يأتي كتاب بلاغة الحرية للأستاذ عماد عبد اللطيف في سياق مشروعه العلمي الذي يهتم بتحليل الخطاب عموماً، وتحليل الخطاب السياسي خصوصاً، وقد صدر الكتاب سنة 2012 عن دار التنوير، ونال عنه الباحث جائزة أفضل كتاب عربي في العلوم الاجتماعية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الدورة الرابعة والأربعين، سنة 2012.
تتوزع محتويات الكتاب على ثلاثة أقسام، بالإضافة إلى مقدمة حاول من خلالها الباحث تقريب القارئ إلى محتوى الكتاب وأهمية تحليل الخطاب السياسي، ثم خاتمة يمكن اعتبارها لوحدها تشكل قسما موازيا للمقدمة والأقسام الثلاثة، حيث طرح الباحث فيها أسئلة عميقة وخطيرة، هي في تقديرينا تشكّل عُصْب الاشكالات التي تعترض سبيل التحليل البلاغي للخطاب.
يتناول الباحث من خلال أقسام كتابه ثلاثة خطابات هي: خطاب الميدان، وخطاب الشاشات، ثم خطاب الصناديق، ويتناول في كل خطاب تجلياتِه المادية من صور وإشارات ورموز وبرامج تلفزيونية ولافتات وهتافات.. وغيرها، وقد جاءت طريقة صياغة مادة الكتاب سلسةً، جعلتِ الأسلوب غير جاف، حيوي ينبض بالحياة، لا تحس بإزائه بالملل والاستثقال، فقد اعتمد طريقة في الكتابة وكأنه بصدد كتابة عمل إبداعي لا نص تحليلي، إذ تبدو الخطابات الثلاثة وكأنها شخصيات رئيسة في "رواية" عنوانها "بلاغة الحرية"، وفي كل قسم يتحدث خطاب ما عن نفسه، عن أحابيله، عن وسائله، عن غاياته وأهدافه، بيد أن الراوي هنا (الذي هو محلل الخطاب) لا يترك شخصيات الرواية تقول ما تشاء، بل يضعها تحت مبضع التشريح والتحليل حتى يقدّمَها الى القارئ وهي متحلّلة من أقنعتها، بعد أن يكون قد سلّط الضوء على أساليب الاقماع فيها وآليات التضليل التي يتوسل بها الخطاب للتأثير في المتلقي.
لماذا "بلاغة الحرية"؟
قد يقول قائل وهو بصدد قراءة عنوان الكتاب؛ ما شأن البلاغة بالميادين وخطاباتها؟ وما علاقتها بالحرية؟ وما جدوى إسقاط التحليل البلاغي على خطابات معترك "الثورة المصرية"؟
في تقديرنا، إن هذه الأسئلة وغيرها نابعة من النظرة الاختزالية التي عانت منها البلاغة منذ مدّة ليست بالقصيرة وما زالت، نظرة قزّمت البلاغة وحصرتها في جزء أو محور منها فقط، فثمة من اختزلها في البعد الحجاجي، وثمة من اختزلها في الأسلوب، بيد أن حقيقة البلاغة أعم وأوسع من هذا، هي نظرية في المعرفة تهتم بدراسة طرق ووسائل التواصل والاتصال، وتبحث في كيف يؤثر خطاب ما في المتلقي، وما الأساليب التي يعتمدها لإبلاغ رسالته، وما هي الأحداث التي أطرت مناسبة إنتاجه، وكذا يسعى التحليل إلى الإحاطة بطبيعة الفاعلين المشاركين في إنتاج الخطاب. إذن، التحليل البلاغي هنا ليس هو تتبع الصور البيانية التي يوظفها خطاب ما، ولا الاقتصار على دراسة المكون الحجاجي فقط، بل إن التحليل البلاغي في كتاب "بلاغة الحرية"، بالإضافة إلى هذا، فإنه يعمد أيضا إلى وضع الخطاب المدروس في سياقه الداخلي والخارجي، ويدرس إمكاناته التواصلية وقدرتها على التأثير، وكذا يبحث في أساليب التمويه والتضليل التي يوظفها الخطاب لاستمالة من يُفترض أنه مُستقْبِلُه ومتلقيه، كما يسترفد التحليل البلاغي أدواته من حقول معرفية أخرى؛ مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس.. وغيرها.
إن بلاغة الحرية هنا هي تسليطٌ للضوء على الخطابات السياسية الأساس التي تعاركت وتصارعت في زمن الثورة المصرية، وذلك من خلال الاستعانة بمختلف الآليات التحليلية لتوجيه أشعة الضوء إلى مكامن العتْمة في الخطابات المدروسة، فيبدو لنا من خلال التحليل الذي قدمه الباحث أن كل خطاب تحكمه رؤية خاصة لقيمة الحرية بوصفها القيمة التي تنشدها الثورة، لذلك جاء عنوانه ممهورا بعنوان فرعي: "معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة" ليكشف عما يقصده الباحث ب"بلاغة الحرية" الذي قد يبدو لأول وهلة عنوانا رومانسيا ديدنه تمجيدَ قيمة الحرية فقط.
إن التحليل البلاغي للخطاب السياسي عند الاستاذ عماد عبد اللطيف ينطلق من همّ معرفي يروم دفع الشح الذي يعاني منه تحليل الخطاب السياسي العربي، ومردّ هذا الشح إلى أن علماء اللغة والباحثين في البلاغة لا يولون أي اهتمام للغة السياسة لأسباب ذاتية وموضوعية لا يسمح المقام للتفصيل فيها، ومن جهة ثانية فإن دارسي العلوم السياسية العرب لم يألفوا بعد استخدام المقاربات اللغوية والبلاغية في دراسة السياسة العربية، ولا يهتمون أيضا بباقي العناصر الأخرى التي يرسل من خلالها الخطاب السياسي رسائله من صور وألوان ولافتات وأيقونات وجرافيت.. وغيرها، بل عادة ما تهتم دراسات السياسة العربية بالمضمون الايديولوجي أو الأفكار دون الانتباه إلى كيف قُدمت هذه الأفكار وكيف تفاعل معها الجمهور ولماذا نجحت أو فشلت في إيصال رسالتها.
محلل الخطاب السياسي: هل هو مثقف أم خبير؟
إن تحليل الخطاب السياسي يهتم بحقل حسّاس و خطير يرتبط بشكل مباشر وواضح بمصالح الناس بوصفهم أفرادا أو جماعات وتنظيمات وتجمعات سياسية وفكرية وعقدية، بسبب هذا الوضع فإن الاقدام على تحليل الخطاب السياسي يعدّ في حدّ ذاته مغامرة غير مضبوطة العواقب، الامر أشبه بوضع اليد في عش الدبابير، لأنه ببساطة لا أحد يقبل منك بأن تكشف أساليب التمويه والتضليل التي يوظفها لتحقيق مآربه الخاصة، أضف إلى ذلك أن محلل الخطاب هو أولا وأخير انسان له هواجسه وانتماءاته وأفكاره، لذلك ينبجس السؤال الخطير: كيف يفترض أن يقدم محلل الخطاب السياسي نفسه أثناء تحليله لخطاب ما؟ هل هو مثقف له رأي وله موقف تجاه ما يعتمل في المجتمع، أم عليه أن يقدم نفسه بوصفه خبيراً يوظف مهاراته التي اكتسبها بحكم التخصص في تحليل الخطاب؟
بالنسبة إلى الأستاذ عماد عبد اللطيف في كتابه، فقد نبّه إلى كونه لا يدعي أنه كان على مسافة واحدة مع كل الخطابات المدروسة، بل كان يحكّم منطق الانتصار للمبدأ والقيم الإنسانية، أي أنه بوصفه محللا للخطاب ينأى بنفسه عن الانتصار للمواقف السياسية والحزبية الضيقة، لكنه لا يلغي ذاته التي تنتصر للقيم الإنسانية الكبرى.
ختاما، لابد من تسجيل ملاحظة مهمة جداً، وهي أن من يقرأ كتاب "بلاغة الحرية" سيندهش حقاً للرؤية الاستشرافية التي تنزّ منه، فرغم أن الكتاب صدر سنة 2012 في زمن تولي محمد مرسي الرئاسة المصرية إلاّ أنه من خلال تحليله لمختلف الخطابات تنبه الأستاذ عماد عبد اللطيف، ونبّه إلى حجم الشرخ الذي تخلقه بعض الخطابات حتى وإن اتشحت بمسوح الثورة، والمآل الذي قد يؤدي بالثورة في حال استمرار هذه الخطابات وتزايد حدّتها، وهو الأمر-للأسف- الذي لم يستوعبه الخطاب السياسي المصري، فلم تمر سنة على هذا التنبيه حتى كان البلد يعيش أقصى درجات الانقسام السياسي والذي كانت له تبعات وخيمة ما زال الشعب المصري يعيش ويلاتها إلى حدود الآن.
ولعل هذا التنبيه أحد أهم مزايا التحليل البلاغي للخطاب السياسي كما قدمه الأستاذ عماد عبد اللطيف في "بلاغة الحرية".
• باحث في "البلاغة وتحليل الخطاب"، من المغرب.