاحتراق..أي ما يكابده الشاعر من معاناة ووجع حين يكون بصدد إبداع شعره، وما يمر به من لحظات عسر وقلق ساعة الكتابة.. وقد اخترنا لفظة الاحتراق لأنها أنسب من غيرها في الدلالة على الحالة التي تنتاب الشاعر عندما يركبه شيطان الشعر ويسبح في ملكوت الإبداع.
نحن المتلقين يغيب عنا هذا الوجه من أوجه الإبداع ، لأنه يرتبط باللحظات الحميمة منه ، والتي لا نستطيع استكشافها من مجرد القراءة.. إنها الطقوس الخاصة التي تحيط بفعل الكتابة ولا تظهر فيها.. فنحن نتلقى القصيدة بعد خروجها من رحم الإبداع مكتملة ناضجة ، ونستمتع بها وبجمالياتها دون أن نفكر للحظة واحدة في مقدار العذاب الذي رافق ولادتها ، ولا في حجم المعاناة التي اكتوى الشاعر بلهيبها أثناء الإبداع.
إن الشاعر حين يقدم شعره إلى المتلقي ، يقدمه مجردا من تفاصيل هذه الحالة ومن ملابساتها.. والمتلقي بدوره يقرأ القصيدة دون أن يفكر في زمن الإبداع ، ولا في ألم الكتابة.. لا يهمه أن يعرف كم من الوقت استغـرق الشاعـر في إبداع قصيدته.. ولا يهمه ما عاناه من ألم واحتراق لكتابة تلك القصيدة.. إنه يقرأها بمعزل عن شروط ولادتها.. ولا ذنب له في ذلك.. لأن تلك الشروط مسكوت عنها وغير مصرح بها.. وفي ذلك بعض الحيف.. فكيف نضع القصائد كلها على قدم المساواة ، وفيها قصائد كـُتِبت بـيُـسْـر وسهولة ومعاناة أقل من قصائد أخرى لم تـَخرج إلى الوجود إلا بعد جهد ولأي وسهر واحتراق؟!

ليس من المنطقي أن نطالب الشاعر بأن يُرْفِق كل قصيدة بشهادة ميلادها ، أو بما واكبها من معاناة.. كما أنه ليس من الممكن وضع مقياس مضبوط لمعرفة درجة المعاناة النفسية التي أحاطت بإبداع كل قصيدة.. اللهم إلا إذا اعتبرنا الجودة في التعبير والتصوير مقياسا لذلك.. أي كلما كان التعبير موفقا والصور جيدة وبديعة وجديدة كان ذلك دليلا على شدة المعاناة ولوعة الاحتراق عند الإبداع.. غير أن الجودة – كما هو معروف – هي مسألة نسبية فقط.. فما يبدو لي جيدا ، قد يراه غيري عاديا.. والعكس صحيح.
لا سبيل إذن إلى معرفة ذلك إلا من خلال ما يجود بـه الشاعر أو أشدُّ الناس التصاقا به وملازمة له من أحاديث موازية تكشف هذه الحالات النفسية الغريبة الأطوار أحيانا ، والتي تقدم لنا الشاعر وهو متلبس بفعل الإبداع.. تقدمه لنا وهو في لحظة من أكثر اللحظات حميمية.
نجد في كتب الأدب والنقد حالات نادرة ًجدا لاعترافات الشعراء أو روايات معارفهم عن تلك اللحظات.. ولكنها ، على الرغم من ندرتها ، دالة ومعبرة ، وتكشف الوجه الخفي من الإبداع.. لن نستقصي كل تلك الحالات.. ولكننا سنكتفي هنا بعرض نماذج منها ، لنقف ، نحن المتلقين ، على بعض من الشـروط الصعبة والمريرة التي تحيط بعملية الإبداع.

نبدأ بهذه الحكاية الطريفة التي أوردها الدكتور عبدالله الغذامي عن امرئ القيس في كتابه "النقد الثقافي" ، قال: كان امرؤ القيس يردد شطر بيته المشهور(مِكـَرٍّ مِفـَرٍّ مُقبلٍ مدبرٍ معا)


