يقول الفنان هنري ماتيس: "عندما تأكل الطماطم فإن الأمر يبدو عاديا، لكن إذا أردت أن ترسمها فإنك تنظر إليها من زوايا مختلفة". كانت هذه أول عبارة أسمعها في حصة الدروس النظرية من مواد "الفن الدعائي"، وكنت أتساءل يومها ما الذي سينفعني من دراسة تاريخ الفن التشكيلي، من عصر الكهوف إلى النهضة إلى الباهاوس... وبما إن الصورة فن، فلها موضوع وجب دراسته وتتبع مساره.. ولذا فان قولة ماتيس لم يكن الغرض منها في افتتاح شهية الفنان التشكيلي الذي سيرسم أو سيأكل فحسب... وإنما القصد منها هو الإقبال على الفن لا بطريقة عادية ولكن من زوايا نظر رواده. هكذا يأتي سؤال ما الفن أساسا؟ وما دوره في المجتمع ؟ وهل نحتاج إلى فنانين (تشكيليين خصوصا) في مجتمعاتنا المعاصرة ؟ وإذا أردنا أن نتحدث عن موقع الفن في المجتمع فإننا سنتكلم عن المرسل والمرسل إليه باعتبار الفن التشكيلي أو اللوحة الفنية صورة تحمل مضمونا ورسالة إلى المتلقي. لكن الحديث عن تجاوب المجتمع أو تعاطيه للفن لا يمكن تجاوزه دون النظر إلى مسألة الذوق والتذوق الجمالي، وهذا يحيلنا بطبيعة الحال إلى ما يمكن تسميته بالشروط الاجتماعية لاستقبال الفن.
قبل أن نتحدث عن الذوق والشروط الاجتماعية وعن كيفية تجاوب الفن مع المجتمع أو تجاوب المجتمع (كأفراد وجماعات) مع الفن، سنورد ما أورده بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمتخصصون في الحقول الفنية عن فلسفة الجمال أو ما يطلق عليه "الإستطيقا"، لنعرج إلى دور الحكم الجمالي في الحياة الإنسانية.
الإستطيقا وطبيعة الفن
من بين الفلاسفة الذين عرفوا باهتمامهم بفلسفة الجمال والفن على سبيل المثال لا الحصر: أفلاطون في محاوراته، أرسطو، كانط، هيجل، شوبنهاور، هايدجر. ففي محاوراته تبنى أفلاطون فكرة الجمال كصورة عقلية تنتمي إلى عالم المثل، وجمال الشيء حسب رأيه هو في الشكل لا في المضمون. وكانت العصور الوسطى مع القديس أوغسطين وتوما الأكويني تنظر إلى الجماليات من منظور ديني، حيث اعتبروا الجمال شعاع الحق (أي الخالق). أما في عصر النهضة فقد اختلطت الأمور وتداخلت بين جمال الحق والحقيقة، ليأتي بعد ذلك تسمية علم الجمال بالاستطيقا مع الفيلسوف جوتليب بومجارتن (1714-1762).
اتفق الباحثون على أن علم الجمال نشأ في البداية باعتباره فرعا من الفلسفة، وتعلق بدراسة الإدراك للجمال
والقبح، ويهتم أيضا بمحاولة استكشاف ما إذا كانت الخصائص الجمالية موجودة موضوعيا في الأشياء التي ندركها، أم توجد ذاتيا في عقل الشخص القائم بالإدراك (التفضيل الجمالي لشاكر عبد الحميد- ص 18).
في كتابه "مدخل إلى علم الجمال"، اعتبر هيجل الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي، لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته وبالتالي إلى الفن. ويعتبر هيجل الإنسان روحا؛ يزدوج في كونه كائنا مثل أشياء الطبيعة، وكائن من اجل ذاته، يدرك ذاته بالحدس والفكر. ولتوضيح الفكرة، يعطي هيجل مثالا "لطفل يلقي حجارة في جدول ماء، فيتملكه الإعجاب من الدوائر التي تتشكل، بوصفها صنعا يحدس فيه شيئا ينتمي إلى ذاته. تخترق هذه الحاجة أشد صور الإنتاج الإنساني تنوعا لتصل الى ذلك النمط من الإنتاج الذي يحقق فيه الإنسان ذاته في الأشياء الخارجية، ألا وهو العمل الفني". ومن هنا تنبع الحاجة الطبيعية العامة التي تولد الفن.
أضحى الحديث عن علم الجمال يفضي إلى طبيعة التجربة الجمالية وأنماط التعبير الفني، وأيضا إلى عملية الإبداع أو التذوق أو كليهما معا. وبعدما اعتبر لالاند الفن في معجمه هو: "كل إنتاج للجمال يتم بواسطة أعمال ينجزها كائن واع"، فقد برزت صعوبات تعريف الفن أو إشكالاته الدلالية، والتي تأتي مرتبطة خصوصا بالفن والتذوق والجمال الفني، والحكم الجمالي أيضا.. إلى دور الوعي وغايته. لكننا سنعود إلى كانط، والذي اعتمد عليه هيجل في دراساته في ما بعد، مع كتبه الأكثر تعقيدا: "نقد ملكة الحكم"، حيث تحدث - كانط - فيه عن ماهية الفن وعن الجميل والممتع والنافع والحسن.
وكي لا نضيع وقتنا في محاولة فهم هذا الكتاب (30 سنة لفهمه حسب اعتراف تلاميذ كانط نفسه)، يمكننا النظر إلى فلسفة كانط انطلاقا من مقولته الشهيرة: "الخير من أجل الخير، والحب من أجل الحب، والصداقة من أجل الصداقة". وتعتبر هذه مدخلا لفلسفة كانط الأخلاقية أو فلسفة التعالي عن المنفعة. وربطا بموضوع الجمال، فإن كانط يرفض فكرة اقتران الجمال بالمنفعة أو تحقيق اللذة الحسية، ليتم الحكم على الشيء حكما معرفيا أو ذوقيا. ويعتبر الذوق هو "الملكة التي تحكم بها على موضوع ما، أو أسلوب لتمثلٍ يتم عن طريق الشعور بالارتياح أو بعدمه، دون أن تتدخل المنفعة في ذلك الحكم، ويمكن أن نطلق لفظ الجميل على ما يكون موضوعا لمثل هذا الارتياح". أما الشعور باللذة أمام الشيء الجميل، فيعتبره كانط لذة جمالية؛ تختلف عن لذة الأكل أو كل ما يرتبط بالإحساس، فلذة الإحساس تزول بعد اكتمال أو حصول الإشباع. ومن ثمة فـ"التذوق الجمالي هو اللحظة التي نميز فيها بين لذة جمالية ولذة الإحساس".
لكن، ماذا عن اختلاف الأذواق مثلا حول نفس اللوحة الفنية أو قطعة موسيقية ؟ ماذا عن تربيتنا ونشأتنا في ظروف اجتماعية وثقافية مختلفة؟ ما علاقة العمل الفني بالواقع؟ هل يحاكيه أو ينفيه؟ ولفهم الإشكال المطروح بطريقة المتتاليات، يكفي أن نتساءل أمام لوحة ما، حول جمال رسمها أو حول جمال موضوعها !!
إن نظرية المحاكاة تجعل من الحكم الجمالي ينساق إلى مدى المطابقة والمحاكاة (أي دقة الرسم مثلا) عن جمال الشيء في ذاته، وبالتالي يقال إن هذا الفنان فنان لأنه يرسم (أو يحاكي) بدقة ما يرونه أو ما يتفقون عليه. وهنا تأتي ضرورة الاتفاق أو الإجماع على الشيء وواقع مجتمعه، وبمعنى أدق سوسيولوجيا الفن.
يعارض هيجل في كتابه، آنف الذكر، فكرة المحاكاة. ويتساءل: ما قيمة أن تصور أو تشكل شيئا موجود أصلا؟ ويوازي هيجل بين عمل فني يصوّر امرأة عجوز بكل تجاعيدها، وآخر يصوّر فتاة حسناء، في قيمتهما الفنية شرط توفر الجمال الفني فيهما. وبالتالي فالفن ليس محاكاة للطبيعة، بل هو شيء يضاف إلى الواقع. إذن يمكن استخلاص أن "الفن تصوير جميل لشيء وليس تصوير لشيء جميل" (كانط).
تلقي الفن وإنتاجه
كيف يستقبل المجتمع الفن ؟ أو كيف يتم استهلاكه ؟ ما الذي ينتابنا عندما نقف أمام رسومات ميكل أنجلو أو دافينشي ؟ هل تساءلنا يوما عن ظروف إنتاج لوحة ما ؟ ما الدافع والسياق الذي أدى إلى رسماها ؟ كلنا نمتلك لهف معرفة ماورائيات اللوحات الفنية (خاصة الواقعية والكلاسيكية والسريالية). بيد أن معرفة طبيعة نمطنا هي الأولى، أي كيفية تلقينا لذلك الفن؛ كيف نتلقاه ونفهمه؟ ولماذا تختلف أذواقنا بين جميل حسن ورديء ؟
سبق وأن رأينا مع كانط في كتابه "نقد ملكة الحكم" تعريفه للجميل كـ"غرض متنزه عن أي غرض أو هدف"، ويتطلب الأمر "نظرة جمالية خالصة تقدر القطعة الفنية الجميلة على مستوى الشكل وليس الوظيفة، وكموضوع للجمال بحد ذاته ولذاته". إلا أن المنهج السوسيولوجي يرفض نوعا ما الاستطيقا الكانطية، ويعتبر هذا المنهج أن الناس لديهم وجهات نظر مختلفة تجاه الفن أو الذوق الجمالي، فما دامت أساليب حياة الناس مختلفة فلن يكون إجماع على ما هو جيد وما هو جميل مع أي منتج ثقافي. ولهذا ينظرون ببطلان فكرة "الفن العظيم يمكن تمييزه من الوهلة الأولى". كما أن الظروف الاجتماعية تتحكم كذلك في إنتاج الأعمال الفنية، إذ يمكن النظر مثلا إلى أعمال بعض المدارس الفنية أنها كانت تعبيرا عن تقاليد أو ظروف جماعية لسياقات سياسية أو اقتصادية، أكثر من كونها رؤية فردية. وهذا ما ذهب إليه ثيودور أدورنو حين اعتبر "فهم الأعمال الفنية وفهم كيفية إنتاجها يقتصر إلى النظر إلى الإنتاج بوصفه عنصرا واحدا في كيان اجتماعي معين".
"لكل مجموعة طبقية طابع ثقافي"، هكذا يعبر عالم الاجتماع الفرنسي بورديو حين يدرس الأعمال الفنية. ويُعتبر "الهابيتوس" أو الطابع الثقافي، أحد المصطلحات التي اعتمدها بورديو في أبحاثه الاجتماعية. ويقصد به "نسق الاستعدادات المكتسبة وتصورات الإدراك والتقويم والفعل التي طبعها المحيط في لحظة محددة وموقع خاص". لذلك يعتمد عليه في فهم الطباع المكتسبة وأنماط التذوق البديهية عند البعض.
ويرتاد بعض الناس، حسب بورديو ، المتاحف وصالات العرض براحة ورفاهية. حيث تعتبر هذه الأماكن في نظرهم "معابد ثقافية" لأنهم اعتادوا ارتيادها منذ الطفولة، وبالتالي أصبح إقبالهم أمرا عاديا وطبيعيا، حيث يتداولون بينهم معايير التذوق والتفنن بأريحية. وهذا الأمر يعتبر عند فئات أخرى مزعجا وغير مريح، إذ لا تملك هذه الأخيرة وسائل فهم أو حتى لغة تواصل داخل تلك المعابد مثلا. ويسمي بورديو في كتابه "التمايز"، الفارق الذي يميز الفئتين برأس المال الثقافي؛ حيث لا يكفي تخفيض ثمن دخول المعابد الثقافية أو مجانيتها لمعرفة متذوقي الفن، بل الانتماء إلى أحد الطبقات الثقافية.
ويرى عالم الاجتماع ديفيد انجليز أن "هناك تناظر لصيق بين الظروف التاريخية لإنتاج العمل الفني وشروط استقباله". فقوة الوساطة الحيوية لحقل الإنتاج كما يسميها بورديو ، التي تتجاوز الظروف التاريخية ليست هي المحدد الوحيد لعمل فني، بل الطابع الثقافي (Habitus) الذي يعكس الأصل الاجتماعي والمسار الشخصي للفنان، هو الذي يتم من خلاله إنتاج العمل الفني. إلا أن تساؤلات من قبيل: من هو الفنان وما هو العمل الفني؟ وهل يستحق هذا الفنان لقب فنان، وهذا الرسم وصفه بالفني.. تعد من أكثر الأسئلة طرحا وسط الحقل الفني. ولهذا يميل كثير من علماء الاجتماع إلى ضرورة التخلص من مصطلحات الفن والفنان والعمل الفني، لأن ذلك يكون مشحونا بخلفيات وأيديولوجيات وحتى أحكام محددة بفترة معينة، ويقترحون استبدال المصطلح بـ"المنتجات الثقافية".
يمكن أن نخلص إلى واقعية الفن وأثره الحسي بلسان الناقد الأمريكي فنكلشتين سدني في كتابه "الواقعية في الفن": إن الفن يربي الحواس من خلال الواقع محولا المجهول إلى معلوم و زيادة الوعي والفن هو شكل متخصص من العمل الإبداعي و تاريخ الفنون هو سجل للمراحل المتعاقبة وبه يستكشف الناس العالم الخارجي واكتشاف صفاتهم و قدراتهم كبشر، و الفن يحاول أن يكشف العالم الداخلي على نحو متطابق مع العالم الخارجي، و الجمال هو الوعي بتطور الحواس الإنسانية التي تطورت استجابة لتقدم اكتشاف غنى العالم الخارجي، والانفعال الجمالي و إدراك الجمال هما الوعي الفرح بالقفزة الشديدة للقوة الإنسانية.
وفي فيلم "لغز بيكاسو" يقول: أنا لا ابحث، بل أجد. ويقصد به بيكاسو أن رسمه للخطوط مثلا بمثابة إبداع يؤدي إلى إبداع، ليس كسبب يؤدي إلى نتيجة، بل كحياة تؤدي إلى حياة أخرى.
أما أنا الآن فأعيش حياة أخرى وآكل طماطم أخرى.