توفيت في نهاية نونبر2014 الكاتبة المصرية رضوى عاشور ..التي ولدت في 26 مايو 1946 في القاهرة ودرست الأدب الإنجليزي، حصلت على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة القاهرة و الدكتوراه من جامعة في الولايات المتحدة،اشتغلت بالتدريس في كلية الآداب بجامعة عين شمس، كما عملت أستاذة زائرة في جامعات عربية وأوروبية .
تعدد إنتاج د. رضوى عاشور ما بين دراسات نقدية منها =(الطريق إلى الخيمة الأخرى.. دراسة في أعمال غسان كنفاني) و(التابع ينهض.. الرواية في غرب إفريقيا) 1980 و(البحث عن نظرية للأدب.. دراسة للكتابات النقدية الأفرو-أمريكية) 1995./
كتاب (في النقد التطبيقي بعنوان "صيادو الذاكرة ) عبارة عن مجموعة مقالات ومداخلات وشهادات تبرز اهتمامها بالإبداع في مختف تجلياته (القديم والحديث-العربي والأجنبي -الشعر الفصيح والزجل-الرواية والقصة والقصيدة والمسرح-المرأة والكتابة.الاستشراق والأدب الإفريقي..الخ)، كما عملت من خلال كتابها ( الحداثة الممكنة )2009على إنصاف أحمد فارس الشدياق مما لحقه من حيف باعتباره احد رواد النهضة وكتابة الرواية في تاريخ الأدب العربي الحديث.
ولها أعمال سردية لفتت انتباه النقاد ومنها (حجر دافئ) 1985 و(خديجة وسوسن) 1989 و(قطعة من أوروبا) 2003 و(ثلاثية غرناطة) وتتشكل من ثلاثة أجزاءهي: (غرناطة 1994 +مريمة +الرحيل) 1995 و(أطياف) 1999.
إلى جانب السيرة الذاتية وضمنها كتاب (الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا) 1983 (تقارير السيدة راء) 2001 و(أثقل من رضوى)2013 إضافة إلى اشتغالها بالترجمة...
نالت الكاتبة عدة جوائز من مصر(أفضل كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن الجزء الأول من ثلاثية غرناطة 1995 )وخارجها ومنها جائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان 2007 وجائزة سلطان العويس للرواية والقصة من الإمارات.
*عالمها الإبداعي غني غنى حياتها الحافلة بالكفاح والصمود، بالقراءة والسفر.وهي من طينة الكتاب الذين يتآخى في كتاباتهم الذاتي والموضوعي،العام والخاص،الوطني والقومي ،الآني والتاريخي،الواقعي والوثائقي والمتخيل،الثقافي والاجتماعي والسياسي بل إنها أحيانا تجمع بين" المكان المتخيل والتاريخ الفعلي" بشكل رائق جذاب كما في رواية"سراج".
نماذجها الإنسانية كثيرة وغنية بثراء حياتها كمثقفة عضوية متعددة الأنشطة والعطاءات.
شخصياتها متنوعة(نساء ورجال من مختلف الأعمار وأطفال وشيوخ تجار وعبيد وثوار،عرب وأجانب،زعماء وسلاطين ) تجذبنا إلى عوالمها فنندمج مع انشغالاتها، قراءاتها، واهتماماتها وهمومها ،وأحلامها وآلامها.
نماذجها النسائية مستقاة من بيئات مختلفة لكنها تقاوم وتناضل بصمود وتؤرخ للسقوط بمختلف مظاهره على اختلاف المكان والزمان:
في الثلاثية(ثلاثية غرناطة) المرأة الأندلسية في مواجهة التهجير والتنصير والترحيل
الطنطورية:نسبة إلى طنطور وهي قرية فلسطينية محايدة لحيفا المرأة الفلسطينية في مواجهة الاقتلاع الصهيوني والتهجير وحياة المخيمات( ورضوى عاشور زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوتي ووالدة الشاعر تميم البرغوتي)
فرج وأطياف:المرأة المعاصرة في مواجهة الاستبداد والانبطاح والاعتقال السياسي..كما يتم تقديم.صورعن المعتقلات والسجون..
في خديجة وسوسن..تجسيد حي لمقولة المرأة لا تولد أنثى ولكنها تصير كذلك بفعل التربية والثقافة السائدة حيث التمييز بين البنت والولد منذ النشأة وحرمان الأنثى من ممارسة الكثير من الأنشطة المسموح بها للرجل رغم تفوقها وكفاح المرأة لإثبات الذات والاستقلال من خلال خديجة الأم وسوسن الابنة
كاتبة منخرطة في الواقع المعيش ومغرمة بالتاريخ المقروء لإعادة الحفر في تضاريسه:
في "ثلاثية غرناطة".تجعلك تسبح من جديد في نهر الكابوس الأندلسي وهي تحكي بهدوء صاخب عن تأثير أخطاء الساسة الكبرى في حياة الناس البسطاء الذين يبحثون في تفاصيلهم اليومية عن لحظة فرح. تستعيد معها فواجع الخذلان والسقوط والرحيل المفجع مع الاكتفاء بحمل مفاتيح المنازل مخيرين بين التقتيل أوالتهجير أوالتنصير(وحمل المفاتيح نجده أيضا في الطنطورية) . وكيف لايتدفق أمامنا الدمع الغرناطي والكاتبة التاعت بالنكسة وقبلها بالنكبة وما جاورها وتلاها من مذابح ومجازر ومعاناة الشتات واللجوء وكل صور الوجع في "التغريبة الفلسطينية"والتي أرخت لها في ( الطنطورية) واكتوت مثل الجميع بسقوط بغداد تسعينات القرن العشرين وهو الحدث الذي حرضها على كتابة الثلاثية:فالمرأة العارية التي استهلت بها الثلاثية والتي رآها أبو جعفر كانت من وحي صورة امرأة عارية تناقلتها الشاشات مباشرة بعد سقوط بغداد 2003 كما صرحت بذالك في حواراتها العديدة.
تتنقل بين الأمكنة والفضاءات، من الصعيد المصري إلى الحي اللاتيني بباريس ،بين الإسكندرية والجزيرة.من المشرق إلى المغرب،بين البر والبحر،وصافة ترصد الجزئيات وتضبط تحركات الشخصيات وسكناتها ، أفعالها وانفعالاتها. تجعلك ترى المشاهد والملامح تتراءى أمامك : –سجون وعنابر القاهرة -عوالم البحر والبحارة –مظاهرات الجامعات- صالونات الحلاقة- والحركات الطلابية بجامعات باريس بفرنسا-حياة المخيمات –حتى تفاصيل المعيش اليومي لأهل غرناطة اطلعت عليها حتى قدمت لنا تحفة غرناطية بامتياز:الأسواق -الحرف والصنائع(الدباغين -الوراقين بحي البيازين –ماكان يجري في الحمامات الغرناطية ووصف موكب اكريستوف كولومبوس العائد من العالم الجديد) فكأنك تراها رأي العين.....
توقف السرد لتزج بك في صور مشهدية أخاذة أو ترمي أمامك برسالة أو وثيقة أو تتلو عليك قصائد أوحكايا من الواقع أو مقتطفات من أعمال سردية لكتاب آخرين(كما فعلت مع مذكرات احمد المرزوقي في رواية " فرج "وفرج اسم فرخ الحمام الذي تبناه السجين في تازمامارت) وكأن كل الأبعاد المشكلة لشخصية رضوى تتدافع لتعلن عن أحقيتها في الظهور :المناضلة الحقوقية والناقدة والباحثة الأكاديمية والمبدعة كما في قطعة من اروبا.
ثيمات الاشتغال عندها تكشف اهتماماتها ومستواها الثقافي إبداعا ونقدا: تؤرخ للنضال والحروب ،والهزائم والعادات والتقاليد ،والاختلاف الثقافي والعلاقات الإنسانية، وأسئلة الهوية والوطن والتاريخ والكتابة والحرية والزمن..ومثلما تتوقف عند تجربة الاعتقال وقسوة السجن توازيها بسجن آخر لايقل عنه شراسة ،ألا وهو الواقع المرير بكل تجلياته في مجتمع تقليدي تمزقه كل مظاهر القهر والتسلط والتخلف... وغيرها مما ينم عن مستوى ثقافي رفيع وحس إنساني عميق.
تحترم فعل الكتابة ولا تستسهلها نتيجة العلاقة الصوفية بالقراءة والكتب وعلاقة الالتزام بقضايا الناس وهمومهم على مختلف طبقاتهم وانتماءاتهم ومشاربهم'/الفلاح-المثقف-ربة البيت-الأستاذة الجامعية-الطلبة-/تتصادى في كتابتها أصوات إبداعية ونقدية متعددة ومتنوعة تنم عن سعة أفق ومشروع ثقافي فكري حضاري .
آمنت رضوى عاشور بان الكتابة طريق إلى حياة أخرى عريضة .تجعل منها حيوات تفيض بالعطاء والحضور والإنتاج.
ستفتقدها الساحة الثقافية المصرية والعربية، كباحثة أكاديمية وأديبة رصينة، ومناضلة وفاعلة جمعوية ،ومربية مقتدرة وكاتبة كانت تكتب لأنها تحب الكتابة
"وأحب الكتابة... لأن الحياة تستوقفني، تُدهشني، تشغلني، تستوعبني، تُربكني وتُخيفني وأنا مولعةٌ بهـا"رضوى
من مقال : تجربتي في الكتابة /صيادو الذاكرة ص 220
شغفت بالتاريخ وبالواقع كتاريخ قيد التشكل،تحدثت عن الثورة والمرض،عن الذات والآخرين .وصفت المعتقلات والسجون دون أن تغفل سجونا أشرس وأقسى يخفيها المجتمع خلف أقنعته وتقاليده وقيوده وأعطابه. قدست الحرية فدافعت عن حرية الجامعة واستقلالها وحرية الفكر، لأنها السبيل إلى حريات أشمل. لذلك ارتدت عباءة شهرزاد كي تساهم في توسيع مساحة الهوامش وتحريك البرك الآسنة ،و فتح طرق جديدة لفك العزلة عن الحكايا المخبوءة في الأقاصي:
(تكتبين..تحكين لنا الحكايات..كأنك من سلالة شهرزاد..أنثى الكلام المعاصرة. لاتملين ولاتتعبين يارضوى من رواية الحكايات وكتابتها لنا..كأنك جدة لهذا الزمن الذي نعاني عيشه..ويضنينا قمعه وبحثنا عن كرامتنا فيه.كأنك جدة حداثية..تكتب لتحكي وتحكي فيما هي تكتب عن ضياع تاريخ أو عن تضييع الإنسان لهذا التاريخ وقد اقتلع من أرضه وقريته وبيته ....... هكذا جعلت من الكتابة حياة لك وحياة لنا....) من كلمة للكاتبة يمنى العيد في تأبين الراحلة .