الحرب الطائفية جمر تحت الرماد : رواية "بيروت حب وحرب" لأكرم خلف عراق ـ موسى إبراهيم أبو رياش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

beirutالحرب الطائفية حرب مجنونة عمياء، فكل إنسان مشروع قتيل، فالرصاصة التي تنطلق لا تتأكد من هوية الضحية قبل أن ترديه قتيلاً.
تناولت رواية "بيروت حب وحرب" الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وما زالت تداعياتها وآثارها تنخر لبنان، وتهدد بانفجار جديد بين لحظة وأخرى.
موضوع الرواية ليس جديداً، ولكن الجديد أن يكتبها أردني لم يعش في لبنان، ولم يشهد تلك الحرب اللعينة، كما لو أنه أحد ضحاياها. ولا عجب فهذه الرواية هي نتاج معاناة عربي يتوجع من أجل لبنان، وينزف جرحه بغزارة كلما ألمَّ بلبنان خطب، فالجرح العربي واحد، وخاصة إذا كان يتعلق ببلد كان يوماً قبلة كل العرب، ومنارة للحرية والحب والسلام، فجرح لبنان يتسع على المدى من المحيط إلى الخليج. ويشير أكرم عراق إلى أنَّ 14 شباط 2005 اليوم الأسود الذي اغتيل فيه رفيق الحريري، والمشاهد المأساوية التي رافقت اللحظات الأولى للانفجار، هي الشرارة التي أشعلت لهيب الكتابة من أجل لبنان وشعب لبنان.


الجنرال فريد دوريل، أحد قادة المليشيات كان النموذج البشع لقذارة الحرب الطائفية، فقد كان قناصاً محترفاًَ، يصوب رصاصه الأعمى تجاه كل متحرك، فكان أخوه سامر أحد ضحاياه دون أن يدري. وبلغ من وحشيته أنه احتفظ بمئات الصور التي تسجل جرائمه، مفتخراً بما سفكت يداه. ومن سخرية القدر أن تكون هذه الصور هي دليل إدانته من قبل المجتمع الذي استفظع ما اقترفت يداه، وكانت أيضاً دليل الكشف عن قاتلته.
عنوان الرواية "بيروت حب وحرب" يلخص مضمون الرواية:
بيروت: هي الفضاء المكاني للرواية، فجميع أحداثها وقعت فيها، لأنَّ بيروت تختصر كل الوجع اللبناني، وفي الذاكرة العربية هي أيقونة الجمال والحب والتمدن والسلام والحرية والأدب والفن والفكر والبحر.
حب: ما خُلقت بيروت إلا للحب والجمال، ولذا كان قدر أكرم أن يقع أسير الحب ثلاث مرات، لكأن الحب قدر كل من يقيم في بيروت. المرة الأولى أحب نجلاء وتزوجها ثم طلقها، بعد أن استحالت الحياة معها؛ لمرض نفسي أصابها. والحب الثاني كان لفرح شقيقة فريد دوريل وتزوجها، وما لبث أن طلقها مكرهاً. والحب الثالث كان لحياة، هذه التي أنقذها وعمرها ثلاث سنوات من تحت أنقاض دمار في بيروت سنة 1983م، وكان لها فضل انقاذه من حبل المشنقة بتهمة قتل فريد دوريل عندما كشفت عن القاتل الحقيقي. وهكذا فإنَّ أكرم كان ضحية للجنرال فريد عندما أُتهم بقتلة، وساعدت الظروف المحيطة والتاريخ من العداء السافر بينهما على اتهامه. كما أن زوجته الأولى كانت ضحية لفريد الذي اغتصب وقتل أسرتها، والثانية اضطر لفراقها تحت ضغط فريد، كما أنَّ حياة كادت أن تكون ضحية للحرب لولا عناية الله التي أنقذتها على يد أكرم.
حرب: عندما تسْودُّ القلوب وتُعمى البصائر، تنقلب إلى أداة عمياء تطمس كل جميل، وتغلق كل نافذة للنور، وتقضي على الحياة. ولذلك تحولت بيروت إلى ميدان لحرب دموية بين الأخ وأخيه، والجار وجاره. حرب أشعلتها نيران الحقد، وأججتها أعاصير الطائفية. وتحول جنرالات القتل، غربان الليل وخفافيشها، إلى سادة بيروت وقادتها، وعلى رأسهم فريد دوريل، الذي كان لا يتقن إلا لغة القتل والتدمير، وكل متحرك عدو له إلا أن يثبت العكس، ولكن بعد فوات الأوان.
جرائم فريد دوريل مثال على بشاعة الحرب الأهلية، وما سببته من آلام وويلات. وعندما انتهت الحرب، كان لا بدَّ أن يُعلن توبته مضطراً، ولكن هيهات هيهات، فآلاف الضحايا تطالبه بالقصاص، ولا توبة دون أداء الحقوق إلى أصحابها، ولن ينجو مجرم بفعلته، فأرواح الضحايا تحوم في المكان إلا أن يُقتصَّ لها. فكان مقتله على يد زوجته التي اكتشفت بعد عشرة طويلة أنه قاتل أبيها.
وهذا يؤكد أنَّ مصافحة السفاح، وإن تاب شكلاً أو قهراً، تلوث اليد النظيفة، لأنه يجيرها لتبييض تاريخه الأسود، وربما لتكون ستاراً لوجبة جديدة وشكل جديد من الطائفية. رجل السياسة يخاف رجل القلم فيداريه، ولكن رجل الحرب يسعى لأن يدوس رجل القلم ويجرده من سلاحه، أو يضعه تحت سيطرته ليتحول إلى أداة من أدواته.
ولا صحة في أتون الحرب الأهلية لمقولة: "إما أن تكون قاتلاً أو مقتولاً"، فأكرم الذي امتشق سلاح القلم، لم يهادن، ولم يحمل سلاحاً قاتلاً، واستطاع أن يؤدي رسالته بقوة ونظافة، وأن يكسب احترام الجميع وتقديرهم. وكان مصدر رعب لمن تورطوا في الحرب الأهلية، لأنه فضح عوارهم ودمويتهم.
لغة الرواية لغة متفجرة بالصور الشعرية، حيث نجح أكرم عراق في توظيف المفردة الشعرية بجمالياتها وصورها واستعاراتها وبلاغتها في السرد الروائي الممتع الذي يشد القارئ بغواية اللغة وألقها، وقد استطاع أن يحلق بالمفردة اللغوية إلى آفاق ومعان جديدة عندما سكبها في تراكيب مدهشة تثير الإعجاب، من مثل: توابيت الفشل، الزنا السياسي، طيور الأحزان، فناجين الأهداب، مراحيض الطائفية، شجر الكآبة، بجع المخيلة، محار الكلمات، جسد الكتابة، الذاكرة المكسورة، مآذن المحبة، أشرعة العمر الممزقة، ... الخ.
وعندما يأخذنا أكرم عراق بروايته "بيروت حب وحرب" في هذه الجولة المؤلمة لواقع أشد إيلاماً، فإنه إنما يحذر من مستقبل قد يكون أشد ضراوة. وهذا ما يسعى له البعض لتنفيذ مخططات قذرة في لبنان وغيرها، ولكن وعي اللبنانيين، وخاصة الجيل الذي ولد تحت القصف، وأزيز الرصاص، هو الذي يحول دون ذلك بعزيمة وإصرار. لأنَّ وجه لبنان الجميل الذي تلطخ بقذارة الحرب ودماملها مرَّة، لا يحق لأحد أن يلطخه مرة أخرى. والرهان فقط على اللبنانيين دون غيرهم، لأنهم رسل محبة، وسفراء جمال، ورهبان أدب وفكر.
وبعد، فإنَّ "بيروت حب وحرب" تصنف نقدياً بأنها "رواية الرواية" وهي الرواية التي يعرفها د. حكمت النوايسة بأنها " التي نعرف كاتبها من خلال تخطيبها وتخطيطها، والرواية التي بات كاتبها يكتب عنها داخلها ... ، ويكتب اسمه كاملاً من غير نقص بين صفحات الرواية، أو يلمّح إليه تلميحاً لا يشير إلى غيره". وهي رواية تستحق الوقوف عندها طويلاً، لموضوعها الذي ما زال حياً رغم عشرات السنين، ولجرأة كاتبها على اختراق آفاق لا يحلق فيها إلا المبدعون!

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة