" أنت عبد الرحيم؟
نعم
تفضل معنا ".(ص351)
تلصّصتُ على الرَّهط، بعدما استرقت السمع منهم ودلفت خلفهم وتحت إبطي سراديب النهايات ـ الرواية ـ أُفتّْش في خباياها، فما كان من أمري إلاّ أن استوقفني ابن خلدون يحذرني من الخوض في صناعة لا أُتْقِنها، زادني تحذيره إصراراً يشبه إصرار عبد الرحمن ـ الخيط الناظم للرواية ـ في تمسكه بالأرض، بالأمانة، سامِتاً متفانياً لم يتزعزع قيد أُنمُلَة عن الخط الذي رسمه له كاتب الرواية.
رواية »سراديب النهايات « للروائي المغربي عبد الإله بلقزيز، صدرت من دار "منتدى المعارف" في طبعتها الأولى لعام 2014، جاءت في 351 صفحة من الحجم المتوسط لتنضاف إلى أخَوَتَيْها: صيف جليدي 2012|384 ص، والحركة 2012|216ص.
نستطيع أن نصنف "سراديب النهايات" ضمن الرواية الواقعية الاجتماعية، وإن كان الجانب الرمزي فيها حاضرا بقوة من خلال أسامي الشخصيات، أو الأمكنة، أو بعض الإشارات الواردة هنا وهناك، نتطرق لبعضها في حينه. نحن أمام جنس أدبي مفتوح يمزج في بنيته الداخلية بين السرد والرحلة والمذكرات؛ كما يمزج في لغته بين الفصحى التي هي قوام النص وبين العامية المنثورة في بعض فقرات الرواية، لغة راقية رصينة قريبة من الإفهام وإن كانت تدعوك أحيانا إلى مراجعة المعاجم وكتب اللغة، وتتخللها مفردات وعبارات من العامية الدارجة التي تجد لها ما يعضُدها في المعيش اليومي المغربي.
سأحاول في هذه الورقة أن أتناول الرواية، التي تألفت من سبعة عشر فصلا مرقما، من خلال العناصر التالية:
1. الزمان والمكان.
2. الشخصيات.
3. الأسلوب واللغة.
4. بعض الإشارات.
*****
1. الزمان والمكان:
أ) المكان: فضاء الرواية يمتد دلولاً لا تعْتَورِه إلاّ سراديب حفرها أخَوَا عبد الرحمن ( عبد الرحيم والمهدي) طمعاً في استخراج الثمار مما في هذه الوادي غيرِ ذي زرْعٍ، الأول أراد أن يغرف من بئرٍ مُعطّلة، والثاني حلُم بقصرٍ مَشيد على غير أسس متينة، رغِبَ كل واحد منهما بغير زادٍ رصين ولا هدىً مبين أن يغتنيَ بطرق أحلّواْ فيها الأهواء وأباحواْ المحذور، فزهدتهما البدايات كما رغبت فيهما النهايات. قُلْت الفضاء أرضٌ تمتدُّ حدَّ البصر، أرض واطئة غير سِرْتاح، عطاؤها لصيق بما في جوفها من مياه، ليس في مُكنة أهلها جنْيُ خيراتها إلاّ مَن استسقى، وقد قلب معاطفه وأثنى عِطْفَيْهِ وأدار ظهره للقيم والأخلاق التي جُبِل عليْها المغربي البسيط ، عبد الرحمن. فهي الأرض التي حولها أمثال هؤلاء المتسلطين "إلى سجون مقفلة على بعضها، ومحروسة بعناية من أهالٍ تحوّلواْ ـ فجأة ـ إلى لصوص محتملين !" (ص132). قبلها كان الناس يحرصون أرض بعضهم بَلْهَ أن يتطاولوا عليْها.
استدعى السارد جمال أوربا، شرقيَها وغربِيَها، محاولاً التخفيف مما فعلت عوامل الطبيعة بأرض الرحامنة وأهلها ، "الأرض القرعاء من الشجر" (ص7)، وسَمَت الحرث والنسل بميسم صخورها الصامدة تتحدى منذ النشأة الأولى، شاهدة على مَن مرَّ وعبَرَ أو استقرَّ وأقام. أرض خبرها بلقزيز وكأنّا به ممن جاب ربوعها "جيئةً وذُهُوباً" (ص48)، يحذوه "أمل قليل يتسرب إلى نفس ضاقت بالكرب واليأس" (ص45).