ولم يتمكن من إتمامه ، وبات الليل كله يردد الشطر دون أن تنفتح عليه التكملة ، وسمعَـته جاريته وهو في أزمته الإبداعية تلك ، فتمكنت من إكمال البيت. غير أنها خشيت من سطوة سيدها فيما لو أحـرجَـته بإتمام البيت نيابة عنه ، وهو فِـعْـلٌ أدركت الجارية أن الشاعر الفحل لا يأخذه بسلام.. ولذا فقد احتالت الجارية لنفسها حيلة ؛ ولما ذهبت إلى المرعى في الغد تعمَّدتْ أن تـنشغل عن الغنم حتى جاءهن الذئب وهجم عليهن ، فجاءت الجارية راكضة إلى سيدها وهي تصرخ وتقول له: سيدي لقد جاء الذئب من الخلف مسرعا ومباغتا كجلمود صخر حطه السيل من عل ِ ، وهنا لقـنت سيدها تمام البيت دون أن تعرض نفسها للخطر.
ما يهمنا من هذه الحكاية ، على الرغم من أنها لم ترد في أي من المصادر المدوَّنة ، بل رواها المؤلف عن والده ، ويبدو أنها من التراث الشفهي ، ما يهمنا منها أن الشاعر مهما بلغ شأنه وعلا مقامُه بين الشعراء تعتريه أحيانا لحظات عسيرة لا يستطيع فيها إتمام ما بدأه إلا بعد جهد ومعاناة وسهر طويل ، وأن المعنى العميق والصور الجميلة المعبرة قد تستعصي عليه ، فلا تـُسْـلِـمُ له القياد إلا بعد أن يحـرق في سبيلها بعضا من ذاته.
أما الشاعر المفلق الفرزدق فقد شبه لحظات العسر تلك بأنها أشد إيلاما من خلع ضِرس من أضراسه..قال: تمر علي ساعة ، اقتلاع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت واحد من الشعر.. أو كما قال..وكم في هذا التعبير من دقة في بيان شدة الآلام التي يحس بها الشاعر حين تنغلق دونه منافذ الإبداع ، ويُضطـَر إلى السهر في انتظار أن يسعفه الوحي بشئ من الإلهام يُخرج به المعنى المنحبس في داخله..
ويحدثنا ابن رشيق عما كان يقع لأبي تمام في حالة من تلك الحالات.. قال: كان أبو تمام يُكـره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره. حكى ذلك عنه بعض أصحابه ، قال: استأذنت عليه – وكان لا يستتِر عني – فأذِن لي فدخلت فإذا هو في بيت مُصهْـرَج قد غـُسِـل بالماء ، يتقلب يمينا وشمالا، فقلت: لقد بلغ بك الحر مبلغا شديدا؟  قال: لا ، ولكن غيـرُه. ومكث كذلك ساعة ثم قام كأنما أُطلِق من عِقال ، فقال: الآن ورِِدْتُ ، ثم استمد وكتب شيئا لا أعرفه ، ثم قال: أتدري ما كنتُ فيه الآن؟ قلت: كلا ، قال: قول أبي نواس:
"كالـدَّهـْر فيه شـَراسَة ولِيانُ"
أردتُ معناه فشمَسَ عليَّ حتى أمكن الله منه فصنعتُ:
" شرستَ ، بل لِنتَ ، بل قانيْتَ ذاك بذا
فأنتَ لا شــك فيــه السهْـل والجـبـــل."
نستنتج من هذه الحكاية فائدة مهمة ، وهي أن حالة انحباس الشعر يمكن علاجها ، أو على الأقل التخفيف من حدة آلامها بأخذ حمام قد يساعد على انطلاق القريحة وعودة الوحي والإلهام.. ولذلك نجد ابن رشيق يقول: سألت شيخا من شيوخ هذه الصنعة فقلت: ما يُعِينُ على الشعر؟ قال:" زهرة البستان ، وسماع الغناء ، وراحة الحمام."
أما المتنبي فإنه يغالب صعوبة الإبداع ، إذا واجهته ، بالإنشاد وترجيعه.. فقد ذكِر عنه أن متشرفا تشرف عليه وهو يصنع قصيدته التي أولها:
"جَلـَلا ً كما بي فـلـْيَـكُ التبريحُ"
وهو يتغـنـَّى ويصنـَع ، فإذا توقــَّف بعض التوقـُّف رجَّع الإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها.
ولم يسلم أمير الشعراء من هذا الأمر كذلك.. وهو مَنْ هو انسيابية َشعر ، وسلاسة َقريحة ، وتدفقَ إنتاج.. قد يكتب القصيدة بيسر وسهولة.. وقد يكتبها على مراحل.. وقد يكتب أبياتا منها ويستعصي عليه بيت فيظل منشغلا به ، مهووسا بإتمامه ، فلا يأتيه الفرج إلا بعد أيام.. حكى كاتبه داود بركات عن تلك الحالة ، فقال: قال لي صديق له: لقد لازمتـُه في ليلة في مطعم (دي لابرومينات) على كوبر قصر النيل ، وكان ذلك قبل الحرب ، فشرع يعمل في قصيدة النيل ، وكان كلَّ نصف ساعة يركـَب مركبة خيل ، ويسير في الجزيرة بضعَ دقائق ، ثم يعود إلى المِنضَدة التي كان يجلس عليها ، فيكتب عشرة أبيات أو اثني عشر بيتا ، وهكذا حتى انتهت القصيدة في ليلة إلا بيتا استعصى عليه ، ولم يتمكن منه إلا بعد يومين..

إن للإبداع لذة..ولكنها لا تـُدرَك إلا بالتعب والعـرق والسهر والاحتراق.. ولكي يستمتع المتلقي بالنص يكون الشاعر قبل ذلك قد أشعل بخور الإبداع في ذاته ، وأحرق أعصابه وخلاياه قرابين وزلفى أمام محراب الوحي والإلهام قبل أن يقدم عُصارة روحه وخلاصة تجاربه للآخرين..

إن الشعر لا ينكتب بالقلم وحده ، ولكنه ينكتب بالألم أيضا..


المصطفى السهلي – سلا الجديدة -

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة