سعدت كثيرا بالدعوة الكريمة التي تلقيتها من صديقي وأخي الفاضل الأستاذ محمد كروم، للمشاركة في أشغال ملتقى تارودانت الوطني للقصة القصيرة... وكيف لا أسعد وأنا مدين لهذه المدينة بأفضال كثيرة علي؟.. أجلها أنني تعلمت بين أسوارها وفي العرصات المجاورة لها كيف أخطو خطواتي الأولى الخجولة والمحتشمة وأنا أتهجى أبجديات الكتابة الأدبية والهم الإبداعي.. المدينة التي انطلقت منها أول مناظرة وطنية للثقافة في 1986، لتنخرط في صمت، ولكن بإصرار وتحد كبيرين، وبعزيمة لا يفلها إلا الحديد من قبل رجالات أمسكوا بأيديهم جمرة الإبداع، وساروا على خطا الأجداد في هذه الحاضرة التي يشهد لها التاريخ بالمجد والمكانة الرفيعة بين حواضر المغرب..
سأحاول في هذه المداخلة السريعة والمختصرة أن أقدم ـ كما طـُلب مني ـ قراءة في مجموعتين قصصيتين هما:"علاقة غير شرعية" لفاطمة الزهراء الرياض، و"أنوثة مدنسة" لهشام محمد العلوي.. إنها قراءة تنطلق أساسا من علاقتي بهذا المتن الحكائي، كقارئ ضمني أو مفترض يمارس شرط القراءة من خلال ميثاق الكتابة الذي يَعتبر القارئ عنصرا متواطئا في فعل الإبداع كلما توغل بين السطور، أو حاول ملء بياضات النص، وذلك استنادا إلى أن كل فعل إبداعي يظل غير مكتمل ما لم يحققه فعل القراءة..
عندما قرأت هاتين الأضمومتين قراءة أولى مستكشِفة، فوجئت بطريقتهما المختلفة في صياغة القصة القصيرة، حتى أوشكت أن أجزم أنني امام شكل تجريبي جديد من الكتابة القصصية تنفلت من التنميط، وتتأبى على التجنيس.. صياغة تجسد بالفعل الانتقال من قصة الحدث إلى قصة الحالة.. وعلى الرغم من أن لكل كاتب منهما أسلوبه الخاص في تشكيل معالم كتابته ورسم خطوط قصته، إلا أنهما يلتقيان مع ذلك في نقط ائتلاف أخرى تمثل ناظما مشتركا يمكن أن ننطلق منه لملامسة هذين العملين..
المجموعة الأولى"علاقة غير شرعية" تضم بين دفتيها ستة عشر نصا، بالإضافة إلى إهداء يمتزج فيه ما هو ذاتي بما هو موضوعي، وما هو نفسي بما هو اجتماعي، وما هو مقدس بما هم مدنس.. وقد استعارت عنوانها من إحدى القصص، بعدما تم حذف عبارة"مع الندم" من العنوان الأصلي.. صدرت هذه المجموعة عن دار الرحاب الحديثة بلبنان في طبعتها الأولى سنة2011، في مائة وسبع وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وهي طبعة أنيقة، مكتوبة بخط كبير في صفحات مؤطرة بعناية، وتزينها رسوم تخطيطية في مفتتح كل نص.. كما أن الغلاف باعتباره عتبة أولى يمنح للقارئ انطباعا ينسجم مع ما توحي به عبارة العنوان.. فلونه الأحمر ورقصة البالي المتوثبة لأنثى بتنورتها الحمراء كذلك، وقد تمنطقت بوردة حمراء، أو ربما انبثقت منها، كل ذلك يغرق القارئ في هذه الأجواء الإيروتيكة التي تفوح من عتبات هذه المجموعة..
المجموعة الثانية"أنوثة مدنسة"، يكونها أحد عشر نصا بعد إهداء غريب "إلى الذبابة التي تفوق مدينة أسفي أنوثة"، وتوطئة مغموسة في حبر الشعر.. والعنوان الذي تحمله المجموعة، لم يستعره المؤلف، سيرا على العادة المتبعة، من إحدى قصص المجموعة، بل جاء انفتاحا تناصيا مع بقية تلك القصص، فهو بمثابة الخيط الناظم بين نصوصها، والعلامة الدالة عليها، والمؤشر إلى أفق الانتظار الذي يتشكل لدى المتلقي.. صدرت هذه المجموعة في طبعتها الأولى شهر نونبر سنة2009 عن دار النشر SUD CONTACTفي أربع وسبعين صفحة من القطع المتوسط.. وتضعك الصورة التي تتوسط الغلاف في الفضاء/الإطار الذي ستجري فيه معظم الأحداث، مدا وجزرا، وتكشف لك ألوانه القزحية المختلفة عن أبعاد الشخصيات التي ستصادفها في دروب المجموعة ومنعرجاتها.. ويزحف اللون الأسود بقتامته على مساحة الغلاف ليترك للأنوثة المدنسة بقعة بيضاء، في أعالي الغلاف، تسبح في براثنها..
تشترك هاتان الأضمومتان في نقط التقاء عدة، وتختلفان بالطبع في أمور أخرى كثيرة، وسأقتصر من بين نقط الالتقاء على اثنتين فقط سيكون حولهما مدار حديثي في هذه المداخلة..
1 ـ اشتغال اللغة في المجموعتين:
النقطة الأولى ترتبط بالعنصر الأساس في كل عمل أدبي إبداعي، وهو الذي ينهض عليه ذلك العمل ويتشكل منه. إنه اللغة باعتبارها إنتاجا للفعل الكتابي.. فكيف اشتغلت اللغة في هذين العملين؟ وما دورها في تأثيث المشهد السردي في هذه النصوص القصصية؟ وما القيمة المضافة التي أكسبتها إياها؟
إن اللغة الموظفة في المجموعتين معا، لم تعد تؤدي وظيفة إبلاغية تواصلية فقط، بل انتقلت في إطار ما اصطلح عليه بكسر الحواجز بين الأجناس الأدبية، إلى أداء وظيفة بلاغية كذلك من خلال ما تحققه لدى المتلقي من تفاعل جمالي مع مكوناتها الدالية والدلالية.. لذلك تؤثث كثيرا من نصوص المجموعتين هذه اللغة ُالشعرية بحمولتها الإيحائية وبعدها الانزياحي، فتشحن المواقف المعبر عنها في القصص بدفقات عاطفية تزيدها توترا أو تلقي عليها ظلالا من السكينة والهدوء النفسي والعاطفي..
نقرأ مثلا في مفتتح نص"ثرثرة فوق جرح"(من"علاقة غير شرعية") ما يلي:"على ضفتي جرح غائر، تموج وتغلي حرقتي، وتتشفى في عمق دون بلسم، أمسح عنه غباء الحرقة وأنصت لعويله المندمل الممتد على خلاء جلد ميت... قميء أيا جرحي... وكم أنت شهي... حتى في حضورك المليء بالقيح والقبح فاتن.. أنت بريء ومغدور، ظالم حينما غزوت هذا القلب المسالم!"(ص41). هذا التشكيل اللغوي الذي ينفتح عليه النص يصبح مجموعة من العلامات التي تخص هذا الجرح، فترتسم أمام المتلقي صورته المؤلمة وحالته المؤثرة، فهو ممتد على ضفتين كأنه نهر هادر تموج فيه الحرقة والألم، غائر وعميق دون بلسم يشفيه، يئن من آلامه فيُسمع له عويل مندمل يمتد على خلاء الجلد الميت.. ولكي تكتمل صورة هذا الجرح يتلو هذا التوصيف العضوي له توصيف آخر نفسي، تجسده ثنائيات ضدية يبدو من خلالها ضحية وجلادا، محبوبا ومغضوبا عليه، فهو قميء وشهي، قبيح وفاتن، بريء وظالم.. إن الطريقة التي اشتغلت بها اللغة في هذا المقطع، وهي تقدم لحظة نفسية يغلب عليها الالم ويمزقها التردد بين متناقضين، ما هي في الحقيقة إلا تمهيد يهيء المتلقي لاستقبال هذه الحالة من التمزق النفسي الذي تعاني منه الشخصية الرئيسية في القصة بين الإقدام على حب شابه الغدر والطعن من الخلف، فتسبب في هذا الجرح الغائر، أو الإحجام عنه رغم ذكراه الجميلة.. حالة نفسية موزعة بين الندم على ما فات:"صدقتك كملايين المجنونات المتمسكات بقربان الوحدة،"(ص.42)، ومحاولة تبرير الذي حدث من خلال تحليلات فرويد النفسية:"صدقني فرويد، ضحك بأنياب الهو والآخر، وصرخ في وجهي منتفضا: أنتِ وهو آخران من عالمين منفصلين..."(ص.42). وانسدل ستار النص على هذا التناص الجميل:"فجُبن ألا تختار... كما قال نزار".(ص.44)
ومن مجموعة"أنوثة مدنسة" نقرأ في مستهل قصة"تأجيل" المهداة إلى مدينة أسفي المقطع التالي:
" تعال نكتب جرح البياض
تعال دلني على مصدر الموت
عندها سينزل أنبياء...
مدينتي يا رمز الأنوثة والسحر المتخثر، يا التي لا تتمنع أمام أي راغب. هذا منيري جاء يفر من ضرائب قيظ الصحراء، والمتابعة بجنحة حيازة أكثر من امرأة في محمل الذاكرة. جاء يلجأ إليكِ فلنتقاسمه معا."(ص.6)هكذا تتحدث"نهاد" بطلة هذه القصة عن لحظات ترقبها لوصول حبيبها منير، الهارب من قيظ الصحراء، والمحملة ذاكرته بأكثر من امرأة، إلى هذه المدينة، وتقبل أن تتقاسمه معها، وأن تقدم إليه كل الملذات التي تزخر بها هذه المدينة الحافلة بالأنوثة، حتى إذا أتخمته تولت هي البقية.. تشتغل اللغة في هذا المقطع، لا لترسم لحظة الترقب فقط، ولكن لتكشف حالة نفسية مشحونة برغبة جامحة في احتضان الحبيب، ومشاركته كتابة جرح البياض بما يرمز إليه من استعداد للمشاركة في ارتكاب فعل افتضاض بكارة هذا الحب العذري العفيف.. فكأن جرح البياض هنا هو اقتحام لستار هذا العالم المجهول الواعد باللذة وبالآلام كذلك.. مع ما قد يعنيه ذلك من اغتيال لطهرها وعفتها، ومن ثم دلالة لفظة الموت في قولها:"دلني على مصدر الموت".. فهي واعية بنتيجة عملها، وتدرك ما ينتظرها من محيطها الذي سيتحول إلى حشد من الأنبياء يلبسون ثوب الفضيلة ويتظاهرون بالعصمة والنقاء والصلاح.. إن اللغة في هذا المقطع شفافة لا تقف عند حدود اللحظة المحكية بل تتعداها بإيحاءاتها إلى تداعيات الترقب وما يتداخل معه من استحضار لذكريات سابقة، واستشفاف للحظات آتية في ارتباطها بأمكنة ترسخت في الوجدان، لأنها كانت شاهدة على أويقات سُرقت من الزمان، ومن أرخبيلات أعين المدينة المحاصِرة للعاشقيْن، كفضاء"ميموزا" مقهى الأحمر اللذيذ، حيث اضطر المنفلوطي إلى تعديل روايته"مجدولين" أكثر من مرة، وفندق"باريس"، المعادل للخيبة، بعدما اضطرت نهاد ومنير إلى تأجيل استعادة صداقتهما فيه، وأشياء أخرى لا يملكان منها إلا الحرمان حتى لقاء آخر.. ولو تصفحنا قصص المجموعة لوجدناها كلها حبلى بهذه اللغة الشعرية الجميلة، التي تتناغم بانسجام تام مع لغة سردية حاضرة بقوة أيضا، تتساكن معها، فتصبح امتدادا لها وتفسيرا لما ميزها من تكثيف واختزال.. بل إن بعض هذه القصص تشهد انسلال نصوص شعرية بين أطرافها، فتكسبها أبعادا جمالية، لأن اللغة فيها تغدو متحررة من كل قيد.. ألم يقل أدونيس:"إن الشعر يحرراللغة."؟ إنها بمثابة إشراقات تفتح في تلك القصص شقوقا تمنحها إضاءات تنير للقارئ جوانب معتمة من مشاعر الشخوص وحالاتها ومواقفها، كما في قصص:"مسرحية الإلهة"(ص.22).و"ذبابات ليلة الخيانة"(ص.37).و"تلك المرأة التي.."(ص.42). إنها لا تشكل نصوصا معزولة عن النص الأصلي أو خارجة عليه، بل تتعالق معه عضويا وتصير جزءا منه، ينتقل القارئ منها وإليها بسلاسة وتلقائية كما تنتقل النحلة من زهرة إلى أخرى، ومن رحيق إلى آخر..
2 بؤس النموذج الأنثوي.
النقطة الثانية ننظر فيها إلى طبيعة الرؤية السائدة في هاتين المجموعتين، ولاسيما الثيمة الأساسية التي اشتغلت عليها كل نصوصها، دون استثناء، وهي ثيمة الأنثى في علاقتها بالطرف الآخر الذكر.. علاقة ميزها دائما نوع من التوتر والقلق والاستغلال المتوحش.. أنثى عانت في طفولتها كل أنواع الكبت والقمع والسلطة، وقوبلت كل محاولة منها لاكتشاف العوالم الخارجية بقمع أشد، تقول بطلة"رحيل كارمن" وقد فاجأها أبوها متلبسة بجرم تمزيق الحجب التي تفصلها عن العالم الخارجي والتطلع إلى أضوائه:"جال بي أبي أرجاء المنزل كمكنسة، يحوم بي وأنا أطير فرحة بالألوان التي رأيت."(ص.12/علاقة غير شرعية). إن هذه اللقطة المعبرة تأتي وكأنها تفسير لما سنصادفه من علاقات متوترة بين الأنثى وعالمها الخارجي، مختزلا في الرجل.. أليست القصة القصيرة بحثا دائما عن شيء مفقود في الطفولة، أو في زمان ومكان ما؟ لذلك تتناسل عبر بقية النصوص صور متلاحقة لأنثى سلبية، دائمة الانتظار، مسكونة به حد الموت:
ـ"أنتظرك كاليتيمة الباردة لتأخذني بدفء ٍ يداك لبيت الحكمة".(حديث سري جدا/علاقة غير شرعية ـ ص.19).
ـ"متورطة فيك وأدري
ليس لي مهن.. غير الانتظار
ومن سواي ينتظر؟
فحبيبي... الانتظار هواياتي."(أصحاب سوابق/علاقة غير شرعية ـ ص.37).
ـ"كالمزار كان معلقا ذلك الأمل المستحي تميمة'"عتيقة"، أصنع من بضع حروفك نبيذا يسكرني إلى حين".(ثرثرة فوق جرح/علاقة غير شرعية ـ ص. 42).
ـ"الانتظار شريط متسع من الأماني المعبدة تحاصر قطاع الطرق الآتية لحفل يزهو بك وبي ويجهض موؤودات أحلامهن..."(عروس الهلال الخصيب/علاقة غير شرعية ـ ص. 78).
ـ"تزجرها الوحدة وتنتظر قافلة الفرح لتتأبط معه ذاكرة كروية..."(طفلة"تصغر"كلما كبرت/علاقة غير شرعية ـ ص. 102).
ـ"ها أنا في الشارع لقيطة ًمرة أخرى، أستعيد تلك الأجنحة التي أقرضَتها لي حروفك المضاعفة.. أنتظرها تحت وطء رحمتها..." (طلقها عزرائيل ثلاثا/علاقة غير شرعية ـ ص. 106).
ـ"مذكرة كتب عليها بخط بارز:"اليوم آخر أجل، إن لم يصل الزائر الأحمر، فستكون مشكلة حقيقية!"(الجامعة/أنوثة مدنسة ـ ص.10).
ـ"لم تستطع أن تميز ما إذا زارها حقا الأحمر الذي انتظرت بشوق أن يسيل، أم أنها حبلى فعلا.."(نفسها ـ ص.12)
ـ"زهراء أنثى وحيدة، جلوسها في مقهى يشد الانتباه، تتبادل النظرات مع ساعتها اليدوية وبابتسامة مبللة بالانتظار تبدو."(استحضار/أنوثة مدنسة ـ ص. 15)
ـ"ككل يوم، ما زلتُ أنتظر حضوره محمّلا بالسكر وأمه..."(نفسها).
ـ"تحاول إعادة إعمار أو حتى ترميم ما دمره زوج الانتظار والحرارة في جسمها وثيابها..."(درس ملاحظة/أنوثة مدنسة ـ ص. 19).
ـ"رتبت نفسها ثم ما أسمته غرفتها. فعادت إلى الدرس والتجسس على القادم الجديد... فعادت لتزاول درس الانتظار والحيرة.."(درس ملاحظة/أنوثة مدنسة ـ ص.19).
ـ"غشاوة الأحمر اللذيذ غطت بصيرتها إلى أن تجاوزت كل جبال الانتظار... ظل قطار العمر يمخر عباب الصحراء دون أن يلتفت إليها. هي المنتظرة في محطته..."(ذبابات ليلة الخيانة/أنوثة مدنسة ـ ص. 38).
ـ"وتسع وثلاثون سنة من الانتظار."(تلك المرأة التي../أنوثة مدنسة ـ ص.44).
ـ"استفاقت باكرا وحاولت أن تجد شيئا تداري به شوقها ولهفها إليه.(نفسها ـ ص. 50).
ـ"أمهلته عمرا آخر."(فصول/أنوثة مدنسة ـ ص. 63).
"ذلك المجيء الذي أبدا لن يأتي.(سيدة الاطمئنان/أنوثة مدنسة ـ ص.69).
تمثل حالة الانتظار بكل ما تحمله من سلبية وعجز قاسما مشتركا بين شخصيات هاتين المجموعتين.. كلهن إناث ينخر الانتظار عمرهن، ويعذبهن ترقب ذلك المنفلت من لحظة المجيء.. ذلك الحب الذكري الجديد الذي يدوس بقامته وعضلاته وصوته الأبكم مقامها العالي، كما تقر الأنثى في"ثرثرة فوق جرح"(ص. 44).
وبينما تقدم لنا المجموعتان صورة أنثى محطمة، منكسرة، فاقدة لبوصلة الحياة، تطالعنا بالمقابل صورة مناقضة تماما للذكر الوسيم والأنيق والمهاب:
ـ"وأنا، أنا، بكل ما عليه من شموخ ووسامة... أوليس بربكم من شيمة الرجال الهيبة؟؟(علاقة غير شرعية مع الندم/علاقة غير شرعية ـ ص. 55).
ـ"فأنا أراك حزينا رغم تلك الوسامة المحنطة... وأنيقا دون ملابس معلبة...(إلى رجل... ينتظرني/علاقة غير شرعية ـ ص.93).
ـ"رجل ستيني أنيق..."(تلك المرأة التي../أنوثة مدنسة ـ ص.'').
ـ"أبيض ممشوق، بقامة تعلوها تيمات الغدر."(رجاء/أنوثة مدنسة ـ ص.55).
ـ"شاب في مقتبل العمر يقف منتصبا كبطل أسطوري."(سيدة الاطمئنان/أنوثة مدنسة ـ ص.68).
ـ"شاب وسيم كوادي أبي رقراق."(نفسها ـ ص.69).
وهل هو مجرد مصادفة أن يكون الزوج في أكثر من نص شرطيا، بكل ما يحيل عليه من قمع وسلطة وتعذيب، وكل ما يمكن أن يترتب عن العلاقة معه من إرهاب نفسي وخوف دائم؟
ـ"وصل زوجها الشرطي كبرقية مستعجلة."(ذبابات ليلة الخيانة/أنوثة مدنسة ـ ص.39).
ـ"تطمئن إلى أن حزامه الناسف أو الأمني أو الشبيه بذلك المستعمل من طرف الشيخات مربوط بعنف باهت ويتيم على خصره."(سيدة الاطمئنان/أنوثة مدنسة ـ ص. 65).
علاقة التوتر هذه بين الأنثى والذكر لا يمكن أن تفرز إلا نموذجا معطوبا للمرأة، تؤثث شبابها، وتتلمس ما تبقى من أنوثتها، وتربط حزام السلامة حتى لا يباغتها الندم، وتبقى مستيقظة العمر كله، وتحاول إعادة إعمار أو حتى ترميم ما دمره زوج الانتظار.. فكأن كل أنثى تحمل في ذاتها بذرة انحراف، لأنها عندما تكون بهذه النفسية المدمرة والمشاعر المحطمة تنساق بسهولة إلى حمأة الرذيلة، وتسقط في براثن الغواية.. قالت رجاء المعلمة العرضية:"ككثيرات هكذا أنا، ذبابة من مدرسة الحاجة والفقر تخرجت حاملة لشهادة دعارة. دبلوم الجسد بميزة حسن كان كافيا لثقب حفائظ الغرباء، علـّي أحصل منهم على كسرة خبز تسد رمق أسرة خلفي، أسرة تنتظر وجبة عشاء بعد أن خاب رجاؤها في حكومة بلادها."(رجاء/أنوثة مدنسة ـ ص.54). مصير تهوي إلى قراره كل أنثى بتلك المواصفات،"فيا أيتها الأرض امضي، لا تحفظي ما عليك.. وأفصحي عن امرأة واحدة لم تتورّط، سحلية واحدة بدون قرط..."(توطئة/أنوثة مدنسة ـ ص.4) لا فرق في ذلك بين الأمية والمثقفة، والبدوية والحضرية:"جربتهن بدياناتهن الثلاث، لا فرق عندي بين البيضاء والسمراء، لا أمية ولا مفكرة، كلهن سواء.. الجسد الجسد.."(علاقة غير شرعية مع الندم/علاقة غير شرعية ـ ص. 57)
صورة قاتمة وبائسة لوضعية مزرية، كانت تنبئ بها الصيغتان الموحيتان للعنوانين:"علاقة غير شرعية"، و"أنوثة مدنسة"... فهل هي توارد خواطر ووقع الحافر على الحافر، أم أن صورة الواقع الفعلي وتمثلات الكاتبين عنها هي التي تشي بهذه المآسي التي نكاد نفجع بها كل حين، فلم يستطع الكاتبان الانفلات من تأثيرها، فغمسا من مدادها، ورشفا من كؤوسها، ليرسما واقعا مدنسا، كل علاقة فيه تبدو غير شرعية، لانعدام شروط التوازن التي تحقق لطرفيها الانخراط في حياة طبيعية وهادئة لا مجال فيها للمدنس وغير الشرعي؟... ولماذا غابت أوغـُيِّبت نماذج المرأة الشريفة والطاهرة، الكادحة والعاملة والفاعلة في الحياة الاجتماعية والمنتجة في الاقتصاد والمبدعة في الفكر والفن والثقافة؟ وحتى إن حضرت فإن حضورها كان باهتا، وذاب وسط هذه النماذج المدنسة التي غلبت على المجموعتين..
ملتقى تارودانت الوطني للقصة القصيرة.(11/12 ماي 2012)
المصطفى السهلي
* "علاقة غير شرعية"(مجموعة قصصية) ـ فاطمة الزهراء الرياض ـ مؤسسة الرحاب الحديثة ـ بيروت ـ ط. 1ـ 2011 ـ
**"أنوثة مدنسة"(قصص) ـ هشام محمد العلوي ـ الناشر:SUD CONTACT ـ ط.1ـ نونبرـ 2009 ـ