فضاء الرواية فضاءان: الأول فضاء واقعي حقيقي يبادرنا به بلقزيز منذ الفصل الأول وحتى نهاية الرواية، وعلى رُكحه لعبت كل الشخصيات وأدت الدور المرسوم لها سلفاً، حيث قدم لنا توصيفاً جغرافياً واجتماعياً للمكان الذي نشأ فيه عبد الرحمن وتولّدت عليه أحداث الرواية؛ فضاء تمسك به السارد أيَّما تمسُّك، فهو الأرض التي يُتَطيّرُ منها لمَّا تساءل الأستاذ سي محمد : "ما بال هذه المنطقة المنحوسة تضج بالمفاجئات السيئة: تلامذته النجباء يتساقطون ما إن يكبروا ويغادروا الأهل" (ص 171). بل هي الأرض التي يتساءل السارد عن كُنهها وجوهرها في أن تأتي بأمثال عبد الرحمن "شيء ما في نفسه يهْجِس بشعور الغرابة ! هل ما زال في الأرض بشر من هذه الطينة؟ ألم يولد عبد الرحمن ويكبر في بلاد الرحامنة،" (ص341)، أو "كأن الرجل ما ولد في هذا المكان، وبين أهله. كأنه فلتة من فلتات عصرٍ يضيق بوجود أمثاله" (ص159). وبين هذيْن الحدَّيْن من التّطيُّر والتّفاؤل تتسارع أحداث الرواية لتُكمِل بناءها الدرامي.
والفضاء الثاني، فضاء تخيُّلي استدعاه بلقزيز مما حصَّلَهُ من معارف تقاذفتها دواليب المطابع ووسائل الإعلام عن مجريات الأحداث العالمية كتوصيفه للتحركات التي قام بها عبد الرحيم ببلاد الصرب والبوسنة، أو باكستان وأفغانستان، أو الفضاء الذي برع في الإحاطة به، والذي يمكن أن ننعته بالفضاء السينمائي، وهو فضاء يُرصَد في مواقع عدة من الرواية، تقديم هذا الفضاء يوحي بأن السارد ينتوي من خلاله أن يُوطِّد الطريق لسيناريو، ما عليك إلاّ تثبيت الكاميرا والقيام بتصوير المشهد، من قبيل ذلك ما ورد في الصفحة (124):" عاد متباطئاً وعينه على الضيعة من دون أن يرفع رأسه ويثير الشبهة. لم تعد بديعة بعد. فتح باب البيت الخشبي وتركه مواربا وهو يطل من الشقوق. لكنه خشي أن يراه أحد من أهله ويسأله سبب وقوفه على هذه الحال، فغادر خارجاً، ثم اهتدى إلى حيلة أخرى؛ أنزل البَرْدَعة من على ظهر البغلة وبدأ في نفضها، ثمّ أعادها بهدوء وبدأ في شدِّ خيوطها على وسط الدابة. بانت بديعة، وأخيراً، وهي تتهادى في مشيتها. ركّز نظراته على الساقين والصدر وحين اقتربت رفع عينيه، فحيّته بيدها وبابتسامة، واختفت في السيارة. كان شيْءٌ ما ينتعش بين فخديه وينتفخ، وضربات قلبه تشتد وتتردد في سمعه." أو مثل المشهد الذي جاء في الصفحة (126): " لم يكن أحد في حفل عيد الميلاد غير والديها وأخيها وأختها وابنة عمتها نفيسة. دخل محرجاً، وجلس محرجاً، في حضرة ناسٍ بدَوْا له من عالم آخر من فرط ما بدا عليهم من نعمةٍ في اللباس والأكل والفرْش...أما بديعة فبدت كالعروس بفستانها وعينيها المَكْحُولتيْن وأحمر الشفاه الذي وضعته لها أختها...شعر بالضعف والخجل من لباسه المتواضع، فانكمش على نفسه كالقنفذ، وتحاشى النظر في العيون. وحين دعته بديعة إلى مشاركتها وأهلِها إطفاء الشموع الأربع عشرة المثبتة على الحلوى، قام يتعثر في مشيته ووقف بعيداً، فسحبته من يده، وقد سَرَت حرارتُها في جسمه. وحين تحلقوا حول المائدة لإطفاء الشموع، فوجئ بها تطوِّقُ كتفه بذراعها الشمال،...فغاض قلبه في داخله، وزحف الدّم إلى وجهه إلى حدّ الاحتقان، ولم ينقذه ظلام الغرفة، بعد إطفاء الشموع، من حرجه لأن ذراع بديعة كانت لا تزال تُمسِك بكتفه، وتُلهِبُ مناطق مختلفة في جسمه؛ سارع إلى الجلوس ليُخفيَ ثورتها وهياجها قبل أن تمتد يدٌ إلى زرّ الكهرباء فتنير الغرفة."
مثل هذه المشاهد تتكرر في الرواية مما يوحي كما تمت الإشارة إليه بأن السارد تراوده فكرة تحويلها إلى عمل سينمائي. وفي حالات عدة يؤثث الفضاء الروائي بمؤثرات صوتية مستوحاة من التقلبات الطبيعية التي تفرضها المنازل الفلكية والفصول: "ولد في زمهرير البرد والشتاء، وولدت حيث ما زال بعض الدفء يغمر المكان،" (ص125).
ب) الزمن: الزمن كما المكان زمنان: الأول يتساوق مع البناء الدرامي للرواية ويتحدَّدُ من خلال الفعل الموَظّف في مطالع فصولها السبعة عشر (الفعل الماضي في الفصول:1ـ2ـ7ـ8ـ9ـ12ـ13ـ14ـ15، ثم الفعل المضارع في الفصول:4ـ5ـ16ـ17). وهذا التوظيف ينسجم مع السّرْد الروائي، ودلالة الجملة الفعلية تفيد الحركة والتجدُّد وهي تلميح وإشارة إلى أن أحداث الرواية تمتدُّ في فضاء لا ينتهي وإنْ غلَبَ عليه الزمن الماضي الذي ولَّى وفاتَ؛ فضاء الرحامنة يَعْيَى فيه البصر وهو يمتد ليرجع خاسئاً غير لاوٍ إلاّ على سراب الصّهد وموجات الحر؛ وهذا يجعل الزمن في الرواية رتيباً لا يتحرك يكاد يكون ساكناً ما لم تحركه الأحداث من خارجه. ونكاد نجزم بأن الأحداث طارئة على بلاد الرحامنة وإن كانت الوقائع فيها ومن أهلها.
والزمن الثاني هو زمن نفسي؛ زمن الوسوسة وهواجس الخاطر؛ يصل السارد إلى محطة ما في سرده، فيتوقف ليرويَ مقطعاً توْضيحاً وبياناً لتلك المحطة بالعودة إلى الذاكرة:"غير أن أخاه وعده بأن يخبره بشأنه حين يأذن الله" (ص250). يستمر في سرد الحدث ليعود في الصفحة (253) إلى عبارة "حين يأذن الله" في قوله:"إلاّ من إشارات أقلقته. عبارة مثل » حتى يأذن الله « قد لا تستوقف أحداً، لكن عبد الرحمن يعرف أخاه ويقيس نبض كلامه.". ومن ذلك لمّا تنازعت أخاه عبد الرحيم أهواء الحسرة بزواجه من»كريستين« التي أنجبت له »يارا« إذ يعود إلى زمن قرانه: "لأول مرة يشعر بأنه أخطأ حين تزوج امرأة بقيت على دينها" (ص225). "»أنا الذي أهنت نفسي يوم تزوجت... «" حتى قال: "كان ينبغي أن يقول يوم »تزوجت امرأة على غير ديني « " (ص230).
*****
2. الشخصيات:
يُسْتشفّ من تتبُّع شخصيات رواية "سراديب النهايات" أن ليس هناك شخصية البطل الأسطورة؛ بل يمكن رصد ثنائية عجيبة، ثنائية التمييز فيها يجعل "سي محمد" الأستاذ في العُدْوَة الدّنيا باعتباره الضمير الحي التي يستشيره عبد الرحمن في كل ضائقة، والبقية الباقية في العُدْوة القُصوى ليس لَها من هَمٍّ إلا إنجازُ الدورِ الدرامِيِّ المُوكَل لها في الرواية. أتناول هذه الثنائية من خلال ثلاثة أزواج أراها تفي بالغرض: السارد وعبد الرحمن، المهدي وعبد الرحيم، ثم يارا وأسامة.
أ) السارد وعبد الرحمن: شخصية السارد تُعدُّ محوريةً في بناء أحداث الرواية من أوّلها إلى منتهاها، ما إن تتوارى هذه الشخصية عن الأسماع حتى تفسح المجال لظلّها في الرواية "عبد الرحمن"؛ عبد الرحمن الخيط الناظم للبناء الدرامي والمحافظ على توازن الأحداث حتى لا تخرج من يد بلقزيز الذي وصفه بمن يجُسُّ النبضَ أو مَنْ يضبطُ حرارة الحدث حتى لا يتجاوز الحدود. في حقِّ هذه الشخصية المتفرِّدة التي "كأنّ(ها) فلتة من فلتات عصر يضيق بوجود أمثاله" (ص159)، جمَّعَ أو قُل مرَّرَ السّارد جُملة من القيم، أراد أو يريد لها أن تشيع في المجتمع المغربي؛ قيم الصدق، والأمانة، والإخلاص، والحب، وهلُمَّ جرّاً...ضدّاً على "القيم الجديدة الزاحفة على النفوس قَضْماً" (ص160). وفي هذا نلمس توفيقاً يسجّلُ للسارد.
تنسجم بنية عبد الرحمن الجسدية مع البيئة التي هو منها؛ البدوي المُسْتميت في المحافظة على أرض الآباء، يوصِدُ الأبوابَ في شجاعة ورباطة جأشٍ أمام من يطمع في فضِّ بكارتها بغير حقها، هو نفسه المتعلِّقُ وِجْداً وصبابة ألْبساه رِقّةً ونُعومةً لا تنعم بها أرض الرحامنة إلاّ متى ارتوت فتهتزُّ؛ رقة ممزوجة بحياءٍ وخجلٍ مع غيْرةٍ على الأرض وعلى عِرْضِ "حليمة"، تلك التي أوقفه ميله إليها واجِماً بابن جرير وقد ضاق صدره ولم ينطلق لسانه إلاّ من همهماتٍ وأفكارٍ متطايرةٍ ومتضاربةٍ جعلته كسير الفؤاد والخاطر مما علِمَه من علاقة بين "حليمة" و"يوسف" ابن "العياشي"، يتساءل عندها "كيف يمكن لابن إقطاعي ثري أن يُحبَّ فلاحة فقيرة تستخدمها العائلة في السُّخرَة؟" (ص120) ليأتِيَ الجواب عمّا تساءل في شأنه: "لا شكّ أن الذي بينهما علاقات متعة جسدية فحسب. وسيقضي منها الوغد وطراً ويرميها مثلما يرمي ثيابه الوسِخة. ومثلما رمى أبوه عهد الاستغلال المشترك للأرض في وجهه هو، رامياً بأسرته جميعها إلى جحيم الفقر." (ص120\121). بل لا يكتفي بهذا حيث يختلط عنده الوجد والحنين بالإنساني لمّا يقرِّرُ التالي: "ضاعت حليمة منه إلى الأبد، وهو راضٍ بقضاء الله في هذا، ولكن ينبغي ألاّ تضيع هي من نفسها فتُساق إلى الرذيلة" (ص130). وفي مثل هذا يتوَحَّد عبد الرحمن مع السارد، ثمّ لا تجده في كل أحداث الرواية إلاّ ذلك الرجل الذي يحضُنُ على أفراد الأسرة لا يأْلو جهداً في الحفاظ على الموروث الطبيعي والثقافي للعائلة الرحمانية حتّى يسلِّمها لمن يأتي بعده.
ب) "المهدي" و"عبد الرحيم": أخَوَيْ عبد الرحمن يُشكِّلان زوجاً من نوع آخر؛ أمُلَ عبد الرحمن في المهدي أن يتعلّم وينجح لكن "ينهار كل ما بناه من آمال عليه في أن يتعلّم وينجح ويصير ذا شأن يعلو به مقام الأسرة في البلد المحيط" (ص158). يلج المهدي سرداب الاغتناء غير المشروع لينتهي به في كماشة مُرَوِّجِي المخدرات، التي نخرت البلاد والعباد ولا من جمارك على الحدود؛ بل ينتهي الأمر بالمهدي من الإدمان إلى المتاجرة في المخدرات ثم السجن، بعد ما مرَّ به السارد عبر الحرم الجامعي ليعالج ظاهرة مَرَضية أخرى قضَّت مضجعه؛ في الحرم الجامعي يصطدم المهدي بهزّة ترمي به في شراك المخدرات بعدما "خرّبوا تجارته ولمّا تبدأ، منعوه المأكل والمشرب مثلما فعل العياشي. كلهم تجار شرِهون لا يقنعون بما بين أيديهم، فيتطاولون على حقوق الغير وإن كانت تافهة، لا ضمير مهْنياً لديهم ولا يحزنون، ومن الأحسن أن يتقيَ شرّهم. قرّر أن يتوقف اجتناباً للمكاره والتماساً للأمان." (ص99). فالمهدي ما غادر جُبّاً إلاّ ليقع في آخرَ معطّلة لوالبه منكوثة حِباله.
في الطرف الثاني من هذه الثنائية تقبع شخصية عبد الرحيم الحالم بمشاريع يغتني منها فتستفيد منه العائلة والمنطقة، ويصير له بال وغاشية كأعيان البلاد، ركب شراع الهجرة، وانغمس في أرض الافرنجة، متحليّاً بقيمها ونظامها، حاول جَهده أن يجد له هوية يُوطّن فيها نفسه، فكان قرانه ب"كريستين" التي أنجبت له "يارا".
لم تتحمّل شخصية عبد الرحيم الزخم الثقيل، للبوْن الشّاسع بين منشئه بالمغرب وإقامته بالغربة، ويا ما تصَدَّعت أنْفس وانكسرت عزائم ورمت بأصحابها من المغتربين إلى التيه والبحث عن توازن وتحقيق الذات؛ ينشأ عن هذا صدام الذات\الشخصية ، صدام بين الغرب والشرق ولكل حمولته الفكرية والثقافية، بين عبد الرحيم الذات الشرقية وكريستين الذات الغربية، صدام بين الإسلام والمسيحية، صدام لم يَقْوَ على حلْحلته لينقذف في سرداب التطرف تدفعه الحاجة إلى الاغتناء والتسلق، هذا السرداب قاده إلى نهاية قَفَلَ بها بلقزيز روايته، نهاية تفسح المجال للمخيال ينسج المقاطع والمشاهد يلتقطها من زوايا مختلفة.
ت) "يارا" و"أسامة": ثنائية تستدعي منّا الخوض بعض الشيء في دلالة اختيار هذه الأسماء؛ فهما اسمان لطِفْلَيْ عبد الرحيم من زواجين: يارا من كريستين البوردولية وأسامة من فاطمة البوسنية.
اسم "يارا" اسمٌ تمتزج فيه المعاني باختلاف الموارد التي يغترف منها؛ فهو الصاحب والمعشوق والقدرة والتّمكُّن والشجاعة عند أهل النيروز أرض فارس، كما هو الماء اللُّعاب بأرض الأناضول ، و هو الزّهرة الجميلة أو هو تحوير لأيّار الشهر السرياني، أو قل الحبيبة والعشيقة والصاحب المُعين في أرض فينيقيا؛ أرض مَن ركب البحر على ذات ألواحٍ أرزيّةٍ ودُسُر وجاب شُطآن الفيروز المتوسط، ولعله مَن رحَل معه اسم "يارا" إلى هناك؛ وحسْبُنا أن يكون اسماً يُطلق على أول زهرة تخرج في الشجرة بعد فصل الشتاء والإمطار. فكيف لا تكون زهرة متفرِّدة وقد جاء بللُها وطلُّها من "الأرض القرعاء من الشجر" (ص7)، فيُخصِّبُ تربةً غجريةَ القسَماتِ بأرض الخصب والكروم والنبيذ، الأرض التي لم تحرث لخصبها لكن لحرّيتها، اختلط فيها أحمر مراكش بأحمر بوردو؛ ليُسْفِرَ عن خلْطةٍ أمشاجٍ تمخّضَت عنها "طفلة كالقمر" (ص225)، بيضاء لا كدر يشوب صفاءها، أيْنعَت هذه الحُمرة جلُناراً وورداً دمشقياً على خدَّيْها؛ خديْ "يارا" التي أضاء ميلادها أركان بيت عبد الرحيم بفرنسا، وانفلت ضوْؤُها شعاعاً من كوات البيت عند الأهل بالرحامنة، ليَسْكن قَلْبَيْ عبد الرحمن وأخته صفية.
لم يعتقد أو ما اعتقد من لم يُسائِل التاريخ والحضارة والبحر أن الأنثى في هذا الفضاء وفوق هذه البسيطة تُحرّكُ نسيماً رقيقاً يفوح عطره وأريجه ليغمر الرّحْبَ، فتشرئبُّ الأعناق وتستفيق الكوامن واللواعج، بعدها تتشكلّ أمواج تُدخِل البسمة والنشوة في مداعبتها على الأهل والأحباب، وما إن تتكسّر هذه الأمواج على قصور الرمال إلاّ وتترك عُقْبولاً وبقيةَ عداوةٍ وعشقٍ تتجيّشُ على إثرها الجيوش، وينهض في داخل عبد الرحيم "المعتصم العباسي" لنصرة "يارا" بلغَهُ أنها استغاثت منادية "وامعتصماه !". ويمكن أن تكون "يارا" بلاط الشهداء؟ أو زهرةَ المدائن التي لم تنْحنِ وقد أثخنَتْها الحملات العسكرية ردْحاً من الزمان ولا زالت؟ شيء أكيد أن "يارا" صارت بؤرة صراع لا يهدأ؛ فهي و"اللاذقية بين أحمد والمسيح، هذا بناقوس يدق وذاك بمئذنة يصيح" (المعري).
تلكُمُ "يارا" التي "في سبيل(ها)، في سبيل أن تظل مسلمةً ولا تُصرف عن دين أبيها، مستعد (عبد الرحيم) أن يموت، أن يرتكب أية حماقة" (ص225). ولعل وصول عبد الرحيم إلى الخنوع والخضوع من قبيل "أطال الله عمرك، يا مولانا الشيخ، وأبقاك لنا ذخراً وملاذاً. أنا تحت أمرك في ما تراه وترضاه" (ص242)، لعل هذا ما زجَّ به في غياهب وسراديب لم يكن يقدّر عواقبها، يدخل في قران جديد بفاطمة البوسنية التي فقدت المُعين والمُعيل، لتجد نفسها في بيت الزوجية عند عبد الرحيم، هذا الذي لفظَتْه إلى الدار البيضاء قوانين الأسرة بفرنسا المانعة لتعدد الزوجات. فاطمة أنجبت لعبد الرحيم مولوداً ذكراً، تنازعا تسميته، هي تريد تخليد اسم أبيها "علي" وهو يأبى إلاّ أن يسمِّيه "أسامة"، ويؤكِّد لفاطمة أنه "لو كان الشهيد الحاج علي حيّاً، لكان أول مَنْ وافقَني على تسمية حفيده باسم أسامة، لأنه يعرف ما الذي يعنيه هذا الاسم" (ص344). أَوَ يكون "أسامة" الهزبر الكاسر كما تشير إلى ذلك القواميس العربية، وقَسْورة الذي منه تفرُّ الحُمُرُ المستنفرة؛ أو أسامة الذي قاد الجيوش الإسلامية لدحض الكذَبة المتنبئين؛ لعلّه أسامة الذي هدَّ التوأمين من عليائهما، ليُمرِّغَ أنوف أصحابها في التراب. زعموا أن أسامة من فعل ذلك ببُرْجَي التجارة الحرة ليَسْتبيحواْ الحرثَ والنّسل ويُنكِّلواْ بالأموات والأموال. ويظلّ هذا الاسم "أسامة" حاملاً لأقنعة يمكن تأويلها في كل اتجاه وضرْبٍ ، أقلّها استفاقة أمّة من سبات عميق ليُزَجَّ بها في مخاضٍ ما أنجب حتى الساعة إلاّ خوادِجَ لم يكتمل نُضْجهم بعد. وعن كل هذا يسكت السارد ورافده عنه من الثرات غزير ولم يسمح لأسامة بالإفصاح عن ذاته.
*****
3. اللغة والأسلوب:
لغة الرواية سهلة سلسة توصِل المعنى بغير تكلُّفٍ، تنأى عن العبارة المعقدة واللفظ المُزْجاةِ، إلاّ ما كان من عبارات دارجة على اللسان المغربي من قبيل " الفيرمة ـ التراكتور ـ موتورات ـ التارازا، أو المصرانة الزايدة ـ بحايْر ـ بغْرير..." عبارات متداولة ومُسْتأنسة في الوسط المغربي.
من الأساليب التي وظفها بلقزيز في روايته المزاوجة بين ضمير الغائب والمتكلم ليأتي الخطاب حَكْياً من جهة، وحواراً بين شخصيات الرواية من جهة أخرى، وهذا الذي يُكسب الرواية تنوعاً في الإيقاع، وهذا التنوع يؤثثه بأسلوب الاستفهام والتعجب، وبأسلوب الأمر والالتماس والطلب، وبالجمل القصيرة التي تسرِّع الحدث أو الطويلة التي تسمح للسارد بأخذ النفس؛ كما يختار العبارة البسيطة تَعْتقد أنها من الدارجة لكثرة تداولها، ناهيك عن العبارة الصعبة التي ترغمك على المعجم إن أردت صبْر كُنهٍها، بَلْهَ وهو العارف باللسان العربي. استعمل من الجموع منتهاها " عقابيل ـ أمائر ـ علائم ـ بشائر" كما استعمل المتداول منها، وأكثَرَ من فعل الكينونة لينسجم مع طابع الحكاية؛ أسلوب تستفيد منه دونما خوّةٍ أو إتاوة؛ يستدعي فيه السارد المثل الشائع بين الناس من باب: "دهن السير اسير"، "ابن البط عوام" أو "هذا الشبل من ذاك الأسد" (ص159)، وهي أمثال يُقوي بها المعنى الذي يريد إبلاغه للمتلقي، كما يستميل بها القارئ ليتفاعل مع أحداث الرواية؛ ثمّ في أماكن أخرى يوظف إشارات ذات حمولة ثقافية وأنتربولوجية قوية، تختزل ذاكرة شعبية مراكشية: "على مقربة من» دفة وربع« على تقاطع السمّارين والعطارين" (ص149)؛ فدفَّة وربع واقعة لا يعرفها غير أهل مراكش أو المهتم بتاريخ المدينة.
*****
4. بعض الإشارات:
ماذا عن عنوان الرواية: سراديب النهايات؟
* السرداب هو قبو تحت أرضي يأوي إليه المرء اتقاءً من حر الصيف، وهو النفق الذي يسمح بالعبور من ضفة إلى ضفة، وهو ما يعتقد البعض أن الخلاص يأتي منه فجلس على مصراعيه يرقب متضرعاً ومتَمسِّحاً ليُكمِلَ العدد الثاني عشر. وكانت السراديب لآخرين، الأمل الوحيد لديهم بعدما صدّتهم الأسوار وحالت بينهم وبين استنشاق نسيم الحرية.
* النهاية غاية كل شيء وآخره، ولا تكون إلاّ متى كانت هناك بداية، فقد تكون المنايا نهاية، وقد تكون الفوضى التي لا تتماشى مع النظام الكوسمولوجي نهاية، كما أن كل ولادة هي نهاية حياة وبداية أخرى، والنهاية حد الدار.
* العنوان "سراديب النهايات"؛ مضاف ومضاف إليه، عرّفَ الكاتب السراديب بالنهايات، و شِبْه الجملة هذا يفيد الخبر عن مبتدإ محذوف، لك أن تقدِّرَه كيف شئت ! لكن لا أراه يخرجُ عن النهايات التي بلغها العالم اليوم من تمَكُّن المظاهر المادية وتقدُّمها بشكل صارخ على القيم الإنسانية، مظاهر سلبت الإنسان إنسانيته وأفرغته من كل قيمة بناها واكتسبها عبر تاريخه؛ نهاية المهدي ونهاية عبد الرحيم تُدخِل المتلقي سردابا معتماً، وما هما إلاّ صورة لما آل إليه المواطن العربي أو ما أُريدَ له أن ينتهي إليه، صورة سوداوية قاتمة لا يُرى بصيصُ نورٍ من خلالها إلاّ باهتا على لسان ضمائر حية كضمير الأستاذ سي محمد...
* عبد الإله بلقزيز وحتى يُحرِّك الأحداث، فتح سراديب عِدة لا تتحملّها الرواية؛ السراديب التي عهدناها أنفاقاً نحتمي بها من الحر على مداخل الدور، فكيف بها تسند إلى النهايات، ونهايات الدور حدودها وليس بعد الحدود إلاّ كوّات وتاقات يدخل منها النور إلى البيوتات، سراديب يمكن أن تكون موضوعة أعمال سردية أخرى، ولعل هذه الجبهات \ السراديب التي ولجها الكاتب، يمكن إِجْمالها في:
- مسألة الأرض وطرق استغلالها في المجتمع المغربي بين التقليدي والعصري، ومدى تنازعها بين ملاكها البسطاء والطغمة الإقطاعية التي تتحكم في رقاب العباد بما تَوَفَّر لها من أموال وسلطة بحق أو بغيره، وتأثير الظرفية المناخية والطبيعية والاجتماعية في تأجيج الصراع بين الفقراء والأغنياء، صراع تولّدت عنه هشاشة قاتلة أو طاردة إلى الهجرة وركوب المخاطر.
- الهجرة والاغتراب عن الأوطان وفي النص إشارات قوية تدلُّ على مدى معرفة السارد بنفسية المهاجر والمغترب، كيف يقضي سحابة يومه بأرض المهجر، ويعيش عمره على أمل العودة إلى الوطن، ولم يغفل حتى العودة السنوية للمهاجرين وكيف يستعدون لها باقتناء الهدايا والظهور بمظهر الناجح في تجربته هاته أمام أهله وصحبه بالبلد الأصلي.
- الاغتراب والاستلاب بأرض المهجر وما يؤجِّج ذلك من ميز عنصري واختلاف عقدي وثقافي بين المهاجرين وأهل الأرض في التعامل مع جملة من القضايا منها قضية المرأة، الشغل، السكن، المأكل والمشرب، النظام المدني، والمواطنة...
- حوار الأديان والحضارات بين الإمكان والاستحالة ، وهذا وحده يستحق شكلاً دراميا خاصّاً نظراً للأحداث الكثيرة التي يشهدها العالم اليوم، ونظراً لكون أغلب الحروب والمآسي البشرية ناتجة في الظاهر عن ذلك وإن كانت المصالح الاقتصادية هي المحرك الأقوى لهذه الأحداث.
- وهناك إشارات أخرى لموضوعات يمكن التفصيل فيها والوقوف عليها ملِياً مع الكاتب لعل له رأياً فيها من قبيل المسألة اللغوية، اللغة الموظفة من طرف بعض الجماعات: "الفنادق حرام في هذا البلد لأنها أوكار للفسق"(ص281)، أو التبعية للغرب: "إنه نظام مستورد منها (فرنسا) مثل سائر النظم الإدارية والمالية والقضائية" (ص93)، أو الوعي السياسي لدى الإنسان المغربي: "إن معظم شعراء العرب، وكتابهم وفقهائهم، وفلاسفتهم ، وملوكهم من العراق. لكن الكويت... لم تكن له سابق معرفة بها" (ص57)، أو الموقف من التكنولوجيا الحديثة: "وفكّر في أن الذي اخترع فكرة هذا الهاتف لا بدّ من أن سيكون قد فكّر في طريقة لتيسير الخيانة الزوجية، أو للتغطية عليها ! " (ص273)...