بعدما أطلق شعار تحرير الفرد ٬ انصب الاهتمام على الجسد - باعتباره وحدة قائمة الذات - لاستكشافه. أصبح حينها الجسد المركز النابض بالحياة والحيوية يسجل حضوره بوصفه لغة تعبيرية تفصح عن خطابات متنوعة.
فالخطابات تتسربل بوجع التلفظ ٬ وتمسي المهمة تدوينا لوثيقة الكلام الذي استرد سلطانه رافضا التكتم . ومن منطلق أن الخطابات تراهن على اللغة التي تستدرك بوحها، يسجل الجسد هذه المرة تواجده في العالم بناء على اللغة التعبيرية والرؤية البانورامية من خلال الحركة، والشكل، واللون... إذ يمكن لهذا الكيان أن يوحي بخاصيات الذات٬ هكذا يتحول الجسد إلى تعدد خطابي يحيل على معان متعددة.
ٳذ لم يعد الجسد كما في التفكير الكلاسيكي؛ يتبدى بوصفه أجهزة فيزيولوجية هي محصلة خلائط كيماوية . وبتعبير أدق ٬ ليس الجسد مجموع الأجزاء الممتدة الجوفاء ٬ بل أصبح بتعبير ميرلوبونتي (Mérleau- Ponty) "هو التفكير أو تلك القصدية التي يدل عليها "[1].
فالإنسان لابد أن يحتويه الجسد القائم، لن يكون شيئا آخر بدونه، فدليل الإنسان جسده . إن التشخيص اللحمي والعظمي هو المعطى المباشر في مستوى الواقع، أو الدلالة، أو اللغة " فأشخاص الرواية الفنية، أو الحكاية الشعبية موجودون دائما بدون أجسادهم، لكن لا تتعامل معهم المخيلة إلا وهم مجسدون[2]".
فبواسطة الجسد يتم تمرير خطابات ذات معان روحية ودنيوية، عرقية وثقافية، أخلاقية وسياسية. فاللون الأسود " يحمل عند المسيحيين دلالات روحية ودينية تدل على الالتزام بالواجب. والأبيض يحيل عند بعض الشعوب على السلم والأمان، كما أن للأصفر عند الصينيين دلالات عرقية و ثقافية " [3].
إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على حيازة نموذج للجمال ٬و ذلك وفق نموذج المماثلة القائم بين لغة الإنسان وجسده. فلقد صور الفن الإغريقي في الرسم والنحت بدقة متناهية الجسد العاري، وأضاف إليه محسنات جمالية تستهويه إلى مرتبة الكمال. فخطوط الجسد و تضاريسه ترسم هضابا وسهولا ونتوءات وتموجات تتفتق عنها خطابات الإغواء وقواه الضاربة. كذلك طقوس الرقص في بعض الحضارات التي تعبر عن القهر أو التمرد على قيم اجتماعية سائدة...
الكل يسعى إلى فهم الجسد، والكل ينخرط في نشاط وفي حركة يضفي من خلالهما على الفعل مغزى فيسعى إلى تنظيره. فأنواع الخطابات الجسدية ليست سوى تلك التي وضعها الجسد تحت تصرفه، وأحيانا وعلى وجه أكثر حصرا، وضعها الوسط الاجتماعي الذي ينحدر منه. إنها أفكار وصور وضوابط وقيم ومثل عليا وأساطير، قصص وتطلعات. هذا التعدد الخطابي يشكل الطرائق المختلفة عند الجسد لتصور صلاته المتبادلة مع الذات والعالم الخارجي.
[1] -( Page 57) . (Hors-série)Penser l’homme du 20 ème siècle. N° : 17 Avril- Mai 2008. Le point
[2] - الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي ( العدد 138-139) شتاء 2007، ( صفحة 4).
[3] - كتابات معاصرة ( مجلة الإبداع والعلوم الإنسانية) .العدد 66 المجلد 17. تشيرين الثاني – كانون الأول2007، ( صفحة 85).