سؤال الشعري توليف دلالي بين سؤالين مبدئيين، يشفان عن شفافية العلامة في تراصفها النصي، وكثافتها الإيحائية في تراحبها التأويلي، عن الكتابة ومسرب حركية صيرورتها الاختلافية، عن اللغة الشعرية وتنائيها عن ذاتها في استيعاء ترميزاتها.
فما هما هذان السؤالان؟
أولهما، سؤال "الكلام" الذي يقصر ذاته على ما تدل عليه الدلائل الألسنية بدوالها ومدلولاتها، التي ينتظم وفقها النسيج اللغوي الناظم للقصيدة الشعرية.
ثانيهما، سؤال "الصمت" الذي يرين بداءة على بياض الصفحة، قبل أن يقرن بجماع المكتوب وسواده خالقا فراغات دلاليا وتشكيلات فضائية.
إنه توليف بين سؤالين يكتمنان وعيين لاينفكان عن جدل خصيب:
- فهنا الوعي الشعري الذي هو وعي التجلي، والاقتران بما تسرد كتابة من عناصر التجربة الفنية.
- وهناك الوعي التأويلي الذي هو وعي الخفاء، والاقتران بهامش الكتابة الشعرية وأمدائها المتمادية.
فهذا وذاك يستوصلهما سؤال الشعري في تجليهما المصرح والمضمر استيصالا حواريا، يحدو بالكتابة إلى تجاوز مبدإ الهوية الثابتة، ومبدإ تطابقها مع ذاتها، بل يحدو بها إلى قول ما لم تقله في صيرورة اختلاف لا تؤول بتاتا إلى النفي، ما دام السؤال في استرسالها يستثير حركية سؤال آخر، فيما هو يستثير حركيته الذاتية، فيبدوان وكأن الواحد منهما يبجس الآخر ويفتحه على أمداء استعارية لم يقاربها من قبل.
هكذا نكون إزاء جدلية تبعث على:
1. شحذ السؤال الشعري على مساحة العدم المتمادية ( بياض الصفحة والفراغ الدلالي) وفي فلك جاذبية الوجود ( الدلائل الألسنية الشعرية) شحذا تتناسل إثره أسئلة الكتابة وتلقيها في مظان النص وفي خطاباته التأويلية تناسلا يتفادى أي سؤال يسقط في مهاوي الطقسي والنمذجي.
2. الدلالة على أن سؤال الشعري سؤال يقف نفسه من حيث وجوده، على ما أودع في سؤالي الكلام والصمت من حركية جدلية وتحفيزات تأويلية وقفا يغدو معه سؤال المتجاوز لما هو في ذاته.
3. الهجس باستحالة ادعاء الشاعر امتلاك الحقيقة، واستحكام القصد الدلالي، فلا ريب أن هذا الادعاء التعسفي يحرف السؤال الشعري عن سويته الحوارية، ويغرب عن الأذهان أن ما يمتلكه الشاعر عن الحقيقة مجرد تصور افتراضي، يوسم بالنسبية ما دامت فراغات دلالية تلابس صياغته الشعرية، كما تلابس كل تأويل يتمرس بها.
4. إيقاف صوغ " الكيمياء الكتابية" على "دورة كيميائية" حيث الشعر يتناص مع الشعر، ويتراكب مع متعاليات نصية شتى، تندغم فيه حتى أنها تنكشف كتابة افتراضية لاتكتسب نسغها الحراري إلا في صيرورة تلقيات، ترادف من حيث التفاعل التجانسي تلك "الدورة الكيميائية".
على أن هاته الجدلية التي تزاوج بين سؤالي الكلام والصمت، تكشف كنه السؤال الشعري وسويته كشفا يتباين بتباين تجليات سؤال الصمت، فماهي هاته التجليات؟
أولا: تجلي الصمت الأنطلوجي الذي يشف عنه بياض الصفحة الورقية، الذي يمعن في صمته الشاعروينفعل بوقعه، حتى أن الكتابة تتمنع عليه آنئذ برهة، وتستبد به عزلة تدخله لحظة صمت أنطولوجي، تتملكه إثرها رهبة تناظر الرهبة التي تتملك الإنسان إزاء صمت اللامتناهي، إلا أنها بعدما تتضاعف وتتكاثف حدتها لا تلبث أن تنجلي عن الشاعر، فيأخذ بجماع يقظته، فيجد هذا الصمت-هيولى اللامحدود رديفا رمزيا للعدم، الذي يبعثه على خلق الوجود، هكذا لا يجد هذا الشاعر بدا من ابتداع وجود لغوي جمالي ينبض بالعدم القمين بابتداع وجود على وجود، وهو إذ يبتدع هذا الوجود، ترتسم قبالته جماع أفكاره الجمالية بترميزاتها التي تحفز على السؤال تحفيزا يوقفه على لحظة من لحظات التجلي الإبداعي، فينتشي بما تجلى من "ممكنات" شعورية، "لا تتناهى" من حيث الامتداد.
ثانيا، تجلي الصمت الدلالي الذي يعزى إلى انتظام بنية القصيدة وكيانها اللغوي انتظاما شعريا خالصا، يستثسر من الدلائل الألسنية سؤالها الصمتي أكثر مما يستثير سؤالها الكلامي فنقف على قصيدة تكتمن بين طيات دلائلها المتراصفة وفي ثنايا نسقها اللغوي الناظم وفي هوامشها وتوزيع بياضاتها فراغات دلالية، تستحث المتلقي على شحنها، وتنسيل أسئلتها بما تيسر له من أسئلة تاويلية.
ثالثا، تجلي الصمت الأيقوني، ذلك أن سواد الحبر وبياض الورقة المحيط به والمتلابس مع فضائه، قد يرتسمان ارتسام صورة تشكيلية كتابية تزاوج بين المكتوب واللامكتوب، سواد الحبر وبياضه، الألسني وغير الألسني، الصمت والكلام لتجلو ذاتها علامة أيقونية، تنشئ في تشكيلها الزماني والمكاني وتفضيتها جدلية الأيقوني والألسني، التي ترتهن بنسقين إبلاغيين متنافرين من حيث الوسيلة ومتجانسين من حيث الغاية.
إن هاته التجليات-السرابيل التي يتسربل بها الصمت مؤشرات دالة عن تراحب أفق الكتابة الشعرية، تراحبا يحرره من ربقة مبدإ المحايثة، ويكفل جدلية منطق السؤال والجواب.
تبعا لما استحصلناه من محصلات تجدنا نشير إلى أن الكتابة الشعرية كتابة صمت بقدر ما هي كتابة كلام.
إنها تكتمن سؤالين متكاملين: كيف تكتب الكتابة الصمت؟ وكيف يقرأ الصمت الكتابة؟
فهما سؤالان-هاجسان استنتهما الكتابة الشعرية في تضاعيفها وعلى هامشها، حتى تؤول إلى كتابة المساءلة، التي تتحسس نبضها في سياق استثارة أسئلتها وصيرورة تأويلها، وتذاوتها مع ذوات كتابية أخرى وتنائيها عن ذاتها، بحيث يصبح سؤال الشعري السؤال المهووس بالمختلف والمتعدد-السؤال الحركي الذي لا يقر له قرار.
فغياب جدلية هذين السؤالين: اللذين تستمد منهما الكتابة شحنة دفقها، مؤشرعن غياب البؤرة المركزية لتناسل الدلالات وانشراع أسئلتها على الحوار، بل مؤشرعن تضاؤل الشعرية ومصداقيتها حتى درجة الصفر.
فالكتابة هنا مع هذا الغياب لا تعدو أن تكون "وثيقة تاريخية" تستنسخ مرجعها الذي تصدر عنه، وتحاكيه محاكاة حرفية لا تلبث أن تفقد مرماها تحت وقع الصيرورة الزمنية، فيتشرنق سننها التداولي بما استقام عليه من دلائل في شرنقة سؤال، يذعن مطلقا لمرجعه، فلا يستثير سوى سؤال عقمه ووهنه.
أبو إسماعيل. أعبو