مقدمة
أغنت الشاعرة خديجة الطنطاوي المكتبة المغربية بديوان رائع من الحجم الصغير تحت عنوان"- إرحل " في طبعته الأولى ، يتضمن 12 قصيدة موزعة على 87 صفحة ..
فقبل الغور في مراسيم النصوص ،وكشف الغطاء عن مستورها ،والحفر في تضاريسها ، استفزتني اللوحة التي تتشكل من لافتة بيضاء وسط حشد من الجمهور تتوسطها لفظة واحدة "إرحل "كفعل أمر..
استقراء اللوحة
ترفل اللوحة في مجموعة من الألوان :الأحمر والأصفر والأبيض والأسود ، احتضنها اللون البرتقالي الباهت الذي يغطي سائر الغلاف ، والألوان اتخذت أمكنتها حسب وظيفتها الطبيعية بحكم الصورة الفوتوغرافية المأخوذة من الواقع ..حيث اتخذا كل لون خطابه الرمزي الذي يميزه عن الآخر :
ــ فالبرتقالي الباهت يعني لون الشمس كرمز للحرية والانعتاق من كابوس الجبروت..
ــ والأبيض يرمز إلى أيام السعد والهناء والسلم الاجتماعي ،الخالية من الكدر ،لون حمام السلام / لون الورد الأبيض الرامز إلى الأمل والتفاؤل والأحلام الجميلة ..
ــ اللون الأحمر ويرمز إلى الدم المهدور للتضحية والاستشهاد ضد الظلم والهيمنة والاستعباد ..
ــ اللون الأسود المائل أحيانا إلى البني ، ويرمز إلى اللحظات المشؤومة المشوبة بالحلكة والأحزان والأيام المغبونة المفعمة بالمآسي ..
والألوان كلها تجسيد حقيقي للأوضاع الإنسانية في بعدها الكوني ، وكيف تعيش كل شريحة واقعها المتنوع مابين المزري والمؤلم والآمال العالقة والأحلام المجهضة ..
عناصر اللوحة
تتكون اللوحة من عدة عناصر فرعية هامشية تصب كلها في عنصرين أساسيين هما اللافتة والجمهور، تتوسطها اللفظة السابق ذكرها "إرحل" باللون الأحمر بالبنط العريض ، ويدل هذا على حقيقة واحدة ملموسة بالواضح ،وهي تظاهرة احتجاجية ، من طبقة شعبية مظلومة ضد طاغية ،ذاقت الأمرين على يده ، فخمد بقمعه أنفاسها وخنق حريتها ،وكبّدها آيات من الذل والمهانة والحرمان ،ضاق على إثرها نطاق صبرها ، فنهضت تشجب الظلم في أبشع صوره ، معبرة بصوت جهروي مسموع وبكلمة واحدة "إرحل "التي تملأ بمعناها الواسع الأفواه بقناعة وقرار محسومين ، وهو أن هذا النظام ومن يقوده لامكان له بين عامة الشعب ...
الأضمومة
تتنوع موضوعاتها بين الرومانسي والحلم والعشق الدفين الصارخ والإنسان القضية ، والذاتي والوطني ، والهمّ الإنساني
ـــ الشعر الذاتي
فمهما حاولنا الغور في عوالم أخرى ، تجنبا للأنانية وابتغاء للموضوعية بصياغات شعرية نافذة في الكوني ، فلابد من أن ننقاد يوما إلى حلبتنا ونعكس المرآة على أحوالنا ،ونسجل لسيَرنا ولو بالنزر القليل ، إما بخلخلة المحيط رجوعا إلى الذاكرة ،أوالغوص في ما هو آني انطلاقا من التأمل الفاحص ،أو التأثيث للمقبل بالحدس القوي ،والشاعرة خديجة الطنطاوي كغيرها من المبدعين حذت حذوهم بالرجوع إلى منارة الذات / ككائن له حيزه في الوجود مسلطة الضوء على اللحظات الودية الأسرية المعيشة المفعمة بالحب والود والإخلاص ،وتبادل الوفاء بين الأطراف ..وطبعا وماكان ليتأتى هذا لولا طيور الفرح والسعادة المحلقة في الأجواء ، وآيات التفاهم المقروءة بعناية وفخرُ زوجها بعطاء شريكة حياته ، والتفاني في تقديم التضحيات بنكران الذات وعن طواعية تقول ص:11
هو الفخور بحب امرأة
لاتنطفي
ولايخبو
سناها بين بهار النجوم
وبين بهاء الكواكب
تحلق الذات الشاعرة كالفراشة بين أجنحة الكون ، تجوب أقاصيه ،تعود لتنحني لجلال الذات ،تتفقدها تتقاسم معها الأحداث ،فتثير ماألمّ بها ،وتبتسم للحظات الجميلة بكل سعادة وانشراح ..
الاستشهاد:
التضحية أو الشهادة ليست بالأمر الهين ،لايقوم بها إلا واع خَبِر الحياة في أسمى معاني الكرامة وعزة النفس ، ورفْض المهانة والذل والعيش الحقير ،وحين يدرك أن القيم الجميلة تلاشت ، بفعل الهيمنة والطغيان ، ستقوده الغيرة على الوضع في بعده الوطني والإنساني ، إلى الذود عنهما بكل قواه ، وماملكت يداه من آليات واضعا روحه على كفه ،إما أن يتحرر أو يستشهد .تقول في ص:19:
يدفع العمر قربانا
هو من اختار صك الشهادة
جوازا إلى الجنة
شهيد الوطن
فالشهيد يسترخص روحه فداء من أجل الوطن ، وهذا يبين بالمباشر مدى مكانة الوطن في قلب الشهيد ،والذي يخصص له غرفة دافئة في قلبه قبل روحه ..
العشق
تملكُ الذات الشاعرة إحساسا مرهفا، وقلبا يقطر ندى يتسع للكل ،تمتد جسور حبه من البيت وآله، إلى كل أركان الكون ، تتوحد مع الوطن ،تحتضن المغبون ، ترِقّ للحزين تنافح عن المظلوم ،وتنصهر مع المهمش ، ليعيش الإنسان كريما وبكافة الحقوق الكونية ، وفي معشوقها ترى الحياة جميلة ، تعزف لها على وتر العشق ، وتغني لها الفراشات بزبد البحر تقول ص:26
ياغنبازة حب منقوش على صفحة القلب
ياصنم الحناء
الذي تؤلهه الأسماء
عشق نوراني على غرار فطاحلة الغزل حيث تضفي الذات الشاعرة صفات وتشبيهات رومانسية على الحبيب ، وأسرارا وجدانية في مناجاة دافئة حالمة لإشباع النفس بمدّ عاطفي دافق ، وتسقط ذاتها على العناصر الطبيعية بمناظرها الخلابة فترى في وجودها سحنة الحبيب أجمل ..ترتاح لرؤيته ، وتسعد بسعاته ،وتحزن لأحزانه ..عشق صاف خالص ..
التمرد
تشربت الذات الشاعرة وعيها القوي للأوضاع المفرومة ، وما تتلقاه الطبقات المسحوقة من ذل وصغار ، فتأجج عمقها وفاض إحساسها بالرقة والشفقة ، فتمردت محتجة تشجب بشدة القسوة الوحشية ، في تحد صامد لتحطم القيود المحاصرة تقول في ص:35
لم تعد
منك ياطاغيا
تخشى
أو تخاف الردى
روح وطنية يقظة نهضت غاضبة مصرة على رد العدوان الغاشم بأي ثمن ،وطرد الطغاة المحتلين الذين يستعبدون الإنسان ويهيمنون على الأوطان ،مصرة على أن النصر آت لامحالة ،والأحلام الموعودة ستتحقق بالعزيمة والإرادة ...
الوطنية
هذا الصمود لم يأت عبثا ،بل الذات الشاعرة متشبعة بالوطنية حتى النخاع ،وتذوب عشقا في الوطن وحب الإنسان بشكل مطلق ،وتُسَخّر كل إمكانياتها من عتاد ومال وتضحيات ، حتى يبقى صرح الوطن شامخا ، يرفل الإنسان في قماش الحرية والانعتاق ،تقول في ص:34
أمتنا العربية
ستشمر عن ساقها
عن ساعدها
كي ترد العدى
فهي تدرك آلة المستعمر الحادة حين تنتزع الوطن من اهله ، وتنزل كالصاعقة مخربة مدمرة ، ومختلسة سالبة لخيراته وكنوزه، مشردة لسكانه أضف إلى ماتنشره فيه من ثقافة الاستلاب والتبعية وتمزيق الهويات ،واجتثاث القيم ..
الإنسان القضية (فلسطين )
حين صرخت الذات الشاعرة ، ولم يرد الصوت إلا الصدى ،بكت ونحت ولم تبرد النار الحارقة ، فتوجهت بندائها تستجدي الغيث من العرب ،سلالة الشهامة والإباء ، لينتفضوا ضد الاستعمار الغاشم لفلسطين ،وانتشالها امن الأيادي الآثمة التي زرعت الأحزان والأهوال فيها وفي الأقطار العربية عامة وعلى رأسها عزة وجنين تقول في ص:62
أيها العربي انتفض
وانتكب قوسك
ماتراه بغزة أو
بجنين يلخص كل كلام
فصمتهم الفاحش ضد مايجري في فلسطين ، يعتبر وصمة عار على جبين كل عربي ، وهذه صرخة مزلزلة وإشارة شفافة لامحة إلى تخاذل الأنظمة التي تغط في صمتها المريع ن وعدم القيام بواجبها للذود عن المظلومين ،الذين يسقطون تحت آلة الاستعمار وكأنهم متواطئون معهم ،فالشاعرة إذاً تعيش بقلبها وإحساسها ومشاعرها نفس الأوضاع المتردية في غزة ،من حيث فقدان أهلها الدواء والغذاء والماء ،ويدل هذا على مدى رهافة حس الذات الشاعرة وصدق مشاعرها ..
السلام
استفحلت المصالح الشخصية ، وركبت أصحابَها الأنانية وحبُّ الذات ،إن على المستوى المحلي أو الوطني أو العالمي ،ولم يعد للإنسان اعتبار ، ولا للقيم النبيلة مكان ،فساد الجور والظلم والاختلاس ،وأصبح الهمّ الشاغل هو تجميع الثروات ، حيث الماديات هي اللولب الطاغي المحرك لعاشقي الجشع و الطمع ،فانتشرت أوبئة الحروب ،وامتدّت آلات التطاحن ،وسفك الدماء ،وأصبحت الدول القوية أسودا ضارية متوحشة تفترس الضعيفة ،فصار العالم غابا لامكان فيه للضعيف ،وهذه الأشياء التي تمُر أمام الذات الشاعرة بطعمها المُر ،خضخضت بحيرتها الساكنة فجعلتها تنهض صارخة تقول في ص66
أين السلام ..وأين مابه حلموا
لاسلام ولاأثر
ماذا يافلسطين ننتظر
،تناشد بيرق السلام من جهة ،ومن جهة أخرى تذَكّرهم بما وقع للقدس وغزة ،وما يجري فيهما من جرائم ،وقتل للإنسان من الجنين حتى الشيخ ،مرورا بالأطفال والنساء ،طالبة النجدة لإيقاف شلال النزيف الحامل للدمار والخراب واغتيال الأحلام ..
الوطنية
في عشق صوفي ممتد حتى النخاع تتوحد الذات الشاعرة مع الوطن ،مبهورة بنسائمه الدافئة ، ومياهه الرقراقة ، ومجده العظيم ، تراه مرموقا فوق قمم العالم كله ، لايضاهيه في عظمته أي بلد مهما كان نوعه فكما قيل "كن جميلا تر الوجود جميلا " فالشاعرة ترى الوطن بعين الحب والعشق والجمال ، لذا يبدو لها غنيّا عن أي وصف ، وفوق كل اعتبار ، وطن مكتمل البهاء من حيث طبيعته الخلابة ، وموقعه المحسود عليه ، وخيراته المنهمرة رغم ماعاشه من لحظات استعمارية مغبونة تسببت في تدميره وتقهقره ..لذا تعتز بمجده ورُقيّه اليوم ..تقول في ص:75
فيك ياوطني
مالستُ أراه في سواك
شمسك
ماؤك
أمنك
وبهاك
وتنهي إلى علم الكل أن يكونوا فداء للوطن ،ويناولون المشعل للشباب للنهوض به حتى يظل شامخا ..
الجانب الفني
لكل مبدع طقوسه ، ولغته وأسلوبه في محاذاة النصوص الإبداعية قصصا كانت أم شعرا ،ينفرد بها عن الآخرين ، وفقا لأفقه المعرفي ،وتجاربه الخاصة ،وما توارثه من أعراف وتقاليد ،وما لملمه عن غيره من الأدباء والمثقفين ..فشاعرتنا خديجة الطنطاوي كغيرها في جعبتها رزمة من الأشياء موضوعيا وفنيا يجب النبش عنهما لإدراكهما ...
اللغة
اللغة زجاجية المنطق ،شفافة المعنى، براقة الدلالة ، رصعتها الشاعرة بالقريب من الألفاظ في حبكة راقية ، حين يمسك القارئ أول خيط تجرهُ إلى قرارها دون استئذان ودون تعب ، تفننت في تطعيمها بصور شعرية وإيحاءات وانزياحات ورموز خفيفة الظل ،ناعمة الملمس ممتعة في النهاية ، لونتها بالمخاطب والأمر حتى تؤدي الرسالة دورها وتوصل إلى القارئ مايجمح في الوجدان ، ويدور في الخلد ،ومايغلي تحت مباطن القلب والروح تقول في ص:49
وافتحوا في كل الجهات مقاما جديدا
وازرعوا أزهار الحب
فآدم مازال يحلم كل مساء
بفجر جديد
فاللغة الآمرة ليست من وحي التسلط والجبروت للقيام وتنفيذ الأوامر قصرا ، وإنما هي نداء صارخ إلى التغيير ، للخروج من أوضاع الظلام بسنابل من نور ،فالشاعرة تأملت العالم بعين ثاقبة ،ووعيت بأحواله وما يطاله من الفحشاء والتنكيل بالإنسانية ،وانهيار القيَم وسفك الدماء وبتر الأرواح وانتشار الرعب والقتل ،وتشريد الأسر ، فرفعت صرختها تصدح للكف عن الاذى، ونشر زهور الحب والسلام بأغراس حية في كل مكان ..
الخاتمة
ديوان بخفة الفراشة ،لكنه مكتنز بتيمات ومواضيع ثقيلة الوزن والقيمة ، لها مكانتها في الكون ،وأهميتها في العمق والروح ، حلقْتُ في فضائه ،وجُبْت مطاويه متوغلة في سراديبه ، فاستمتعت بحقوله الغناء ،وكلما اشتدّ بي التعب أستريح تحت فيئه الممتد، إلى أن نهلت من عروق لغته الصامتة/ المدوية ،التي تجهر بحب الوطن والإنسان ،وتناشد في نفس الوقت السلام وتجنب الحروب المدمرة من أجل تحقيق الأمجاد ونشر قيم الحب والتسامح ...
مالكة عسال