ـ مقدمة
إن الإبداع الأدبي بصوره التَّعَاقُدِية ليس تَرِكَة لمبدعه، بل هو من مُمْتلكات التاريخ الأدبي بنصوصه وأعلامه، فالأديب ليس مبدعا بالمعنى الصناعي لأن الإبداع، بما هو إنشاء أدبي على غير مثال أدبي سابق، لا يتحقق إلا بالقوة، في حين أن وجوده بالفعل يبقى مرجأ إلى سجلات المستقبل، وبهذا لا تكون الإبداعية خصيصة الأدب لأن منتجه يُوَّلد منتوجه الأدبي بآليتين، تتجلى إحداهما في الامتصاص بما هو استبطان النص – الحاضر للنص – الغائب باعتباره المستودع الذي يحتضن الأفكار والأساليب التي تخترق أجواز المجالين الزماني والمكاني، وتتمثل الأخرى في التحويل بما هو تنضيد لهذا الإرث الأدبي وترصيص لجواهره في ديباجة جديدة، وبهذا تكون التوليدية خصيصة الأدب، فالإبداع في المجال الأدبي لا يعدو أن يكون، في رأي بارت، وَهْما لأن الفعل الأدبي فعل توليدي يتداخل في إنجازه فاعلان؛ أحدهما متوارِ وهو الذاكرة القرائية بعامة والإرث الأدبي بمعانيه وأساليبه بخاصة، والآخر بارز وهو الأديب الذي يُؤلِّف بين ألوان هذا الإرث لتَتَمَشْهد في صورة جديدة، ويُنشط ذاكرته القرائية التي تتداعى تراكماتها الكمية والكيفية في مسطوره الأدبي لتتمظهر في مولود إبداعي متعدد الأنساب والجذور الأدبية.
تنشغل هذه السطور برواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ التي صدرت في ستينات القرن الماضي، ويمثل هذا الكائن الروائي، بإجماع النقاد، المرحلة الثالثة من التجربة الروائية المحفوظية التي توارد على التوالي المرحلتين التاريخية والواقعية، وقد اصطلح على هذه المرحلة بمرحلة الواقعية الرمزية. وتعتبر هذه المرحلة في التِّرحال الروائي عبر العوالم السردية المحفوظية امتدادا للمرحلة الواقعية في اختزان المَنْسُوج الروائي لهموم الفرد والجماعة وطموحاتهما المستقبلية، وفي احتضانه للهامش بأزماته المادية وتناقضاته النفسية، لكن النَّجيب في هذه المرحلة قد شكل هذه التيمات في بنية سردية تقوم على تعدد الأصوات وتداخل الأزمنة وتفاعل الأحداث، كما صاغ عوالم المهمشين ومأساة المعذبين بلغة رمزية تقوم على التكثيف والإيحاء والغموض.
ولا تنشغل هذه السطور على " اللص والكلاب" بغاية استكناه وظائفه واستيعاب خطابه في إطار المقاربة البنيوية لهذا المنحوت الروائي لأن هناك تراكما كميا في هذا الإطار، بل تتغيا هذه السطور استكناه النصوص الغائبة واستكشاف الأرواح الأدبية التي تتوارى في البنية العميقة لهذا المكتوب الروائي لأن للنص الأدبي بعامة وللنص الروائي بخاصة ذاكرة أدبية. إن هذه المقاربة لَحَفْرٌ في ذاكرة "اللص والكلاب" لاستظهار ما يمتصه هذا المصنوع الروائي من مواد فكرية وأدبية، وما يستبطنه من كينونات إبداعية قديمة وحديثة، وما يستعيده من أرواح وأنساب إبداعية في إطار تفاعل اللاَّحق الروائي بالسَّابق الإبداعي.
ـ غرامشي في الحارة: المثقف العضوي ـ المثقف المدجن
لا ينكتم على العقل القرائي في الجغرافيا العربية أن التوجه التعليمي للنَّجيب ارتبط بالمجال الفلسفي غير أن موهبته لم تنكتب إلا في المجال الروائي، وقد احتار النَّجيب في الاختيار بين لذة التفكير الفلسفي ومتعة التخييل الروائي، وتتمظهر هذه الحيرة في قوله " كنت أمسك بيد كتابا في الفلسفة وفي اليد الأخرى قصة طويلة من قصص توفيق الحكيم أو يحي حقي أو طه حسين، وكانت المذاهب الفلسفية تقتحم ذهني، في نفس الوقت الذي يدخل فيها أبطال القصص من الجانب الآخر، ووجدت نفسي في صراع رهيب بين الأدب والفلسفة"، ويكتشف المتأمل في هذا الأثر النصي أن النَّجيب قد تعمق في تاريخ الفلسفة باستكناه مفاهيم هذا الحقل واستبطان مذاهبه واختبار أدواته ومعايشة أعلامه وتلقي مصنَّفاته. إن للنَّجيب ذاكرة فلسفية تختزن المقروء الفلسفي، وما من شك في أن هذا المنبع اليانع لا بد أن يروي أدبه بأن تتداعى مكوناته في المسطور الروائي من خلال اتخاذ كواليسه حيزا للاشتغال والتوجيه دون أن تنبجس على الركح الروائي.
تستعيد "اللص والكلاب" المنتوج الفلسفي لأنطونيو غرامشي بعامة وأطروحته في الثقافة والمثقف بخاصة. والحق أن هذا الإبداع الروائي ما هو إلا صياغة روائية، بما هي فن الفعل والحركة، لدفاتر السجن لأنطونيو غرامشي بما هو إبداع نصي يتواشج في متنه الفلسفي بالأدبي والألم بالأمل والكائن، بما هو بؤرة للاستبداد والاستغلال والطبقية، بالممكن بما هو بؤرة للعدالة والحرية والمساواة.
تقدم السرديات الحديثة تَوصِيفَين للرواية، فإذا كان الإبداع الروائي يتمحور حول الحدث فإن هذا الإبداع يوصف برواية الحدث، أما إذا كان المنتوج الروائي يتمحور حول الشخصية فإن هذا المنتوج يوصف برواية الشخصية. إن قراءة عالمة للنص الروائي المحفوظي، موضوع المقاربة، لتؤكد أن هذا النص لا ينسحب عليه هذين التوصيفين مما يدل على أن هذا المبدع قد افترع جمالية جديدة في الكتابة الروائية تنزاح عن المعهود الجمالي والتقليد الأسلوبي في الإبداع الروائي، ولعل ذلك مِمَّا يحفز على استحداث توصيف جديد يميز هذا العمل الروائي عن غيره من الأعمال الروائية الأخرى. وقد يكون التَّوصيف السردي الذي يستوعب جمالية هذا النص الروائي وتميَّزه الأسلوبي وجِدَّة اتجاهه الروائي هو الرواية الأطروحة لأن هذا العمل الروائي يتمحور حول أطروحة التغيير بما هو إحياء للإنسان الذي يتضوع منه الموت وبعث للمجتمع الذي يتضرج عذابا، فهذا المنتوج الروائي مناظرة فكرية حول ممكنات التغيير وآلياته غير أنه مناظرة جديدة تنبني على الفعل والفعل المضاد وليست مناظرة تقليدية تتأسس على الموقف والموقف المضاد.
يقدم النَّجيب في هذا المنتوج الروائي نموذجين للمثقف، يتجلى أحدهما في المثقف المُدَجَّن بما هو مثقف عَدَّل إِحْدَاِثيَّته الفكرية وغيَّر انتماءه الطبقي والمذهبي، ويتمثل الآخر في المثقف العضوي بما هو مثقف مخلص لتربيته الفكرية ومثقف وَفِيٌّ لمذهبه الإيديولوجي. ويمثل النموذج الأول في هذا المتن الحكائي رؤوف علوان الذي تَمَشْهَدَ في صورتين متناقضتين فكريا وعقائديا واجتماعيا، فقد كان رؤوف علوان صوت المظلومين ولسان الحقيقة وضمير الإنسانية، كما اضطلع بدوره كمثقف في المجتمع، ويتضح ذلك في ثلاثة مستويات، يتجلى المستوى الأول في إنتاج الفكر من خلال بلورة تصور جديد يعتبر السرقة فعلا مشروعا وعملا نضاليا، وقد قَيَّد ذلك بقيدين؛ أولهما أن يستهدف هذا الفعل الكُتلة المُهَيمِنة، وثانيهما أن توزع غنائمه على الكتلة المُضْطَهَدة. ويتمثل المستوى الثاني في الميل إلى الجماهير الشعبية من خلال استنبات الوعي الصحيح واجتثاث الوعي الزائف، فقد علَّم رؤوف علوان سعيد مهران مبادئ الاشتراكية وأصول الكفاح وسبل المُمَانعة، كما غرس في تلميذه هاجس التغيير باعتباره حاجة مجتمعية مستعجلة. ويتجلى المستوى الثالث في الاحتجاج العقلاني على الكتلة المهيمِنة، ويظهر ذلك في تحفيزه سعيد مهران على الإغارة على هذه الكتلة بما هي جَسُّ للحصون ومنورات استشرافية لثورة عبيد الحقبة الحديثة. ويرسم هذا التوصيف السردي صورة لرؤوف علوان الذي يرأف على أبناء طبقته المضطهدة ليعلو بالإنسان المعذب من دركات المعاناة والشقاء إلى درجات الكرامة والمساوة " رؤوف علوان... الطالب الثائر. الثورة في شكل طالب... عن الأمراء والباشوات تتكلم. وبقوة السحر استحال السادة لصوصا. وصورتك لا تنسى وأنت تمشي وسط أقرانك في المديرية بالجلابيب الفضفاضة وتمصون القصب... وكان الزمان ممن يسمعون لك. الشعب.. السرقة.. النار المقدسة.. الثروة.. الجوع.. العدالة المذهلة " (1).
إن القارئ الفِتِيشِي لهذا العمل الروائي لا بد وأن يتوقع أن هذه الشخصية قد تنشغل بالآخر المُغيَّب وبمشروع التغيير المجتمعي حتى تتحقق العدالة الاجتماعية وتتوفر عوامل الحياة الكريمة للأفراد، لكن أفقه القرائي ينخرق باكتشافه أن رؤوف علوان قد تزيا بأخلاق جديدة ومبادئ هجينة، فقد أصبح، بتعبير غرامشي، موظفا لدى الكتلة المهيمِنة وخبيرا في إضفاء الشرعية على ممارسات الإقطاعيين الجدد مما مكنه من تحقيق مكتسبات مادية ( قصر وسيارة فارهة) ومعنوية (الشهرة والنجاح الاجتماعيين). ويعكس هذا التوصيف السردي صورة رؤوف علوان الذي خان ذاته وطبقته " هذا هو رؤوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب. أما الآخر فقد مضى كأمس أو كأول يوم في التاريخ... ترى أتقر بالخيانة ولو بينك وبين نفسك أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟، ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟، أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت التحف والمرايا إلى بيتك، ولكنني لن أجد إلا الخيانة" (2). والحاصل أن رؤوف علوان قد تمكنت الكتلة المهيمِنة من تدجينه بأن أصبح، بتعبير بول نيزان، كلبا يحرس مملكة الإقطاعيين الجدد بما هي بؤرة للثروة والسلطة والاستغلال.
ويعتبر سعيد مهران في هذا العمل الروائي نموذجا للمثقف العضوي " أنا مثقف، وتلميذ قديم لك، قرأت تلالا من الكتب" (3). ويتضح ذلك في ثلاثة مستويات، يتجلى المستوى الأول في أن هذه الشخصية تنتصر للطبقة الاجتماعية الدنيا، والدليل على ذلك خوضه حروبا ضد الكتلة المهيمِنة لعيون الكتلة المضطهَدة بالإضافة إلى توزيع غنائمه على مكونات هذه الكتلة، فالسرقة، من منظوره، فعل نضالي يعيد عن طريقه توزيع الثروات بشكل عادل على أفراد المجتمع " هل امتدت يدك إلى السرقة؟ برافو، كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك. وشهد هذا الخلاء مهاراتك (4). ويتمثل المستوى الثاني في انخراط هذه الشخصية في قضايا المجتمع من خلال العمل على تغيير الواقع الاجتماعي، فسعيد مهران يحمل رؤية إصلاحية تمكن من بلوغ العدالة الاجتماعية وتحقيق الإقلاع الحضاري، وتتأسس هذه الرؤية على أدبيات الفكر الاشتراكي "وذات مساء سألك: سعيد ماذا يحتاج المرء في هذا الوطن... إلى المسدس والكتاب، المسدس يتكفل بالماضي والكتاب بالمستقبل" (5). ويتضح المستوى الثالث في دفاع هذه الشخصية على النسق القيمي الكوني كالكرامة والعدالة والوفاء، ومحاربته للنسق القيمي البراغماتي كالانتهازية والخيانة والاستلاب " وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا، آن للغضب أن ينفجر ويحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها القديمة " (6). إن سعيد مهران في هذا العمل الروائي لصوت المظلومين في زمن عزَّ فيه العدل الاجتماعي ولَمُفجِّر الثورة في زمن عزَّ فيه الثوار ولضمير الإنسانية في زمن عزَّ فيه الإنسِيُّون.
إن النَّجيب في هذا العمل الروائي قد اختبر التصور الغرامشِيِّ في الثقافة والمثقف بنقله من الميدان الفلسفي بما هو فضاء للموقف والموقف المضاد إلى المجال الروائي بما هو فضاء للفعل والفعل المضاد، وقد حقق بذلك النَّجيب لهذا التصور الآنية والمعايشة، كما جعله، بهذه الصيغة الروائية، يخترق مجالات جديدة مما يبرهن على أنه تصور كوني. ويؤكد، كذلك، النجيب بهذا المنتوج الروائي أن المعطى الفلسفي لا يؤطر العلوم فحسب، بل يمكنه أن يؤطر، كذلك، الفنون الإبداعية من شعر ومسرح ورواية.
شهريار في الحارة: الخيانة ـ الانتقام ـ التطهير
إن قصة "ألف ليلة وليلة" نموذج للمسرود القديم، وقد اغتربت هذه التُّحفة الحكائية في الجغرافيا العربية لردح طويل من الزمن لانكتاب أحكام انطباعية حول هذا الكتاب غير المُعَلَّم، فقد وصفه ابن النديم في الفهرست بأنه "كتاب غث، بارد الحديث" مما عرَّضَه للحِصَار الأدبي والهَجْر القِرَائي، ولم تستكنه قيمته الفنية إلا في جغرافيا الآخر الذي انشغل بهذا الأثر الأدبي من خلال استثمار مخزونه التعبيري وطاقاته الفنية في المكتوب الأدبي بشقيه الشعري والروائي، فقد استحال منبعا يانعا للإلهام الفني لرموز الأدب الغربي كجيمس جويس ومارسيل بروست وخورخي لويس بورخيس. إن هذا التِّرحال إلى عوالم الآخر قد سَلَّط الاهتمام على اللَّيالي في الجغرافيا العربية، فقد رسم هذا الكتاب أفقا جديدا للأدب العربي الحديث بتحوله إلى ينبوع للوحي الفني لرموز هذا الأدب كتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم كثير.
تستعيد "اللص والكلاب" روح الليالي (ألف ليلة وليلة)، فالليالي تُؤَطِّر من حيث النواة الروائية هذا المنتوج المحفوظي الذي يأخذ مسارات سردية ويشهد إبدالات حكائية لا تصدع هذه النواة، ليكون بذلك نجيب محفوظ قد بعث الليالي بنص روائي يحتذي في بنيته الروائية النموذج الحكائي القديم. والحق أن هذا العمل الروائي لمُعَارَضَة روائية لكينونة اللَّيالي، وقد نسخ النَّجيب هذه الروح لتخترق أجواز انوجداها الزماني والمكاني.
ويعتبر سعيد مهران شهريار هذا الصوغ الروائي، فقد تعرض، كما شهريار، للخيانة الزوجية بما هي إخلال بِصَكِّ عشق قديم، وبما هي، كذلك، انكتاب لعقد حب جديد. فزوجته (نبوية) لم تخنه إلا مع خادمه (عليش) الذي كان يلبي باسمه في استعادة لمشهد الخيانة في بلاط شهريار" وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا"(7). لتكون، بذلك، الخيانة قدرا في لوح شهريار، وبما أن سعيد مهران يستنسخ روحه، بإرادة من النَّجيب، فإن الخيانة لا تعدو أن تكون من نتائج التاريخ الذي يعيد نفسه. ويَتَمَشْهَدُ التناسخ، بما هو حياة سعيد مهران لحياة شهريار، على مستوى الاستجابة للمثير السلوكي (الخيانة)، فقد استجاب سعيد مهران لهذا المثير استجابة شَهْرَيَاِريَّةً من خلال الانتقام من النماذج الإنسانية التي تَدِينُ بِدينِ الخيانة كنبوية وعليش ورؤوف علوان "قمة النَّجاح أن يقتلا معا، نبوية وعليش. وما فوق ذلك يصفي الحساب مع رؤوف علوان"(8). وتعد نور شهرزاد هذا الكائن الروائي، وتحاول، كما شهرزاد، أَسْلَمَةَ سعيد ـ شهريار بما هو كبح لرغبة الانتقام المتقدة وتعطيل لفعالية القتل المتوهجة في هذا الهُو. وانزاحت نور عن التقليد الشَّهْرَزَادِيِّ في هذا المشروع الإِنْسِيِّ، فقد آثرت الحب على الحكي لتبيد غريزة حب القتل في سعيد ـ شهريار "فقالت ضاحكة (نور) وكأنها وثقت من امتلاكه إلى الأبد: أحطُّك في عيني واكحل عليك" (9)، غير أن هذا السبيل لم تتمظهر أهدافه النبيلة على صعيد السلوك المَهْرانِيِّ، فسعيد مهران واصل مخططه الانتقامي حتى استسلامه "وواصل إطلاق النَّار في جميع الجهات... وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام، فاستسلم بلا مبالاة" (10)، بخلاف شهرزاد التي طَهَّرت شهريار من رغبة القتل وغريزة الانتقام، فقد تطَبَّعَ على السلم والأمن، كما تبدَّلت نظرته للمرأة التي لم تعد معادلا موضوعيا للخيانة بل أصبحت، بإرادة شهرزاد، معادلا موضوعيا للحب والمودة.
إن النَّجيب بعث في هذا العمل الروائي روح الليالي بأبعادها الثلاثة، ويتجلى أولهما في الخيانة بما هي تلويث للعلاقة الزوجية، ويتمثل ثانيهما في الانتقام بما هو استجابة سلوكية للمثيرـ الخيانة، ويتجسد الآخر في التطهير بما هو تبطيل لفعالية القتل في الذات ( شهريار) التي تولد من جديد. إن المشهد الاستهلالي لليالي مشهد تراجيدي غير أن المشهد الختامي قد تزيا بألوان السعادة، وقد استنسخ النَّجيب المشهد الافتتاحي في مفاصله الكبرى ( الخيانة ـ الانتقام ـ التطهير)، ولا ريب أن القارئ قد رسم، وهو يمسح هذا النص الروائي ببصره، نهاية سعيدة، على غرار نهاية الليالي، لأحداث هذا العمل الروائي غير أن أفقه القرائي ينخرق لأن النَّجيب ابتدع مشهدا مأسويا ليكون قفلا لهذا المتن الحكائي، ليكون بذلك النَّجيب قد برهن على أن اللَّيالي روح يانعة تستطيع أن تتمظهر في أجناس جديدة تحيا بها مما يعطي لهذا الكتاب غير المُعلَّم حيوات متعددة.
ـ اتجاه أَمْ اتجاهات
إن رواية اللص والكلاب رواية تسجيلية بتصوير هذا النص الروائي، بالعبارة الحمَّالة للأوجه الدلالية، التفاصيل الدقيقة من الحياة المصرية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية باعتبارها عَلَماً على الحيوات العربية في مجالات أخرى. ويُحَاول هذا المنتوج الروائي الأعمال الروائية الواقعية باختزانه للهامش بوصفه بؤرة للفقر والأمية والاضطهاد في صراعه التاريخي مع القُطر بوصفه بؤرة للسلطة والثروة والاستغلال، لكن هذا العمل الروائي ينْماز عن شَبَهِه في الاشتغال الروائي بمَشْهَدَةِ الصراع الاجتماعي بين الكتلة المُستَغِلَّة والكتلة المُسْتَغَلَّة في شكل روائي ينبني على الإيجاز والإشارة والرمز في تمرد معلن على أدبيات الكتابة الروائية الواقعية التي تتأسس على التفصيل والتدقيق والتصريح. وقد استطاع النَّجيب بهذا الاشتغال الروائي افتراع جمالية جديدة في الرواية الواقعية تستلهم من الواقعية التسجيلية وتؤسس للواقعية الرمزية. ولم يضطلع النَّجيب في هذا النص الروائي بوظيفة المسجل بما هي نقل أمين للواقع الاجتماعي في تمَوُّجاته فحسب، بل اضطلع، كذلك، بوظيفة الناقد بما هي احتجاج عقلاني على هذا الواقع الذي يستعيد الأُولِيغَارشِيَة البائدة، وبهذا يكون هذا المنتوج الروائي نموذجا للرواية النقدية ـ الاحتجاجية. ولا ريب أن هذا العمل الروائي نشاط غَائِيٌّ يسعى من خلاله النَّجيب إلى تغيير واقعه الاجتماعي المهترئ، ويحمل سعيد مهران، باعتباره صوت النَّجيب في هذا النص الروائي، رؤية إصلاحية لأزمات المجتمع المصري باعتباره جزءا أريد به الكُلُّ العربي، ولا ينكتم على القارئ الفِتِيشِيِّ أن هذه الرؤية الإصلاحية ترتكز على المرجعية الاشتراكية بما هي قوة فاعلة لبلوغ العدالة الاجتماعية وتحقيق الحياة الكريمة، وبهذا يكون هذا العمل الروائي نموذجا للرواية الاشتراكية.
إن النَّجيب قارئ خبير بالفلسفة في أصولها وامتداداتها، وهذا التراكم الكمي لا بد وأن تنعكس ظلاله على مدونته الروائية، ويتمظهر هذا الانعكاس في روايته "اللص والكلاب" التي تستعيد بالفعل والحركة أطروحة غرامشي في الثقافة والمثقف، فدفاتر السجن لأنطونيو غرامشي نص مرجعي يؤطر هذا العمل الروائي. وقد أضفى النَّجيب على هذه الأطروحة بعدا دراميا باختلاق وقائع وشخصيات تنزل الفكرة الفلسفية منزلة الواقعة اليومية. والحق أن هذا المنتوج الروائي لنموذج للرواية الفلسفية باختزانها لفكر غرامشي واختباره روائيا. ويحاور النَّجيب، كذلك، في هذا العمل الروائي المدونة السردية العربية القديمة بعامة واللَّيالي بخاصة من خلال استعادة كينونة الليالي ومفاصلها الكبرى ( الخيانة ـ الانتقام ـ التَّطهير) في شكل روائي حَيَّن اللَّيالي وبعث هذا الكتاب المرجعي في السرديات التراثية، وبرهن النَّجيب من خلال هذا الاشتغال الروائي أن التراث السردي ينبوع خصب يمكنه أن يروي الأدب العربي بأجناسه الجديدة في رحلته الشاقة نحو تأصيله.
والحصيلة أن "اللص والكلاب" صوغ روائي يتواشج في متنه المنجز السردي القديم والمنجز الفلسفي الحديث، ويتراص في داخله الواقع والحلم والكائن والممكن. وينشغل هذا الكائن الروائي بالتصوير من خلال التقاط مشاهد من الحياة الواقعية تلخص أزمات المجتمع وتناقضاته، وبالنقد من خلال الاحتجاج العقلاني على الكائن المجتمعي الذي يزدان بألوان العذاب والمأساة كخطوة ضرورية لاستشراف ممكن مجتمعي مشرق.
ـ خاتمة
إن " للص والكلاب" بنيتان؛ إحداهما سطحية تختزن آلام الفرد وآماله في بنية اجتماعية متلونة طبقيا وأخلاقيا، والأخرى عميقة تحتضن نصوصا غائبة من مشارب متنوعة مَجَالِياً وزمنيا، وما البينة السطحية لهذا الصوغ الروائي إلا تحويل للبنية العميقة التي تختزن ما امتصه النّجيب في احتكاكه الطويل بالتراث السردي، وتقبله العَالِم للمنجز الفلسفي، وتأمله النقدي للواقع الاجتماعي، وأمله الراسخ في ممكن مشرق. ولا أظن، والتوصيف لجابر عصفور، أن أديبا عربيا في العصر الحاضر شغل عقلنا الأدبي مثلما شغله نجيب محفوظ، فعالمه الروائي، بمستوياته المتعددة وعلاقته المعقدة ورموزه المراوغة، يثير جدلا لا ينتهي، ويطرح مشكلات لا تحد، ويغذي جهدا نقديا لا يتوقف في الكشف عن عناصر هذا العالم.
ـ (1) اللص والكلاب، نجيب محفوظ، دار الشروق القاهرة ـ 2006، ص 98 ـ99
ـ (2) م. ن ـ ص 37
ـ (3) م. ن ـ ص 31
ـ (4) م. ن ـ ص 48
ـ (5) م. ن ـ ص 142 ـ 143
ـ (6) م. ن ـ ص 1
ـ (7) م. ن ـ ص 1
ـ (8) م. ن ـ ص 59
ـ (9) م. ن ـ ص 75