" الفرار ليس بالتدقيق هو السفر، كما لا يعني التحرك، لأنه بداية هناك أسفار على الطريقة الفرنسية، أسفار تاريخية جدا وثقافية جدا ومنظمة أيضا (...)، وتثنية لأن الفرارات يمكن أن تقع في نفس المكان عن طريق سفر ثابت..."
جيل دولوز ـ حول تفوق الأدب الإنجليزي / الأمريكي ـ
" الرواية العربية تستطيع مستقبلا، أن تدعم مسيرة تجديد المتخيل الاجتماعي وبلورة القيم التي تنقل مرجعية الصراع الاجتماعي وقوانينه وقراراته من السماء إلى الأرض."
محمد برادة ـ فضاءات روائية ـ
" بالعواطف النبيلة نكتب أدبا رديئا..."
أندري جيد
تختلف تصنيفات الأدب من ناقد إلى آخر، ومن كاتب إلى آخر، وأيضا من قارئ إلى آخر، حيث نتحدث عن أنواع عدة من الآداب وإن كان لها نفس الهدف الأنطولوجي، ونفس الغايات المشتركة، والمتمثلة بالتدقيق في سؤال الغوص في أعماق الإنسان، لهذا نتحدث سواء بوعي منا أو بغير وعي، عن الأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي، والأدب الصيني، والأدب العربي وهلم جرا... على العموم هناك مشترك بين كل ما ذكرناه آنفا، ألا وهو مصطلح الأدب، بيد أن مكمن الاختلاف يسكن ما نسب إليه مصطلح الأدب، وهو ما يزرع فيه منطق الاختلاف وإن كان أدبا في نهاية الأمر، حيث تتدخل عديد العوامل في هاته النقطة من سياسية وتاريخية وإبستيمولوجية وبنيوية، لكن ولكي لا نضفي طابع التعميم الأجوف في هذا المقام، سندقق القول أكثر فأكثر على أدبنا المغربي في علاقته بالأدب العربي بصفة عامة، من ثمة أمكننا أن نطرح جملة من الإشكالات في هذا الصدد يبقى من بينها: هل الأدب المغربي أدب عربي في نهاية الأمر؟ أين تكمن أوجه الاختلاف والتشابه بين الأدبين؟ بل هل يعتبر الحديث عن أدب مغربي في مواجهة أدب عربي صحيحا وسليما، أم أن هناك من الخصائص ما تفرق بين الإثنين أكثر مما تجمع بينهما؟
عندما نعود إلى الأدب العربي بصفة عامة، نجد أنه أدب عرقي/ لغوي، وليس أدبا إبستيمولوجيا مُؤَشكِلا، هو أدب يصنف الكتابات وفق قوة اللغة المهيمنة أي اللغة العربية، وليس أدبا يصنف ما كُتِبَ انطلاقا من العامل البنيوي أو العامل الأنطولوجي، فلنعد إلى تراثنا مثلا نَسْتِشِفُّهُ من هذا الجانب حيث نعثر بين ثناياه على ما نحن بصدد الخوض فيه، ألا وهو هذا التصنيف المجحف، والذي يمكن أن نعثر عليه على سبيل المثال، انطلاقا من كتابات ابن المقفع وسيبويه والفراهيدي وأبي الفتح البُستي... أي هل وجب تصنيف ما كتبه هؤلاء الرجال ضمن الأدب العربي أو ضمن الأدب الفارسي؟ المشكلة تكمن في أنهم يعتبرون من بين بناة الأدب العربي، سواء في النحو مع سيبويه، أو في النقد مع صاحب الأدبين الكبير والصغير، أو في علم العروض مع الفراهيدي، أو في الشعر مع البُستي، وفي معرض آخر فإن هؤلاء اللغويين ما كانوا إلا ليفكروا بمنطق ثقافتهم أي الثقافة الفارسية، وكما نعلم مسبقا وحسب عديد الدراسات الأنثروبولوجية، فإن بنية الذهنية العربية بنية تسليمية وثوقية، عكس البنية الفارسية التي كانت دوما تركز على الصناعات النقدية أكثر من الوجدانية، فلنعد إلى جل ما كتب كي نعثر على طرف الخيط في هذا الأمر، أما من جانب ثانٍ فلا شك أن الأدب العربي قد عرف تحوله من الإبداع العفوي إلى الإبداع المنظم عندما تعرضت بلاد فارس إلى الفتح الإسلامي، وعليه فإنه من الصعوبة بمكان سواء البارحة أو اليوم، تصنيف تلك الكتابات ضمن الأدب العربي باسم اللغة، والحال أن هذا ليس يعني أن اللغة العربية كانت متفوقة على اللغة الفارسية، بقدر ما أن التبعية السياسية بما أن الخليفة عربي، والتبعية الدينية بما أن لغة القرآن عربية، هما اللتان كان لهما الفيصل في هذا التناقض، حيث الفارسي وظف إمكاناته النقدية معالجا بها إبداعات غيره ليس بلغته الأم وإنما بلغة من هو بصدد دراسته، إذ مثله كمثل الذي يفكر باللغة الإنجليزية لكنه يكتب باللغة العربية لأسباب متعددة.
إن هاته العرقية في التصنيف، ربما اعتبرت بلاد المغرب أيضا ضحية لها، حيث المرجع بقي دوما شرقيا، وإن كان المغرب بلادا متنوعة ثقافته بين الأمازيغ واليهود فالعرب، والحال أن هاته المرجعية لم تستطع أن تفرق بين منبع الدين وبين الصناعات الإبداعية والفكرية، السينغال مثلا احتلت من طرف فرنسا، واليوم نلاحظ أن الأدب السينغالي يكتب غالبا باللغة الفرنسية، والسينما السينغالية هي الأخرى تتحدث اللغة الفرنسية، بيد أننا نعتبرها سينغالية وليست فرنسية بطبيعة الحال، لا لسبب إلا لأن إشكالياتها ليست هي إشكاليات السينما الفرنسية، وعليه فقد أمكننا أن نسقط هذا الأمر أيضا على العلاقة بين الأدبين العربي والمغربي، صحيح ان اللغة تجمع بينهما، بيد أن الغاية والطريقة تكادان تختلفان تماما، وذلك بناءً على البيئة التي نشأ فيها الأدب العربي والأدب المغربي.
إن أول معضلة أصابت أدبنا المغربي هي معضلة التبعية، أي أن أدبنا عادة ما نظر إليه المشارقة كونه أدبا تابعا ليس إلا، بل إن هناك من المشتغلين في هذا الأمر من اعتبر أدبنا المغربي مجرد نسخة للأدب المشرقي، لهذا عمل العلامة عبد الله كنون على تقديم أدلة دامغة تدحض هذا التعصب، وذلك من خلال مؤلفه ـ الذي أعتبره شخصيا رسالة إلى من يهمهم الأمر أكثر مما هو كتاب نقدي ـ "النبوغ المغربي"، حيث عمل فيه الرجل على ذكر مآثر الأدب المغربي، وأنه ليس من التبعية في شيء، بقدر ما أنه تعرض لإجحاف تاريخي ليس إلا، صحيح أن لهذا الأمر أسبابا يمكن اعتبارها ساذجة أكثر مما هي واقعية، والتي ليست تكمن إلا في الهيمنة الدينية واللغوية، وصحيح أيضا أن الأدب المغربي قد عرف توهجه عند تعرفه على الحضارة الإسلامية، بيد أنه تمكن بعدئذ من التخلص من هذا الرابط التبعي، وإلا فما الذي يمكن أن نقوله مثلا على مؤلفات طوق الحمامة، والحُلَّةُ السّيراء، وحي بن يقظان، وديوان الشاعر الغزال ـ الذي تفوق ذات يوم في أحد المجالس الأدبية بالمشرق على كل الحضور الذين كانوا يدافعون على تفوق الأدب المشرقي، حيث قام بما قام به العلامة عبد كنون إبان القرن العشرين مبرزا خصائص أدب المغرب الإسلامي ـ دون المرور مرَّ الكرام على كتابات ابن الياسمين، وابن زيدون، وابن الأبار، ولسان الدين بن الخطيب...
في معرض آخر وبعودتنا إلى الأدب المغربي الحديث وعلاقته بالأدب العربي، نلاحظ أن جل الدارسين والمهتمين بالنقد الأدبي، يولون أهمية كبيرة إلى الأدب المشرقي معتبرين أن المغاربة قليلي الكتابة، أو قل قليلي الإبداع، وذلك تكريسا وتلميعا لتلك العبارة الديماغوجية الشهيرة التي طالما رددها العديد :" مصر تؤلف، لبنان تطبع، والعراق تقرأ." صحيح أن هناك جانبا من الصواب في هذا الشأن، يكمن في فقر أدبنا المغربي الحديث إن على مستوى الشعر وبشكل قليل على صعيد الرواية، حيث لم نستطع لحد الساعة ـ وهذا ليس تجريحا في حق شعراءنا المغاربة بقدر ما هو واقع لا غبار عنه ـ لم نستطع أن نجد شاعرا على غرار بدر شاكر السياب، أو نزار قباني أو أدونيس... كما لم تستطع رواياتنا أن تنافس روايات المشارقة كأولاد حارتنا لنجيب محفوظ، أو خماسية مدن الملح لعبد الرحمن منيف، أو ثلاثية حنا مينا، أو عزازيل ليوسف زيدان... أو كتابات من جاء قبلهم كتوفيق الحكيم، وطه حسين، والمنفلوطي والمازني ومي زيادة ونازك الملائكة...
ربما كانت ولازالت هناك عوامل جمة لم تسمح لنا بأن ننافس اللاعبين الكبار في هذا الأمر، وهي التي تجعل من المشارقة يعتبرون أدبنا أدبا تابعا لهم بكل المقاييس، والتي تكمن ليس على سبيل الحصر، في أن الأدب المشرقي عرف انتعاشته بفضل الحملات الاستعمارية ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر مع نابليون في مصر، وأيضا بفضل البعثات الطلابية التي بدأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، مما جعلهم يتعرفون على فن الرواية قبلنا كما فن السيرة الذاتية والمسرح والقصة القصيرة... بيد أن هذا الشأن ليس يعتبر عائقا بقدر ما أن هناك عوامل ذاتية وغير مفهومة أيضا، ساهمت بشكل أكبر في فقرنا الأدبي، وإن كانت تربتنا أكثر خصوبة للإبداع الأدبي أكثر من المشارقة، فأدب البحر مثلا الذي أبدع فيه حنا مينا سواء في عمله المرفأ البعيد، أو في الشراع والعاصفة، أو في نهاية رجل شجاع... لم يجد عندنا من يبدع فيه على غرار أديبنا السوري، وإن كانت مساحتنا الشاطئية أكبر بأضعاف الأضعاف مما هي عليه في بلاد الشام، بما أن المكان في الأدب مكان مُعاش وليس مكانا متخيلا، نفس الأمر نجده أيضا في أدب الصحراء حيث لم تستطع رواياتنا المغربية أن تنافس أو أن تتفوق على ما كتبه عبد الرحمن منيف، وإبراهيم الكوني...
إن هناك من يكرس بيننا تفوق الأدب المشرقي على أدبنا، بل وَبِلَبوسٍ رسمي وذلك من خلال البرامج والمقررات المدرسية المعتمدة، حيث نعتمد على المؤلفين المشارقة أكثر من المغاربة، بل إن في بعض الامتحانات الإشهادية، كامتحان نيل شهادة البكالوريا خلال الموسم ما قبل الماضي في اللغة العربية، تم اعتماد نصين لكاتبين مصريين على التوالي، وكأننا لا نملك كُتابا على غرار باقي الأمم، لهذا على المدرسة المغربية أولا أن تعيد الاعتبار إلى أدبنا المحلي، كما على وزارة التربية الوطنية وبتنسيق مع وزارات معنية كوزارة الثقافة، أن تكرس منطق المسابقات الأدبية، وتنظيم أنشطة للقراءة تشجيعا للناشئة منذ الصغر على التعاطي للصناعة الإبداعية، عاملة أيضا على تعريفهم بأعلامنا المغاربة سواء القدامى منهم أو الجدد.
إن هناك من العوامل الكبيرة ما جعلتنا نسقط في هذا الإشكال التبعي، هذا وإن كان أدبنا فقيرا في بعض المناحي، فإنه يحقق تفوقا كبيرا في مناحي أخرى، خاصة في مجال النقد، لهذا فالحاصل مما تقدم أن أدبنا وبنيته العامة ميالة إلى إبداع فكري نقدي فلسفي، أكثر مما هو وجداني، ولهذا فقط لا بد من الوعي بأن أدبنا يختلف عن الأدب العربي بشكل كبير، وذلك انطلاقا من خصائص جغرافية كقربنا من أوربا أكثر من قربنا من مصر أو سورية أو العراق، من ثمة فإذا كان للمشارقة أدباءهم وطريقة كتابتهم وإشكالياتهم السياسية والدينية والاجتماعية، فإن أدبنا المغربي يمكن أن يتغذى من تيمات الهجرة، والتفكك الأسري، والتفاوتات الطبقية، والفساد السياسي... عندها يمكن أن يتحدث إعلامنا، كما مقرراتنا المدرسية، كما أنشطتنا الفكرية عن الأدب المغربي، وليس عن شي آخر ربما نحن على غنى عنه بقوة المنطق وحجج الواقع.