التجربة الشعرية وتشكل الأنا الواعية عند الشاعر المغربي محمد علي الرباوي - عبد المجيد العابد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse-tableau-11"فهذه الإسلامية تتحقق بِربط التجربة الشعرية المعَبَّر عنها برؤيا إسلامية وهذا في تقديري ما يعطي المبدعَ المسلمَ حرية في الكتابة"
الرباوي
يعتبر الشعر عند الرباوي كتابا مفتوحا يمكن من خلاله أن نصل إلى طبيعة تنشئته الاجتماعية التي رفدت منها حياته النفسية، وتكونت شخصيته وطبيعته ابتداء من مرحلة الطفولة الصغرى باعتبارها مرحلة بناء الشخصية، وإليها يرجع النفسيون في الغالب لمعرفة سلوكيات الراشد التي لا تجد لها تفسيرا في هذه المرحلة، وما دامت التجربة الشعرية عند الرباوي صادقة في القول الشعري صفاء الطبيعة الصحراوية التي ميزت طفولته الصغرى بأسرير بتنجداد، فإن هذه التنشئة نراها منطبعة في شعره من خلال البوح واللغة المباشرة التقريرية التي تجسد رؤيته للأشياء والعالم، غير أن شاعرنا ما دام لم يبق عند حدود تنشئته الطفولية بتنجداد، بل سافر إلى أماكن متعددة واطلع على أوعاء مختلفة، فإن لغته المباشرة اعتورها الرمز، مما يدل على أن الطبيعة تجعله يبوح تقريرا، والوعي وتطور الوعي بالذات والغير يجعلانه يعود إلى الرمز في القول الشعري، وهذا الجمع بين التقرير والإيحاء جعل شعره غير ذلول على من لم يكن في الأصل متأصلا في البيئة الصحراوية التي نشأ عليها الشاعر، ولم يكن ذا اطلاع واسع على الذخيرة المعرفية التي استند إليها الشاعر في تجربته الشعرية من قرآن كريم وسنة نبوية وسيرة نبوية وتصوف وشعر غربي وعربي...

 

تحبل قصائد الرباوي بالمعاناة والمكابدة، وهي بذلك تتزييى بسحنة رومانسية بالغة التفرد، إذ تعد لصيقة تجربة حياتية ومرآة عاكسة تنطبع فيها كل هموم الرباوي، وهذه التجربة الحياتية للشاعر تغدو وعيا جمعيا عندما تتعلق بالإنسان المقهور في هذا المغرب الأقصى الأقسى على أهله من المغرب غير النافع وغيره، وهذه التجربة المريرة عينها تجمع في طياتها، من خلال قصائد السي محمد، بين الأمل والألم، الألم ينطبع في الواقع الحقيق والأمل في الحلم، وكِلا الألم والأمل يصبان في قالب شعري يغديه الرمز الذي يعد مهمازا للبوح والتأسي والمكابدة بكل الحمولات الدلالية التي يتسم بها، وقد يترك الأمر لا يثني فيه عنان اللغة المباشرة والبوح بآهاته التي لا تنتهي، مكسرا بذلك جميع القيود  والطابوهات التي كانت تعتري مغرب الأمس.
يستعمل الرباوي الرمز استعمالات تتماشى مع تجربته الواقعية التي جعلها مهمازا لقول القصيد مما يخرق في غالب الأحيان أفق انتظار القارئ، فما تفتقت قريحته إلا لتكشف عن لواعجه التي كانت هجيراه وديدنه، فهو يعتمده ليس ترفا شعريا أو تشدقا كما يفعل كثير من الشعراء الذي يستلهمون تجارب غيرهم في القول الشعري، إذ نعيش معه اللحظة التي كان يحياها. إن الشعر عنده صورة بصرية توقف الزمن لتسترجع ذاكرة بل ذواكر قصية، أصبحت مكنون الذات الشاعرة وشيئا مهما من تكون الحياة النفسية للشاعر، هذه الحياة التي ملؤها اللواعج ما كانت لترصد بهذه الطريقة لولا استنادها إلى الرمز بما يستجيب وخصوصية التجربة المعيشية للرباوي.
إن السندباد الذي عرفناه في ألف ليلة وليلة رحالا سواء في البر أم في البحر، كان ديدنه الرئيس الوصول والعودة سالما غانما، بالرغم من العثرات والعراقيل التي يصادفها طيلة رحلاته العجيبة المليئة بالدهشة، حيث يعتورها الغريب والعجيب، وتجمع بين الخيالي والواقعي، الممكن والمستحيل.
نلفي سندباد الرباوي "السندباد المغربي" له خصوصيات تختلف عن المألوف في السندباد، مما يتناسب وخصوصيات التداول المغربي والوعي الجمعي الذي نشأ عن فترة تاريخية عرفتها الطفولة الكبرى للشاعر، تلك الخصوصيات التي تتراءى لي تجربة حياتية شاملة، فما يصوره الرباوي هو نسخة من نموذج عام، يمكن أن ندخل من خلاله عوالم طبيعة التنشئة الاجتماعية المختلفة التي طبعت الحياة الصحراوية القاسية بكل تمفصلاتها، أي كل ما يتعلق بالتربية الأسرية والعلاقة بين الأجيال وطبيعة النظر إلى العالم والأشياء وكلها تشكل عوالم بالغة الأهمية في تشكل الذات والوعي بها في الآن نفسه (تذكرنا بحفريات محمد عابد الجابري فالعوالم نفسها والنظرة الوجودية نفسها والحلم نفسه والآلام والآمال عينها).
إن هذه الخصوصيات التي عرفناها سالفا هي ما جعل سندباد الرباوي لا يصل، حيث أثرت التجربة الشعرية في الرمز بدلا من أن يؤثر هو فيها، فطبيعة الموضوع (المعاناة والمكابدة والشجن) تستوجب استعمال الرمز وفقا للتجربة الذاتية، أي عدم الوصول أو الرحيل أو الموت الذي لا راد لقضاء الله فيه:
يَقُولُ الْمُعَزُّونَ أَنْتَ خَلِيفَتُهُ
عَجَباً…أَلِأَنَّ مَلامِحَهُ ﭐنْطَبَعَتْ فِي مُحَيَّايَ
كَيْفَ أَكُونُ خَليفَةَ مَنْ
تِبْرُهُ يَنْتَهِي قَبْلَ أَنْ
يَنْتَهِي تِبْنُهُ وَأَنَا مَا أَزَالُ أَسِيرَ الْحَيَاةِ
صَرِيعَ الرَّصَاصِ
كَيْفَ أَكُونُ خَليفَةَ مَنْ
سَمِعَ الصَّوْتَ مَنْ
أَبْصَرَ الضَّوْءَ
وَهْوَ يُزَيِّنُ بُسْتَانَهُ بِسَوَاقِي الْحَيَاةِ الْجَمِيلَةِ
كَيْفَ أَكُونُ خَلِيفَتَهُ؟
كَيْفَ يَرْقَى إِلَى قَامَةِ النَّخْلَةِ الْبَقْلُ؟
كَيْفَ أَكُونُ خَلِيفَتَهُ ؟
كَيْفَ؟…آهْ
وَلَدِي..كُنْ أبِي
كُنْ أَبِي
أُمِّي..قُدَّامِي تَبْكِي                   (من قصيدة "من مكابدات السندباد المغربي"بتصرف)

لكن رغم هذا المصاب الجلل الذي ألم بالشاعر، إلا أن السندباد نفسه يحذوه الأمل المتمثل في الخلف، الذي سيجلو الحياة فيما بعد، لذلك كان من المعهود أن يسمى المرء بالخلافة أو الخليفة، بعد موت البطرييرك في الأسرة البطريركية الصحراوية  بالتعبير الاجتماعي، ومن تم فالشاعر في هذه المكابدة يرزح بين الألم والأمل، وهذه التجربة الذاتية نفسها نسخة من تجربة عامة إذ تجمع بين الذاتي والموضوعي لتصبح أزمة وطن لا يعرف رحمة لأبنائه المقهورين، وهذا ما يجعل رمز سندباد يجمع بين القهر والمكابدة في علاقته بالبلد والوطن الذي لا يحمي المقهورين من براثن الدهر:
هَلْ يَقْدِرُ مِسْكِينٌ فِي بَلَدِي
أَنْ يَدْفَعَ أُجْرَةَ حَفَّارِ القَبْرْ
هَلْ يَلْقَى مِسْكِينٌ مَقْهُورٌ فِي بَلَدِي
مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَالَ
لِيَرْمِيَ جُثَّتَهُ فِي جَوْفِ القَبْرْ
………………………….
أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ مُرّْ
يُدْفَنُ فِيهِ الْمِسْكِينُ بِهَذَا البَلَدِ الْمُرّْ
-إِنْ دَاهَمَهُ طَيْرُ الْمَوْتِ- بِلاَ أَكْفَانْ
مَنْ مِنْ أَهْلِي إِنْ فَاجَأَنِي الْمَوْتُ الْمُرّْ
قَدْ يَدْفَعُ عَنْ جَسَدِي الْمُرّْ
ثَمَنَ الْكَفَنِ الْمُرّْ
أَوْ ثَمَنَ القَبْرِ الْمُرّْ
يَا هَذَا الْمِسْكِينُ الْمَقْهُورُ
لَكَ الله.ُ.
لَكَ اللهُ..
لَكَ اللهُ                         (من قصيدة "من مكابدات السندباد المغربي"بتصرف)

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة