لا ريب بأن فن الكتابة هو أصدق مجال تتجلى فيه المشاعر والأحاسيس، والمواقف...، من منطلق أن الكلمات ليست أشياء، بل دلالة على أشياء، ومن ثم فإن الكاتب يبحث في الكلمات عن أفكار، وفي الأفكار يبحث عن معاني، وفي المعاني يبحث عن رؤى، وصور، وحقائق.
فالكاتب يتعرف أكثر وأعمق، عبر الكتابة الروائية، على الإحداث الاجتماعية.
فالرواية أداة للمعرفة العميقة، والجميلة..، إنها تجعلنا أكثر إدراكا، وإحساسا بكل ما حولنا.
فالكتابة الروائية تتيح للكاتب أن يتعرف على أحوال المجتمع بصورة أعمق،و تمكنه أن يقدم للقراء المعرفة الأصدق والأدق عن حجم الصراعات الاجتماعية وأبعداها وتشكلاتها، الأمر الذي يمكن القارئ من القدرة الإدراكية والتخيلية لاستشراف أو الإيحاء بكل ما قد يحدث من أحداث، نتيجة حركة الانتقال العاصفة من عصر إلى عصر.
إن التلازم وتبادل الخبرة والتأثير المتبادل بين الروائي والحياة والمجتمع، تجعل منه ممثلا لعصره وشاهدا عليه، كما تمكنه من خلق وعي جديد، من خلال وعيه بالعصر الذي يعيش فيه وإلمامه بالأفكار والتيارات والانجازات التي تحققت .
وبهذا الصد يقول "فان كنور" في كتابه أشكال الرواية الحديثة، "من أجل آن يكون الإنسان وفيا لفنه، يجب أن يكون وفيا لعصره".
إن الكاتب يضع، شخصيات أسطورية أو تاريخية، من وجهة العصر الذي يعيش فيه.. وهكذا لا يمكن عزل التقنية الروائية عن لحظة الكتابة التي تعالج الزمن التاريخي معالجة تبنى على الأنماط والأنساق الموجودة في العصر، أي وفق الزمن الثقافي الذي يعيش فيه الكاتب.
فالرواية إذن تسبر وتكشف، وتعكس المراحل الأكثر أهمية في حياة الشعوب، إنها المرآة التي يرى فيها الناس أنفسهم ويقرؤون أفكارهم، وأحلامهم، وطموحاتهم.
فاللغة مرآة البيان، كما يقول "الباقلاني"، وعمل الكاتب ينحصر في الأعراب عن المعاني الكامنة في القلوب والنفوس، مما يذهل، و يقلق أو يؤنس ويضحك أو يبكي ويحزن أو يفرح ويسكن أو يزعج أو يشجى ويطرب، ويهز الأعطاف، ويستميل الأسماع ويورث الأريحية والعزة.
إن الرواية تنمو وتزدهر، حين تعم المأساة، ويزيد الظلم ويقوي التناقص، في تلك اللحظات التاريخية تصبح الرواية لسان الناس والمرآة التي يرون فيها أنفسهم.
إنها تخاطب العقل والوجدان معا، وتتوجه إلى الإنسان لتعلمه، وتحرضه..
إن كل أداة من أدوات الفن تمتلك خصائصها، أي قوانينها وطريقتها، وتستطيع أن تساهم في خلق المناخ الملائم للتعبير.
وأهمية الرواية أنها مفتوحة ومتواصلة. مع الأدوات الأخرى فالرواية ليست شيئا سحريا أو دواء يشفي جميع الأمراض إنها لا تدعي ذلك ولا تريده ..(1)
كما أن أية رواية، لا تستطيع أن تصنع ثورة أو تغير مجتمعا هذه ليست مهمة الرواية..، (2) إنها فقط أداة جميلة للمعرفة والمتعة..
وستكون الرواية تاريخ الذين لا تاريخ لهم والذين يحملون معالم أفضل..
تتكلم الرواية وبجسارة عن الطغاة، وتفضح الجلادين، والقتلة والسماسرة.
إن الناس يطلبون تاريخهم من يد الفنان، وليس من يد المؤرخ... (3)
إن الرواية ليست مجرد توصيف لأحداث وشخوص، وإن العمل الروائي، ليس تنميقا لفظيا أو تجويدا إنشائيا، بل هو جهد فكري، وفني، وقدرة على تطويع الإشكال السردية، حتى تصبح قادرة على عكس الأغراض الملائمة، واستيعاب المشاعر الحقيقية...
ولا شك بان كلام المؤرخين عن طبائع الأمم قديم ومثله في القدم كلامهم عهن العلاقة بين طبائعها وآثارها الأدبية والثقافية، وقد كثر الكلام في هذه العلاقة بعد ظهور المباحث النفسية، واستفاضة النظر في علم النفس الاجتماعي.
والنقاد يذهبون في فهم طبائع الأمم عن فهم آدابها وتقافتها، ويذهبون تارة أخرى من فهم آدابها، وثقافتها إلى فهم طبائعها.. ويطيلون من أجل ذلك في بحث عناصر الأجناس أو بحث الأمزجة القومية على ضوء العقائد الموروثة، وعلى ضوء المقررات العلمية الحديثة..، ومهما تكن النتيجة فهم متفقون على صعوبة التطبيق، حيث تتعدد العناصر، وتمتزج في البيئة الواحدة(4)
وقد غلبت على الآداب الحديثة خصلتان ظاهرتان، أحداهما سيادة السنة العامة، في شؤون العقائد والأخلاق والأخرى خصلة التجربة العملية والاعتداد بالذات.
قد تجرى رعاية السنة العامة مع الاعتداد بالذات في اتجاه واحد أو يختلف الاتجاه مع تجارب الواقع، فذلك هو الصراع العنيف الذي تحسبه محور الصراع الأكبر في مشكلات الأدب ومعضلات النفس البشرية، كما تتمثل في الآداب الحديثة، قصة كانت أو مسرحية أو مذهبا، من مذاهب الفلسفة أو رأيا من آراء السلوك والأخلاق. (5)
إن الكتابات القصصية أنواع كثيرة منها الرواية ومنها الحكاية، والقصة القصيرة... والبديهي أن الفوارق بين هذه الأنواع لا يرجع إلى الطول أو القصر أو الإسهاب أو الإيجاز ولا إلى العناية بالأسلوب الأدبي أو قلة العناية بهذا الأسلوب..، فكل تلك الصفات قد تتشابه، فيها جميع هذه الأنواع..
إنما يرجع الاختلاف إلى فارق أصيل أجملته الكاتبة " ديش هوارتون" حيث قالت "إن الموقف هو الموضوع الغالب على القصة القصيرة وإن رسم الشخصية هو الموضوع الغالب على الرواية. (6)
القصة القصيرة لا تتسع لرسم شخصية كاملة أو عدة شخصيات كاملة من جميع جوانبها، ولا تتسع كذلك للحوادث الكثيرة التي لا تتم إلا مع التشعب والاستيفاء والإحاطة، بأحوال جملة من الناس، في مختلف المواقف والأحوال ولكنها، قد تعطينا لونا من ألوان الشخصية. كما تتمثل، في موقف، من المواقف، فنفهمها بالإيحاء، والاستنتاج، وقد تعرض لنا موضعا نفسيا أو موضعا اجتماعية، فيدل على ما تقدم دلالة الموقف والإيحاء. (7)
فالكتابة الروائية تمارس بما تقتضيه طبيعة موضوعاتها، وأن يكون بمقدور الموضوع أن يتيح للكاتب التعبير، عن قضايا الناس، والعصر، ورصد التطورات الاجتماعية بتلاوينها.
فالرواية الأوروبية، ما كانت، لتنشأ إلا في مرحلة، معينة، ولم تتطور إلا بتطور المجتمع، وتغير العلاقات فيه. (8)
إن الشخصيات، ليست مجرد، أقنعة للكاتب أو الراوي..
فالشخصية التي يخلقها الروائي، تكون متعددة الجوانب، وقد تظل ملتبسة، غنية الجوانب، ومعقدة التركيب، بحيث تحتمل العديد من القراءات، والتفاسير.. (9)
وليست أسماء الأماكن هي المهمة، بل ما يجرى في هذه الأماكن، ومدى الترابط بين المكان المرسوم في الرواية والأحداث التي تجري في هذا المكان.
أما موقف الكاتب السياسي أو الاجتماعي أو الإيديولوجي، فيظهر عبر المسار العام والمحصلة الكلية للعمل الفني..
إن القصة هي التعبير عن الحياة، بتفصيلاتها، وجزئياتها كما تمر في الزمن، ممثلة، في الحوادث الخارجية، والمشاعر الداخلية.
الحياة تتداخل فيها الأسباب والمسببات، وتتوالى فيها الحوادث والأحداث وكل حادثة هي جزء من حادثة أخرى أكبر منها، وكل غاية هي وسيلة إلى غاية، أشمل فتتبع سياقها، كما هي لا تنتهي إلى غاية معينة، نبصرها في جيل أو عدة أجيال.. (10)
ومن ثم فإن القصة اختيار وتنسيق لحادثة أو عدة حوادث تبدأ و تنتهي في زمن محدد، وتصور غاية معينة، وتساق جزئيتاتها لتؤدي إلى تصوير هذه الغاية، فليست إذن مجرد تسجيل لخط سير الزمن والحوادث ولا لتسجيل خواطر وانفعالاته بلا ترتيب ولا تنسيق.. هي أشبه شيء بالصورة الشمسية تلتقط لحظة خاصة، من سلسلة اللحظات الزمنية والحميمة والشعورية للإنسان، وللأشياء، وتفرزها عن سائر اللحظات الدائبة السير والتحول. (11)
كذلك تصنع القصة وهي تصور، فترة من الحياة بأحداثها، وقائعها والتنسيق هو العمل الفني، فيها وهو الذي يختلف فيه قصاص عن قصاص، وتتعدد فيه النماذج..
ويستوي في هذا التنسيق فترة واقعة بالفعل أو فترة ولدت في الخيال..، فالمهم هو طريقة التنسيق، بالتقديم والتأخير في الجزئيات، وبقيادة سير الحوادث والخوالج، لتؤدي إلى تصوير خاص لهذه الفترة، يفرزها، من شريط الزمن الذي لا يقف، ويضع لها طابعها، موسوما بنظرة صاحبها إلى الحياة... (12)
بالإضافة إلى الأسلوب الفني، فهناك عنصرا آخر له وزنه في القصة هو القيمة الشعورية.
هناك الأفاق الشعورية، التي يرتفع إليها الموضوع والتي تصور في ظلها الحوادث والشخصيات. هناك نوع من الإحساس بالحياة: حوادثها وأشخاصها ومصائرها وغاياتها هناك الزاوية التي يطل منها القصاص على هذا العالم والأشعة التي يراه على ضوئها. هناك المدى الذي يتعمق القصاص، في النفس الإنسانية وفي الحياة من حولها وفي الكون وما فيه..، ومن هنا تختلف الأفاق التي يبلغها القصاص.
وإذا كانت للقيم التعبيرية ـ طريقة العرض، وطريقة التعبيرـ قيمتها في تحديد قيمة القصة، ولكنها وحدها لا تستقل بالتقويم، ولابد من النظر إلى الآفاق الشعورية ومدى مطابقة القيم التعبيرية لها.. (13)
إن قوام كل عمل أدبي، هو مطابقة قيمه التعبيرية، لقيمه الشعورية، ومناسبة استخدام الأداة لطبيعة العمل الذي تستخدم فيه. واتجاهه. فالقصة تهدف إلى تصوير الحياة، في محيطها الطبيعي وفي هذا المحيط تختلف الأجواء، والحالات اللا شعورية. (14)
إن ما يميز الكتابة الروائية هو أنها تبحث عن أشياء خارج المضامين المعقلنة، بمعنى أن القصة هي مزيج من العناصر الخيالية.
والخيال هو تكوين صورة عن شيء أو شخص ليس حاضرا بالفعل، أي أنه يهدف إلى تكوين نسخة ثانية، من واقع محتمل. (15)
كما أن التخيل الخلاق يحاول الكشف عن المنطقة المجهولة، بمعنى أنه يقدم واقعا يتفق مع حقائق يراها حوله. إن دراسة تخيلات عدد من الكتاب، يمكن أن تكشف لنا عن الطريق التي، تفسر هذه الحقائق، بها وبصورة غير مباشرة، تكشف أيضا عن طبيعة ومضامين هذه الحقائق وكلما اتسعت دائرة الخيال انعدمت الدقة .. (16).
إن الخيال لا يعمل في فراغ وإنما يرتبط ارتباطا وثيقا بالدوافع السيكولوجية او بمشاكل الكتاب الشخصية .
إن وظيفة الخيال، بصورة اعتيادية هي أنه ينظر إلى المستقبل ليوسع الإدراك الحالي، حتى لا تعود هناك رابطة بين رؤياه وبين حياة الشخص المألوفة.. (17)
إن الخيال يثير الإرادة، عندما يرتبط بهدف مستقبلي وكلما ابتعد الهدف زادت قوة الخيال.
والفرق بين نوعيات الخيال هو الفرق بين الفنان، والإنسان العادي، فالفنان له القدرة على توليد كميات كبيرة من الوقود ويستخدمها لتوجيه الخيال.. (18)
يأخذ الخيال أشكالا متعددة إلا أن أهم تجلياته أو مظاهره هو الخيال المدرك صانع التصورات التي تخرج الإنسان من الروتين والسكونية وكذلك التأمل فهو أيضا نوع من الخيال، ووفوده هو الفضول الذهني وهناك إدراك يهدف إلى الامتداد بالزمن والأماكن، وأداته هي الذاكرة، التي تختزن كل أنواع المعرفة، في خلايا الدماغ، وهذه المعرفة تبقى ميتة ما لم ينيرها الإدراك (أي الخيال).
وإذا سلمنا بان الخيال هو محاولة الإنسان التحرر من القيود والسدود بحدود الزمان والمكان، وامتلاك القدرة والملكة الإدراكية الخصبة، التي تمكنه من التحليق في الأفاق الفسيحة بقصد الكشف عن حقائق الأشياء، وكل كشف بالضرورة يؤدي إلى تغيير.. (19)
وبالتالي فإن كل إدراك من ادراكاتنا مصحوب بالشعور، بأن الحقيقة الإنسانية ذات طبيعة كاشفة أي بها وحدها يتحقق الوجود.
وفي نفس السياق يمكن القول بأن الكتابة محاولة من المبدع أو الفنان كشف حقائق هذا العالم، لأن الأدب يساهم بالفعل في إيقاظ الضمير الجماعي.
وإذا توقفت أمة ما عن إنتاج الأدب(أدب حي ومتجدد) فإن ثقافتها سوف تتدهور ولغتها سوف تتحجر...
ويجب أن يكون مفهوما بالبداهة أن تصحيح الآداب هو في الحقيقة لا يقل عن تصحيح حياة الأمة، لأن تصحيح التعبير عن تلك الحياة، هو بمثابة خلق جديد للأمم...
إن الفن كما يقول "هيجل" لا يوجد من أجل قلة صغيرة منعمة بامتياز الثقافة، بل من أجل الأمة كلها.
ولا شك بأن هناك فجوة بين السياسة والثقافة، سوف تتسع ما لم تحصل مناقشة عميقة لإعادة فهم دور المثقف في المجتمع...
إن الأمور (كما يرى الأديب الراحل عبد الرحمن منيف) ستأخذ مسارا أكثر سلبية وضررا إذا لم تعط للثقافة دورها المكمل للسياسة البعيدة الأمد والتغييرية.
- الدور المعرفي التحريضي والسياسي...
الـهــوامــش:
1) عبد الرحمن منيف، الكاتب والمنفى ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر- طبعة: 3 ص: 42.
2) نفس المرجع، ص: 43
3) نفس المرجع، ص: 44
4) عباس محمود العقاد، ألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي، مكتبة الأنجيلو المصرية، الطبعة 2، ص: 2
5) المصدر السابق، ص: 4-5
6) المصدر السابق، ص: 12
7) المصدر السابق، ص: 13
8) الكاتب والمنفى، ص: 38
9) الكاتب والمنفى، ص: 20
10) سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الشروق الطبعة: 4/ 1980، ص: 73-74
11) المصدر السابق، ص: 74
12) المصدر السابق، ص: 74
13) المصدر السابق، ص: 77
14) المصدر السابق، ص: 80
15) كولن ولسون، المعقول واللامعقول في الأدب الحديث، ترجمة زكي حسن، دار الآداب – الطبعة 6/2001، ص: 5
16) المصدر السابق،ص: 23
17) المصدر السبق، ص: 237
18) المصدر السابق، ص: 238
19) المصدر السابق، ص: 240