مظفر النواب : شتائم ما بعد النقمة ـ د. حسين سرمك حسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

modaffare-nowabe2في مطوّلته "حجام البريس" يقول النوّاب :
((أبوس إيد اللي يسگي الناس
  ويحمّل تمر ، وسلاح ، ورصاص
                             بشرايعها
أبوس إيد اليشيل البرنو الزبنية
          بطرگ ثوبه ،
                            وأبايعها ...))
ومن هنا نكون قد دخلنا ساحة الاحتدام الحقيقية . وتكون الإشارة هو عدم تكرار حرف الروي – الياء ، بعد هذا الموضع ،  أبدا . هنا تظهر احترافية مظفر " الحروفية " العالية . فحين يكون الإنفعال صاخبا يستخدم الشاعر العين كحرف روي :
أواكح چني ...................... ومگطوعة أصابعها
أو :
أبوس ايد ......................... ورصاص بشرايعها
أو :
أبوس اليشيل البرنو....................... وابايعها
ولكن حين يكون الخطاب مظهرا لعملية تماه مع الأرض الأم نجده أكثر غنائية واسترخاء :
واشمّس روحي بالسنبل .................... يسگيها
أشوغ ويه الشمس ..........................ابنباعيها
مكتوب ابلاويها
 اتحفر بيه مساحيها


ولا تضفي مفردات  مثل (البلاوي) و(المساحي) أي لمسة صارمة على الصورة الشعرية .. فهي أشبه بهمسة عتاب ممتدة تفرضها العلاقة المازوخية الحيية للشاعر بأرضه . أما حين يُستفز وجدان الشاعر وتضج النقمة الممزوجة بالحيرة في أعماقه فإن وقفة القافية الأخيرة تأتي وكأنها تهديد ممزوج بنفاد صبر صارخ . يتضح هذا عند تحوله من بيتي التمني المعطل للمنقذ البطل الذي يحمل التمر والرصاص والبرنو (البندقية) الأصيلة إلى بيتي الأسف الممض على أرضه المستلبة التي يمهد لحالة استلابها بالحالة النقيض التي تؤججها أكثر - وهي من السمات الأسلوبية للنواب - حيث يهيئنا باستذكار جمال مرابعها .. وبتاريخها المقاوم العنيد . يفتتح البيتين بزفرة أسف حارقة تنبثق من أعماق روحه الآسية ممثلة بمفردة (أفه) المنطلقة مع الزفير المستنكر :
(( أفه يا گاعنه ! الوكحة
       حلاة الليل ، واهل الليل
       والنار ..     
                          ابمرابعها
   أفه يا گاعنه !
          السحگتها
                  وانسحگت عليها
                         جيوش يا بو جيوش
                         وما بدلت طبايعها ..))
وتستمر زفرة الأسى الحارقة والشاعر يقارن بالواقع النقيض الذي يهز بهاء  الذكرى ويمزقها. فالمرابع الساحرة العامرة بالرخاء والدفء والجمال استبيحت من قبل أكثر الكائنات جبنا ، أما الإرادة الحديدية التي دوّخت التاريخ ؛ إرادة الأرض التي ابتلعت الغزاة بألوانهم وأشكالهم كافة ومهما كانت درجات جبروتهم ، ابتلعتهم وظلت محافظة على أصالتها ، لكنها الآن تواجه أحقر المصائر ، عروس تُهتك أستار عرضها من قبل أكثر الوحوش انحطاطا .. وفي الذاكرة الشعبية فإن أبشع مصير ينتظر العروس هو أن يكون عريسها معروفا بغدره المسبق وانعدام وفائه :
(( أفه يا گاع !
ينبت بيچ للواوي عنب
      يا طيبة
             ويعرّس عليچ الذيب ! ))                                                                                                   وهو يسرّب نداء طيبة أرضه بين صورتين مذلتين مريرتين وكأنه يوفر عذرا منكسرا لذاته من أوصاف الامتهان المؤذي التي لحقت بمحبوبته . وحرقة روح مظفر اللائبة مركبة تنبع من ازدواج حاله كشاعر وكمناضل . هذا الازدواج الذي يمعن البعض في إيهامنا من خلاله بخدعة أن المناضل شاعر على طريقته الخاصة . على العكس من هذه الأطروحة الخادعة فإن حسابات الشاعر تقف بالضد من حسابات المناضل ، أبدا ولا تكملها . إن أخطر السمات التي تشكل مصيدة مهلكة للمناضل أن يتمتع بحسابات شاعر ( هكذا انتحر جيفارا ) . ولهذا تتحطم مشروعات الثوار الشرقيين رغم كل عظمتها ، في حين تنجح مشروعات رجال الدولة بمختلف ألوانهم رغم أنها ذات طبيعة أرضية ماكرة ومدمرة وذلك لأنهم يفصلون الحس الشعري عن الدهاء السياسي . مظفر نفسه ورفاقه خسروا حلمهم كمناضلين لأنهم قاموا في الواقع بثورة شيوعية شعرية مسلحة .. هذا يؤكد لنا أن مظفر قد ولد للشعر ، إنه منذور لمذبح الشعر ، سالت دماؤه عليه حتى عندما كان ينشط في السياسة . وها هو يوظّف مهاراته النضالية - نشاطات الـ (underground) السرّية ومصطلحاتها الحركية في تصوير محنته الدامية وانهمامه في سبيل إنقاذ أرضه المقدسة ؛ السراديب - وقد فرّ مع رفاقه عبر النفق الوحيد في تاريخ الهروب السياسي العراقي - والشطر الأحمر والحزب والخائن والخيانة وأسماء الأبطال البسطاء والشرطة والحوشية .. و .. و ... من أجل خدمة الحياة شعريا لا سياسيا . وهنا يفترق الشعر عن السياسة ؛ السياسي وأشرف صوره هو المناضل الثوري لا يؤمن بالمجاز ويجب عليه ذلك من أجل سلامة حساباته التي ينبغي أن تكون دقيقة ومضبوطة النتائج . أي حماسة مجازية تكلف خسائر جسيمة في الأعمار والآمال والأحلام والدماء . في التعبيرات المجازية مقتل المناضلين ، لكن المناضلين العراقيين – لأنهم يتسلحون برؤى وأرواح العشاق أولا ، ولأنهم من سلالات شعرية منذ فجر التاريخ ثانيا – نجدهم يحيون في المجاز، ولهذا تتكسر أحلامهم الهشة على صخرة السياسة المسننة . يتضح هذا الفارق الشاسع في الأوصاف السيئة ، في الشتائم التي يستخدمها الشاعر لتأجيج النقمة المعاكسة :             
(( أمد صبري اعله صبرچ ، واحفر سراديب
   لو صرتي زبل ، من زود المزبلين
   لو داروا عليچ سيان طينتهم ،
                        يا حلوه
                                سنين  ))
ومن المؤسف أن شتائم مظفر والأوصاف البذيئة والأفعال التحرّشية لم تحض بوقفات نقدية متأنية . وقد عجبت ذات مرّة حين قرأت إدانات بعض النقاد والسياسيين لشتائم الشاعر التي ترد في نصوصه . يقولون : لا يجوز للشاعر أن يستخدم التعبيرات البذيئة في المجتمع العربي الذي تشكل ثقافته وسلوكه قيم دينية واجتماعية معروفة . لكنني أسأل : هل هناك شيء غير بذيء في الحياة العربية ؟ هل يوجد عهر داعر يفوق عهر السياسة العربية ؟ يصفون السياسيين بأنهم مثل العاهرات ، وهذا ظلم فادح نوقعه على العاهرات . المومس تقدّم لك لذة محسوبة مقابل المال . وأحيانا تمنحك فوق ما كنت تنتظر من نشوة ورعاية . وقد تتعاطف مع همومك في استجابة أمومية تصل أعظم تجلياتها في ما اصطلح عليه بوصف " المومس الفاضلة " المأخوذ عن " جان بول سارتر " . لكن ما هي اللذة التي يقدمها لنا السياسي الداعر؟. إنه يحطم مستقبلك ومستقبل أطفالك ويسحق مقدرات وطنك وينهب ثروات شعبك دون أن يقدم شيئا مقابل ذلك ، وبذلك فهو أحط من المومسات عهرا ! . ولكن لشتائم مظفر جذرا آخر نفسيا غائرا غفل عنه الكثيرون من النقاد ويتعلق باللعب المصلحي – النفسي - المتبادل بين الشاعر والمتلقي . فللشاعر فوق الضرورات الفكرية والنضالية لهذا السلوك الشعري هناك ضرورة إبداعية . إنها نتاج عجز اللغة الشعرية التقليدية عن تجسيد حالة (ما بعد النقمة) . إنه العي الذي ينتابنا حين تجتاحنا حالات أقصى الغضب .. فنصمت . إن هذه الشتائم هي في الواقع أقصى الصمت ، وهي الوجه الآخر لبلاغته . وهناك ناحية أخرى ، فمن خلال متابعة النمو النفسي للطفل نجده يحصل على لذة كبرى حين يحوز على اللغة . إنها الأداة الأعظم التي تعزز شعوره بالقدرة الكلية -omnipotence ، يقول للشيء كن فيكون ، وبدل الصراخ المضني الذي قد لا يتبعه حضور موضوع الرغبة - الأم  ، أصبح هذا الموضوع (تخلقه) الكلمة البسيطة وتتسبب في حضوره بلا عناء . هنا تتجلى أول تمظهرات سحر اللغة الآسر . لكن بعد أن نكبر وننضج وندرك الطبيعة القامعة للحياة الاجتماعية وكيف أنها لا تخضع للرغبة ولا لفعل اللغة ، تفقد اللغة سحرها ولا يبقى منه سوى المفردات والصياغات التي ترتبط  بالمجازات الشعرية وعبارات التجديف والشتائم والكلمات البذيئة . هذه فقط تعيد للغة دهشتها الطفلية الأولى . ولعل هذا هو القاسم المشترك الذي يجعل طرفي العملية الإبداعية ؛ الشاعر والمتلقي ، يجدان لذة كبرى في الشتائم الشعرية ويتصافقان عليها في اتفاق غير معلن . لكن الأوصاف السوقية في ذينك البيتين لهما ميزة إجرائية مضافة ، فهما يعبران عن الولاء ، بل عن (ما بعد الولاء) . فالتعلق بالمحبوب يتصاعد كلما ازداد بهاء المحبوب وألقه . هذا ديدن العاشقين عبر العصور وهي القاعدة الحاكمة الأثيرة ولا استثناء خادعا لها في الولاء للمحبوب بعد انهياره أو مرضه أو هلاكه ، لأن هذا مسبوق بالصورة الباذخة له والإشباع المتحصل قبل الحالة السلبية ، هذه هي حالة الحب التقليدية . لكن مظفر يعيش وضعا متفردا ومختلفا ، إنه متلبس بحالة "ما بعد الحب" العجيبة . هنا ينمو الولاء بدرجة أشد في حالة انكسار المحبوب ليس لأن صورة العودة الصحية المختزنة هي الأساس المرجعي المشبع من قبل ، فقد فتح مظفر عينيه على الحياة وأرضه ترزح مُذلّة تحت أكوام تاريخية من أزبال الطغاة (المُزبِّلين) ومختنقة الأنفاس بفعل (سيان) طين الاضطهاد والحرمان والموت والخراب  ، إن البهاء يستعر حين تتراكم على المحبوب الفضلات الخانقة ، لأن الصورة مشتقة أساسا من صورة الرمز الأمومي المبارك المطبوع كوشم فرعوني على صفحات الوجدان . في أغنية للمطرب الريفي "ناصر حكيم" يقول : "بسيان أحط الروح ..وأسحگ عليها ". أين تجد توصيف مثل هذا الغضب الرهيب ؟ تجده في حالة ما بعد الغضب ، حين ترتد النقمة ثأرا مسعورا ، لكن من من؟ ، من الذات!! .. ومظفر في الواقع يعذب ذاته في تأكيد ولاءه لحبيبته - أرضه وهي تصبح نفاية من نفايات المتسلطين ، ويغرقها "سيان" الغادرين المستذئبين . ومثلما مرّر مفردتي "الوكحة " و"يا طيبة " لكسر السياق المذل قبل قليل ، سرّب الآن باتساق رخو ومهادن مفردة "يا حلوة " وسط "سيان طينتهم " الذي غطاها لقرون طويلة ، ويبدو أن مظفر المتسلح برؤيا الشاعر، وكأنه يصدمنا بنبوءة ، فكل التصورات المتحسبة التي طرحها ، كقلق شعري يحايث عالمه المادي على الورق ، تتحقق الآن ، ورغم ذلك ، ورغم مرور أكثر من خمسين عاما ، فإن الرقية العجيبة التي طرحها النواب وهو يتعرف على ملامح حبيبته متحسسا إياها بغريزة أنامل العشق الأعمى "وسط زبل المزبلين " وقد شحبت تلك الملامح  في الذاكرة ، نشعر أننا في أمس الحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى ، في هذه المرحلة التاريخية المصيرية من حياة شعبنا حيث يباع العراق في أسواق النخاسة . ومشكلة العراق هو أنه مثل ثمرة البصل كلما قشرتها أكثر سالت دموعك أكثر ، ومظفر مصر باستماتة على المضي في هذه العملية المازوخية إلى النهاية ( هي حالة ما بعد الحب ) .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة