الأدب الجغرافي العربي، المفهوم، الأنماط والتطور ـ عبد الحق بلقيدوم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse100231-الأدب الجغرافي العربي: المصطلح والمفهوم:
     يشكل مصطلح "الأدب الـجغـرافي العربي" –باعتباره مصطلحا حديثا-نوعا من الالتباس لدى الدارسين، إذ تتداخل فيه مفاهيم لم يفصل الدرس النقدي فيها بصفة صارمة؛ من شاكلة: الجغرافيا الوصفية، وأدب الرحلات، وأدب المسالك والممالك، لذلك كان لزامـــــًا علينا، إذن، من الناحية المنهجية أن نحدِّد المفاهيم قبل الخوض في التفاصيل.
    في توضيحه للغاية من تأليف مُصَنَّفِه الشَّهير عن الأدب الجغرافي العربي الذي عنوانه: "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" يشير المستشرق الروسي أغناطيوس يوليانوفيتش كراتشكوفسكي إشارة من شأنها أن تُحَدِّد مصطلح "الأدب الجغرافي"؛ فيقول: "وليست الغاية الأساسية منه تقديم عرض عام لتاريخ الجغرافيا بقدر ما قُصِد به عرض تاريخ الأنماط الأدبية المرتبطة بعلم الجغرافيا في صورة أو أخرى"(1).
     انطلاقا من هذه الفكرة يمكننا أن نحدِّد أنَّ "الأدب الجغرافي" هو: تلك النصوص الأدبية وغير الأدبية التي شكَّلت الجغرافيا جزءا أساسيا من بنيتها، أو كانت لها وشائج تربطها بها من قريب أو بعيد. وبعبارة أخرى فإن الأدب الجغرافي العربي يُمثِّل ذلك التراث الضخم من النصوص؛ سواء كانت كتبا، أو رسائلا، أو تقارير مهمات، أو رحلات، أو حتى إشارات؛ كتبها أدباء، أو رحَّالون، أو تجَّار، أو لغويون، أو فلكيُّون، عن مواضيع شكَّلت الجغرافيا جزءا لا يتجزَّأ من مضمونها، سواء عَظُم أثرها فيها أو ضعف، بناءً على رحلاتهم، أو اطِّلاعاتِهم، أو تجاربهم الشخصية، أو ممَّا وصلهم من أخبارٍ مِن شتَّى الطرق.
1-1-مفهومه لدى الباحثين:

    إنَّ هذا التعريف يقتضينا أن نَعْرِض لبعض التصوُّرات التي قاربت مصطلح "الأدب الجغرافي" من أجل تحديده، وقد تنوَّعت هذه التصوُّرات، واختلفت تبعا لمفهوم هـذا المصطلح لـدى مختـلف الـباحثـين، وتبعـا للخلـفية العلميـة لكل منهم. وقد تنوَّع هؤلاء بيـن باحـثين عرب وغيرهم من المستشرقين.
1-1-1-لدى الباحثين العرب:
    أوَّل من نُورد رأيَه في هذا الموضوع، هو الباحث ناصرعبدالرزاق الموافي، الذي تضمَّنه كتابه: "الرحلة في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري". يبدأ الباحث بعرض مفهومه بخصوص المصطلح؛ فيقول: "أمَّا مصطلح (الأدب الجغرافي) فإنه يُقدِّم الأدب باعتباره الأصل، ثم تأتي الجغرافيا كفرع، إنه أدب يتناول موضوعا جغرافيًّا من وجهة نظر أدبية تفرضها شخصية الرحَّال ومُكوِّناته الثقافية السابقة" (2).
     تأتَّى هذا التعريف من التقسيم الذي اعتمده الموافي لنصوص الرحلات، حيث يُفرِّق في التراث الرحلي العربي بين ثلاثة أنواع رئيسية؛ هي: الجغرافية الوصفية، والأدب الجغرافي، وأدب الرحلات. ترتبط هذه الأنواع الثلاثة -حسبه-بفعل الرحلة (الإنجاز المادي)، وبالنصوص الرحلية التي تُكتَب عَقِبَه. في إطار هذه الأنواع يرتبط تميُّز كل نص ارتباطًا وثيقًا بشخصية الرحَّال، وبطريقة تدوينه للنص: "فإذا اختفت العناصر الأدبية والذاتية – أو ندرت – صُنِّف النص على أنه جغرافيا وصفية، وإذا حاول الرحَّال أن يُوازن بين الموضوع والذات فإنَّ عمله يُصنَّف على أنه أدب جغرافي، أما إذا طغت العناصر الأدبية الذاتية فإنَّ عمله يُصنَّف على أنه أدب رحلـة يتتبَّع خطَّ سير الرحلة"(3).
    وعلى هذا الأساس يُفصِّل الباحث في رأيه هذا، عندما يقرِّر أنَّ شخصية الرحَّال ومكوِّناته الثقافية هي التي تفرض وجهة النظر الأدبية عند تناوله لموضوع جغرافي؛ إذْ يرى أن كُتَّاب الأدب الجغرافي يتناولون موضوعات جغرافية يعتمدون فـي طـرحهـا على نـهـج عـلـمي، ولـكن بأسلوب أدبي، بحيث "لا يطغى أحدهما على الآخر، وبحيث تظل شخصية الرحَّال بين آن وآخر، لِتُقِيمَ نوعا من التوازن بين الموضوع والـذات، وبحيث يتعلم القارئ ويستمتع في آن"(4).
    وشبيهٌ بهذا الرأي –مع اختلاف في الطرح-ما عبَّر عنه الباحث صلاح الدين الشامي في كتابه "الرحلة عين الجغرافيا المبصرة في الكشف الجغرافي والدراسة الميدانية"، أين فرَّق بين ثلاثة أنواع من النصوص الرحلية في علاقتها مع الأهداف الجغرافية، أحدها –وهو المفضَّل لديه-الأدب الجغرافي؛ يقول: "هذا، وإذا رفضنا تراث الرحلة الذي تَمثَّل في أدب الأسطورة، فلا ينبغي أن نقلل من شأن تراث الرحلة الذي تَمثَّل في أدب الرحلة. ولكن الذي يجب أن نعتزَّ به فعلا، هو تراث الرحلة الذي تَمثَّل في الأدب الجغرافي"(5). فهو يُقسِّم التراث الرَّحَلي إلى: أدب أسطورة؛ ويقصد به نصوص الرحلات التي امتلأت بقصص العجائـب والأساطير، وإلى أدب رحلات، وإلى أدب جغرافي.
     يعبِّر الشامي بمصطلح الأدب الجغرافي عن الرحلة التي تَهدِف الكَشْفَ الجغرافي دون غيره من الأهداف، لذلك نراه يعلن رفض ما سمَّاه أدب الأسطورة، ويَقبَل على مضض تراث أدب الرحلة، وهذا ما جعله يُثْنِي على محمد بن أحمد البَيْرُوني (ت440ه) في كتابه عن الهند؛ حين يقول: "واجتهاد مثل هـــذا الــرجـل في الـرحلـة يستـحق الإطـراء والـثـنـاء لأنـه أرسى دعـامـة قـويـة، في شــأن توظيف الرحلة لحساب الهدف الجغرافي قبل ولادة الرحلة الجغرافية فِعْلاً بحوالي أربعة قرون كاملة. وما مِن شكٍّ في أنَّ كتابته الجغرافية -التي أنجزها مثل هذا الرجل الذي نوَّرت بصيرته الرحلة-كتابة جيدة. وهذه الكتابة الجغرافية هي التي تستحق أن تضرب المثل لما نعنيه بالأدب الجغرافي"(6).       
    وغير بعيد عن هذا الرأي نسبيًّا، ما نجده لدى الباحث عبد الفتاح محمد وهيبة، الذي يُفرِّق بين نوعين من الأدب الجغرافي، أثناء دراسته للتراث الجغرافي للمسعودي في كتابه: "جغرافية المسعودي بين النظرية والواقع، من الأدب الجغرافي في التراث العربي"؛ إذ يتباين مفهومه لدى هذا الباحث بين: أدب جغرافي نظري، وأدب جغرافي واقعي، وفي هذا يقول: "ومن بين ما خلَّف لنا أدبَ رحلاته يسبقه عرض تقليدي لأدب جغرافي نظري يتصل بالأفلاك والنجوم وصفات كوكب الأرض. وأدبُ الرحلات هو ما تستمد منه الجغرافية واقعيتها"(7). ومن خلال كتابه نجد أنَّ الباحث يطلق مصطلح "أدب جغرافي" على كل فرع من فروع الجغرافيا (ما عدا أدب الرحلات)؛ فيسمِّي مثلا الدراسات الفلكية التي اعتمدت عليها الجغرافيا الرياضية: "أدبا جغرافيا فلكيا"، كما يسمِّي مؤلَّفات الجغرافيا الوصفية: "أدبا جغرافيا وصفيا"؛ وواضح أنَّ الباحث يطلق هذا المصطلح على كلِّ فرع من فروع الجغرافيا مع إضافة صفة له لتفرقة كل فرع عن الآخر.     
    ومن الباحثين العرب من له رأيٌ آخر، يخالف الرأي السابق -إنْ لم يكن يناقضه-من بين هؤلاء: الباحث عبد الرحيم مودّن، الــذي يــرى في مُـؤلَّفِـه: "الرحلة المغربية في الـقـرن الـتاسع عـشر؛ مستـويات السـرد" أنَّ الأدب الجغــرافي هــو الــمهـــاد الطبيعي للرحلة؛ إذ تتداخل فيه "علوم الفلك و (أدب المسالك والممالك) فضْلاً عن (معاجم البلدان) ومصادر الحضارة، وخرائط الحواضر والمَدَر"(8)، وذلك في مُستَهلِّ حديثه عن الرحلة. وهو وإِنْ يرى أنَّ الرحلة تختلف في تعاملها مع الأمــكنـة، حيث تضفي عليها نوعا من الحيوية البعيدة عن الجفاف، فإنها تشترك معه في الاهتمام بالأمكنة: "الأدب الجغرافي، إذن، حديث عن المكان، في حين يحاول الرحَّالة الكتابة بالمكان"(9).
     لكن بعد تتبُّع ما يعرضه الباحث في كتابه عن الأدب الجغرافي، من خلال حديثه عن الأمكنة، يَتَّضح جليًّا أنَّه يفرِّق تفريقًا واضحًا بين فنِّ الرحلة، وبين الأدب الجغرافي، بما يُفهَم منه أنَّ الرحلة نمط تطوَّر في أحضان الأدب الجغرافي، وارتوى من مَعينِه. لذلـك يَخلُص في نهاية الأمر إلـى القول أنه: "وفي كل الأحوال، كان الأدب الجغرافي يمزج أيضا، بين الغاية العلمية من كشف واكتشاف لمظاهر الكون والإنسان، وبين الغاية الأدبية المجسَّدة في مظاهر المُتخيِّل من حكايات وأساطير ومرويَّات مختلفة"(10).
    ويَسنُد هذا الرأي؛ ما يذهب إليه باحثٌ آخر، هو عبد الرحمان حميدة في كتابه: "أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم"؛ مِنْ أنَّ الأدب الجغرافي العربي يتضمن تيارَيْن هامَّيْن؛ أحدهما هو الجغرافيا الرياضية، والآخر هو الجغرافيا الوصفية بجميع أنماطها التي ترتبط بالرحلات بمختلف أنواعها(11)، كما سيأتي ذكره.
1-1-2-لدى المستشرقين:
    أمَّا المستشرقون؛ فسنَعْرِض رأيَ مُختصٍّ في الأدب العربي، وصاحب أكـبر مُؤلَّف في الأدب الجغرافي العربي، ذلك هو المستشرق الروسي الكبير: أغناطيوس يوليانوفيتش كراتشكوفسكي، الذي درس في كتابه الشَّهير: "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" التراث الجغرافي العربي وأعلامه، منذ نشأته إلى القرن التاسع عشر. فإضافة إلى إشارته التي أوردناها في أوَّل البحث، يُطالِعُنا كراتشكوفسكي عند عرضه طريقة دراسته للتراث الجغرافي العربي، أثناء تعريفه بكتابه، بإشارة أخرى مِنْ شأنها أنْ تُوَضِّح رؤيتَه ومفهومه للأدب الجغرافي؛ فيقول: "والكتاب يقدِّم في آن واحــد نصيــبـا متكـافـئـا لكلٍّ مـن الأدب العـلمي والأدب الشعــبي، ويـجـتهـد في أنْ يـُلِمَّ بأطراف الجغرافيا الرياضية والوصفية كما جَهِد في الإحاطة بالجغرافيا العامة والإقليمية. وهو لا يُهمل قصص الرحلات حتى تلك التي تحمل طابعا أدبيا صرفـا بل وأسطوريا"(12).
    وإلى هذا الرأي يميل المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل في مَعرِض حديثه عن الجغرافيا عند العرب في كتابه الذي عنوانه: "جغرافية دار الإسلام البشرية، حتى منتصف القرن الحادي عشر"؛ إذ يرى أنَّ الجغرافية العربية التي كان مبدؤها الجغرافيا الرياضية، سرعان ما تحوَّلت "وبآن واحد إلى حقل تحريَّات وإلى نمط أدبي حمل أسماء متعددة"(13).
    هذا المذهب الذي يرى في الأدب الجغرافي تراثا جامعا لمُجمَل الأنماط التي ظهرت بتطوُّر مفهوم الجغرافيا، بما فيها الأنماط الأدبية الصِّرْفة، وبتطوُّر البحث والتأليف فيها، هو الذي اعتنقناه في تعريفنا للأدب الجغرافي، واعتمدناه في بحثنا هذا. وابتداءً يمكن ملاحظة أنَّ هذا التراث الذي اصطُلِح على تسميته بالأدب الجغرافي العربي ينقسم إلى اتجاهين عظيمين:
1-منهج الجغرافية الرياضية والفلكية (الجغرافيا العِلْميـة).
2-منهج الجغرافية الوصفية(الأدبية)؛ وهو المنهج الذي له ارتباط وثيق بالرحلات.
        كانت الجغرافيا الرياضية أوَّل ما عرف العرب من اتجاهَيْ الجغرافيا، وذلك مع نهايات القرن الثامن الميلادي، نتيجة اطِّلاعهم على ما خلَّفه الهنود من علوم. ثم كان اتصالهم بتراث اليونانيين فتعرَّفوا بذلك على مؤلَّفاتهم الجغرافية: "حيث طـغـت في الأخيرة على جميع المُؤثِّرات شخصية بَطْلَمْيُوس (Ptolemaeus) بمصنَّفاته الفلكية الجغرافية"(14). ويتجه منهج الجغرافية الرياضية والفلكية، أو ما يسمَّى بالجغرافيا العلمية اتجاها علميا خالصا بانتسابه إلى العلوم الدقيقة.
    أمَّا منهج الجغرافيا الوصفية؛ فيتجه اتجاها أدبيا مع المحافظة على وشائج مع علم الجغرافيا، قَوِيَت أو ضَعُفَت، حتى إنَّ بعض تصانيفه بلغت الذروة من الإبداع الفني "فقد وُجِد في بادئ الأمر الاتجاه الرياضي الذي عُنِيَ في المقام الأول بعلم الأطوال والعروض، ومن ثم سُمِّي هذا الاتجاه بالجغرافية الرياضية وتقويم البلدان...أمَّا الاتجاه الثاني فقد اهتم بوصف المسالك والممالك والعجائب والرحلات ولذا سُمِّي بالجغرافيا الوصفية"(15).
     وبارتباطه ارتباطا وثيقا بالرحلات؛ فقد غلب منهج الجغرافيا الوصفية على الأدب الجغرافي العربي بغزارته وتنوُّع مادته، وهذا التنوُّع يُمكِن فهمه إذا عُرِفت العوامل التي أدَّت إلى ظهوره:
1 -تَطلَّب اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وظهور مهام جديدة إدارية للإحاطة بالشؤون المالية (الزكاة، والخراج) معرفة دقيقة بالولايات، وتقسيم السكان، وحجم المحاصيل والمداخيل لتقدير الضرائب؛ فظهرت كُتُبُ الخَرَاج التي كانت بمثابة دلـيـل لمعرفة الطرق إلى الأمصار، ووُضِع نظام صارم لتقسيم المسافات بين مركز الحُكْم وعواصم الولايات إلى مراحل ومنازل، ووُضِع نظام للبريد عبر هذه الطرق، وتَطلَّب ذلك وضع مُدوَّنات خاصة بالبريد، ظهرت فيه هو الآخر مُؤلَّفات عديدة(16).
2-تطوُّر الدَّولة الإسلامية إلى إمبراطورية حتَّم عليها -إضافة إلى المعرفة الدقيقة بأراضيها-معرفة الدُّوَل المتاخمة لها، وقد تسنَّى لها ذلك في ظروف السِّلم كما في ظروف الحرب، خاصة عبر المعلومات التي جلبها الأسرى عن أقاليم الرُّوم في بيزنطة وغيرها(17).
3-انتشار فعل الرحلة داخل الدولة الإسلامية ذاتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بأداء فريضة الحج، مع تيسُّر الطرق التي تطوَّرت بفعل نظام البريد(18). كما نشطت الرحلة خارج إقليم الدولة إلى الممالك المجاورة لغرض التجارة، سواء بـرًّا أم بحرًا. كما كانت الرحلة في طلب العلم من أكثر الأسباب دفعًا لانتشار الرحلة؛ فكان مُسلمو تلك الحقبة يسافرون في طلب العلم من بغداد إلى قرطبة، ومن المغرب إلى الشَّام.
1-2-أنماط الأدب الجغرافي العربي:
    ينبغي منذ البداية ملاحظة أنَّ أنماط الأدب الجغرافي العربي؛ الوارد ذكرها في مؤلَّفات الباحثين الذين أتينا على ذكرهم، أو غيرهم، اختلفت تصانيفها وأسماؤها باختلاف مفاهيمهم وتعاريفهم للأدب الجغرافي، وحسب الخلفية العلمية لكلٍّ منهم. ومراعاة منا للاتجاه الذي سايرناه في مفهوم الأدب الجغرافي؛ الذي يرى فيه مجالا واسعا يضُمُّ كل النصوص التي شكَّلت الجغرافيا بِنْية فيها، مهْمَا بلغت درجة هيمنة هذه البنية مِنْ قوة أو ضعف. فأنماطه برأيــنــا كانـت تـطـوُّرا طبيعــيا لهذه النصوص؛ باتخاذها شكلا معيَّنا يتميَّز عن غيره حسب الأغراض، وحسب المؤلِّفين، وحسب العصر الذي انبثقت فيه. وقد تعدَّدت وتطوَّرت هذه الأنماط تبعا لوعي وإدراك العرب لمفهوم الجغرافيا في تلك الحِقَب الأولى. وجديرٌ بالذِّكر أنَّ هذا التطوُّر مـرَّ عبر عصور تفاوتت في أهمِّيتها بالنسبة لظهور هذه الأنماط ونضجها.
     كانت المعارف الجغرافية الأولى للعرب مرتبطة بالبيئة المحيطة بهم، خاصة أنهم سكنوا البادية بما اتَّسمت به مِنْ سعة في الأرض، وقِلَّة في المعالم، ما خلا بعض الجبال التي سمَّوْها لِشدَّة ارتباطهم بها؛ فكانت لهم السَّماء بقمرها المنير ليلا عالَمًا من النجوم المتلألئة، بما وفَّرته من إمكانية الاهتداء في السفر، فكان بذلك مبدأ معرفتهم بالجغرافيا: "وقد حَظِي القمر بالمكانة الأولى في معرفتهم الفلكية إِذْ كانوا يهتدون به وببقية النجوم في مَسْراهم الليلي"(19).
     وبفضل ذلك أمكَنَهم معرفة مــنـازل الـقـمـر، وتـقـديـر ساعــات الـلـيـل بـطـلـوع الـنجـوم ومغــيبهـا. وثـمَّة ظاهرة فلكية هامَّة توصَّل إليها البدو والحضر على السَّواء؛ فقد استطاعوا التنبُّؤ بحالة الطقس وتحديد فصول السنة الملائمة للزراعة نتيجة مراقبة طلوع ومغيب نجوم معيَّنة، أو ما يُسمَّى بالغروب الكوني للمنازل القمرية، وكان العرب يعرفون ذلك باسم النَّوْء(20). وتجمَّعت لدى العرب معلومات جمَّة عن الأنواء، حتى صاغوا فيها كلاما مسجوعا ترسَّخ في يومياتهم؛ مِن ذلك الكلام ما قالوه عن برج الجوزاء: إذا طلعت الجوزاء توقَّدت المعزاء وكنِست الظباء وعرفت العلباء وطاب الخباء(21).
    ومعلومات العرب الجغرافية لم تكن سماوية فقط؛ بل كانت أرضية أيضا، فهؤلاء البدو الذين خَبِروا السماء، واكتسبوا شيئا من المعرفة الفلكية بالنجوم والكواكب ومساراتها، خَبِروا الأرض كذلك، وكان لهم نصيب ضمن الثقافة الجغرافية المتنوِّعة "لذلك فقد ظهر بين البدو ما يُمكِن أنْ نطلق عليهم اسم (الجغرافيون المحترفون) وهم (الأدِلَّاء) الذين كانوا على معرفة جيدة جدًّا بِدِيرة عشيرتهم"(22).
    وبظهور الإسلام ازدادت المعارف الجغرافية لدى المسلمين، بما وَرَد في القرآن الكريم من معلومات جغرافية، فتقبَّلها المسلمون كمُسَلَّمات؛ مِن قبيل: السَّماوات السبع، والبروج التي في السماوات، والجبال التي تعمل عمل الأوتاد، وتُمسك الأرض كي لا تميد، والبحرَيْن الذيْن يفصل بينهما برزخ يمنعهما من الامتزاج. كما يرِد الحديثُ عن الشمس والقمر والكواكب، وأنها تسبح كلها في الفَلَك. هذه المعلومات أطَّرت الفهم الجغرافي للمسلمين، وكانت بمثابة الخلْفيَّة العلمية للكشف الجغرافي لديهم عن طريق الرحلات. وقد دعم الحديث النبوي الشريف وتمَّم بعض المعلومات الجغرافية؛ مِنْ مِثل حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن يأجوج ومأجوج، وعن السماوات السبع والأَرَضين السبع.
     يــعـتـبـر كراتشكـوفسكي ما ورد في الـقـرآن الـكـريــم والحديث الشريف من معلومات جغرافية نمطا جغرافيا قائما بذاته، ويُطلق عليه: "الجغرافية الأسطورية"(23). فهو يرى أنَّ محمدا (صلى الله عليه وسلم) هو الذي ألَّف القرآن الكريم، والمعلومات الواردة فيه من جمعه وتصنيفه(*). ومهما يكن من أمر، فإنه –رغم شطَطِه-قد أوْرد ملاحظات مهمة عن بعض المفاهيم الأسطورية التي رسخت في أذهان الجغرافيين المسلمين، نظير سوء فهمهم، أو سوء تفسيرهم لبعض ما ورد في القرآن من معلومات جغرافية: "وفي موضع آخر من القرآن غلب عليه الجانب البلاغي دفع هذا إلى ظهور نظرية البحار السبعة لم تلبث أن انعكست في الأدب الجغرافي. ففي الموضع(2631)، وهو الذي يلي الكلام على مقدرة الله، جاء ما نصه: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أبحُر ما نفدت كلمات الله). من الواضح جيدا أنَّ الإشارة إلى البحار السبعة في هذه الآية، التي تمثِّل بدورها ترجمة دقيقة لحكمة عبرية، إنما تَرِد بطريقة رمزية؛ وهكذا فُهِم الأمر. بَيْد أنَّ هذا لم يمنع بقية الجغرافيين، بل أحيانا العلماء الأوروبيين من الكلام عن سبعة بحار مختلفة في القرآن؛ ولعلَّنا نُجابِه مرة أخرى تأثير المغزى السحري للرقم سبعة كما هو الشأن مع الأَرَضِين السبع"(24).
    فإذا خالفْنا كراتشكوفسكي فيما سمَّاه "الجغرافيا الأسطورية"، يُمكننا بوضوح أنْ نلاحظ أنَّ أنماط الأدب الجغرافي لم تظهر دفعة واحدة، ولا في عصر واحد؛ بل ظهرت عبر عصور متعاقبة، منها ما شكَّل عصرا للانبثاق، ومنها ما شكَّل عصرا ذهبيًّا للتطوُّر، ومنها ما شكَّل عصورا للرُّكود والتقليد. وعليه سنقسِّم هذه الأنماط على العصور المتعاقبة بترتيبها الزمني، بذكر كل نمط، وأهم أعلامه ومؤلَّفاتهم. ويـجـدُر التذكير في هذا المقام أننا قصَرنا البحث على اتجاه واحد من اتجاهَيْ الأدب الجغرافي العربي؛ ألَا وهو اتجاه الجغرافيا الوصفية، لما يُمثِّله من جانب أدبي فـيـه:
1-2-1-ما قبل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي):  
    انعدمت في هذا العصر المؤلَّفات الجغرافية، فلا نكاد نعثر على مؤلَّف، ما خلا معلومات جغرافية متناثرة في بطون كتب الأدب، أو مما حفظته جهود اللغويين أو "الأدب اللغوي"-كما يحلو لكراتشكوفسكي أن يسمِّيَه-تَمثَّل ذلك في المادة الجغرافية التي تجمَّعت بعد الفتوحات الإسلامية للأقطار البعيدة(25) في كتب المغازي، وتردَّد صداها بالتالي في نمط جديد من أنماط الأدب الجغرافي؛ أقصُد نمط "الفضائل". ويُقصَد "بالفضائل" ذكر محاسن البلدان والشعوب. وقد اقتصر هذا النمط، بادئ الأمر، على المدن المقدَّسة المرتبطة بحياة النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ كمكَّة والمدينة، أو التي ورد ذكرها في الحديث الشريف؛ كالشَّام التي تحرُسُها الملائكة، ويَنزل بها عيسى (عليه السلام)، ثم تطوَّر هذا النمط، ونزع صفة التقديس عن موصوفاته ليشمل مُدُنًا وأماكن أخرى. وتميَّز هذا النمط بالسَّجع الملازم له.   
    ومن نصوص نمط "الفضائل" وصف بعض الأمصار من طرف أحد البدو للحجَّاج بن يوسف الثقفي، حينما طلب منه ذلك قبل أن يقتله: "...قال فالمدينة قال ذوو لُطف وبِرّْ وخَيْرٍ وشَرّْ، قال فالبصرة قال حَرُّها فادحْ وماؤُها مالحْ وفيضُها سائِحْ، قال فالكوفة قال جَنَّة بين حماة وكنَّة، العراق تحشُد لها والشام يدرُّ عليها، سفلت عن برد الشام وارتفعت عن حَرِّ الحجاز، قال فالشام قال تلك عروس بين نسوة جلوس، تُجلَب إليها الأموال وفيها الضَّراغمة الأبطال"(26). والصَّنعة اللفظية بادية على هذا النص، وعلى شاكلته كثير من النصوص التي حفظها مؤرِّخو الأدب. ومهما يكن من أمر فإنه من المستحيل إنكار وجود نمط (الفضائل) الذي يكاد يكون أطرف محاولة لصياغة التصوُّرات الجغرافية في قالب أدبي(27).
    أمَّا النمط الآخر الذي ظهر في هذا العصر؛ فهو نمط "الأنواء"، أو "كتب الأنواء" كما كانت تُعرف وقتَها، وقد سبق لنا الحديث عن تلك المعارف التي تجمَّعت لدى العرب عن النجوم ومنازل القمر. وقد تصدَّى كبار العلماء في ذلك العصر للتأليف في هذا النمط؛ من شاكلة المؤرخ المعروف بالدَّيْنوري (ت276ه). والشيء المؤكَّد أنَّ هذا العلم عربي خالص، لم يأخذه العرب عن غيرهم؛ وفي هذا يقول الدَّيْنُوري: "وكان غرضي في جميع ما أنبأتُ به الاقتصار على ما تعرف العرب في ذلك وتستعمله، دون ما يدَّعيه المنسوبون إلى الفلسفة من الأعاجم، ودون ما يدَّعيه أصحاب الحساب. فإني رأيت علم العرب بها هو العلم الظاهر للعيان، الصادق للامتحان، النافع لنازل البَرِّ وراكب البحر وابن السبيل"(28). ويُجمِع الباحثون في هذا المجال على أن عدد الكتب التي أُلِّفت بهذا العنوان (كتاب الأنواء) بلغ أكثر من عشرين مؤلَّف؛ المشهور منها كتاب الأنواء للدّينوري(29).
1-2-2-القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي):
    ويُعدُّ هذا القرن بحق؛ القرن الذهبي بالنسبة للأدب الجغرافي العربي، إذْ فيه ظهرت الجغرافية الفلكية لدى العرب في كَنَف الدولة العباسية. ومن المؤكد-كما سلف القول-أنها لم تظهر في العصر الأموي "لذا فليس من الغريب ألاَّ نعثر على أيِّ أثــر للجغــرافــيـا الفــلكية بين العرب في ذلـك العـصر. ولكـنها تندفع كسيـل جارف في نهاية القرن الثامن...وهذه اللحظة بالذات هي التي يجب أن تُعتبَر بحـق بـداية الأدب الجغرافي العربي"(30). وهذا العصر هو عصر الأنوار العربي، كما يسمِّيه المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل(31).
    ازدهرت الترجمة في هذا العهد نتيجة اهتمام الخلفاء العباسيين-خاصة المأمون-بالعلوم؛ فنقل المترجمون إلى اللغة العربية علوم الهنود والفرس والسريان واليونان. وكان للعلوم الجغرافية حظ طيب من هذه الحركيَّة العلمية، "وكانت معرفة العرب بالجغرافيا الفلكية اليونانية وثيقة الصلة بالنهضة العلمية التي أذكاها الخليفة المأمون(813م-833م)"(32). أدَّت هذه البيئة إلى ظهور فلكيِّين وجغرافيين ألَّفوا مُصنَّفات عِلمية في الجغرافيا الرياضية؛ من أمثال: الخوارزمي (توفي بعد 232ه) بكتابه: "صورة الأرض"، والبتَّاني(ت317ه) بكتابه: "الزِّيج الصابئ"، وأدَّى شيوعُها إلى الاهتمام بها بين جمهرة المثقفين في ذلك الزمن. ثم ظهر نمط "الوجيزات الجغرافية" لفائدة كُتَّاب الدواوين؛ فألَّف فيه ابن رسته كتابه القيِّم: "الأعلاق النفيسة"، كما ألَّف بعده قدامة بن جعفر (ت377ه) موسوعته: "الخراج وصنعة الكتابة"(33)، إلى أَنْ صارت الكتب الجغرافية في متناول رجال الأدب، ثم معظم الناس؛ ما أدَّى بالتالي إلى اختفاء الأسماء الجغرافية القديمة التي تسرَّبت في أوائل الترجمات الجغرافية(34).
    وما يهمنا من أَمْر الجغرافية الرياضية في هذا السياق، أنها كانت السبب الرئيسي في تدعيم الجغرافيا الوصفية بكل معلوماتها الواسعة عن وصف الكون (الكوزموغرافيا)؛ ففي منتصف هذا القرن تمكنت الجغرافيا الوصفية مِن أخْذ طريقها بوضوح، وذلك مع بداية ظهور مصنفات قائمة بذاتها، كان من أهمها كتب "الفضائل"، ثم ظهرت أنماط أخرى، من بينها نمط "جغرافية الأماكــن"، أو ما عُــرِف باسم "كتب البلدان". وتجدُر الإشارة هنا أنَّ هذا النمط-كسابقه-اهتم به اللغويون والعلماء، وانبروا للتأليف فيه؛ فانصرف اهتمامهم إلى الجزيرة العربية أول الأمر، ثم إلى الأقطار الإسلامية(35)، ثم اهتموا بالتأليف في المعمور من الأرض.
    ومن بين أشهر مؤلِّفِي هذا النمط، نصادف المؤرِّخ المشهور: أبا المنذر هشام بن الكلبي (ت206ه) بمؤلَّفاته الجغرافية الكثيرة؛ أهمها: "كتاب تسمية من بالحجاز من أحياء العرب"، و "كتاب البلدان الصغير وكتاب البلدان الكبير"(36). وكذلك الأصمعي (ت213ه)؛ اللغوي المشهور (توفي حوالي عام 216ه)، الذي شكَّل كتابه "كتاب جزيرة العرب" مصدرا أساسيا في دراسة الجزيرة العربية. فإذا كان اللغويون قد اقتصروا على جزيرة العرب؛ فإنَّ العلماء توسَّعوا إلى أقطار إسلامية أخرى، مثل الجاحظ (ت255ه) بكتابه المفقود "كتاب الأمصار وعجائب البلدان"، الذي يذكره المسعودي (ت346ه) في كتابه الشهير "مروج الذهب ومعادن الجوهر"(37). والجاحظ-كما يؤكد كراتشكوفسكي-تَابَع إلى حدٍّ ما "نمط ما يُسمَّى بالفضائل أو الخصائص الذي ازدهر في العصر الأموي، أي صفات ومحاسن الحواضر الكبرى"(38). وعلى طريقة مدرسة الجاحظ سار مُؤَلِّف آخر هو: ابن الفقيه بكتابه "كتاب البلدان".
    أهم نمط ظهر في هذا العصر، ما عُرِف باسم "أدب المسالك والممالك"؛ وهو نمط اهتم بوصف المدن ثم بوصف الطرق المؤدية إليها وصفا إداريا(39). ظهر هذا النمط أول الأمر مع أبي القاسم عُبَيْد الله بن عبد الله المعروف بابن خُرْدَاذَبَهْ أو ابن خُرَّدَاذَبَهْ (ت272ه)؛ الذي أطلق على كتابه اسم: "المسالك والممالك"، وأصبح هذا العنوان شائعا جدا من بعده. ويــعتـمد هــذا الـنمـط عـلى تـقـديم رسوم لشـتَّى أقاليم بلاد الإسلام مع تعليق مختصر على هذه الخرائط (40).
    اهتم كُتَّاب أدب المسالك والممالك، إذن، بوصف بلاد الإسلام وصفا دقيقا(41): "وأخيرا، فإن الهدف نفسه كان يُعلَن بوضوح وهو وصف بلاد الإسلام، ووصف هذه البلاد وحدها، لكنه كان وصفا عميقا ومنظما وموجها من خلال هذا التطور لجغرافية المسالك والممالك"(42). إلى جانب ابن خُرْدَاذَبَهْ، ظهر مؤلِّف آخر في هذا النمط، وله كتاب سماه "كتاب المسالك والممالك"؛ ذلك هو: أحمد بن محمد بن الطيب السرخسي (ت286ه). وقد جمَع السرخسي في ميدان الأدب الجغرافي بين المدرستين؛ أي بين مدرسة الجغرافيا الرياضية اليونانية، وذلك تحت تأثير أستاذه الفيلسوف الكِنْدي (ت260ه)، وبين الجغرافية الوصفية بنمط "المسالك والممالك"(43).
    ثَبَتَ في القرن الثالث الهجري، أيضا، نمط آخر من أنماط الأدب الجغرافي العربي؛ أقصُد "قصص الرحلات". انقسمت هذه القصص إلى رحلات أسطورية، وأوصاف للطرق العملية، وكذلك إلى رحلات عِلْمية تَجلَّت على شكل أخبار فريدة من نوعها عن رحلات قام بها أناس تنفيذا لأوامر الخلفاء(44)؛ من ذلك الرحلة التي قام بها محمد بن موسى (ت259ه) إلى عمورية في بيزنطة، بأمر من الخليفة العباسي الواثِق بالله (حَكَم من227ه إلى 232ه)، لمعاينة كهف الرقيم الموجود بها، بعد أن شاعت قصة مفادها أنَّ به جثث أهل الكهف المذكورين في القرآن الكريم.
    إضافة إلى هذه الرحلات، ظهرت قصص رحلات أخرى ارتبطت ارتباطا وثيقا بالأسرى، من خلال الجهود المبذولة من قِبَل الخلفاء في افتداء الأسرى المسلــميــن لـدى روم بــيـزنـطـة؛ مــن ذلـك قــصـة افــتكــاك مسلـم بـن أبي مسلـم الـجَرْمي من أسر البيزنطيين في عهد الخليفة الواثِق (حفيد الخليفة هارون الرشيد). وقد روى الجَرْمي رحلته في الأسر وضمَّنها معلومات مهمة عن "أخبار الروم وملوكهم وذوي المراتب منهم وبلادهم وطرقها ومسالكها وأوقات الغزو إليها والغارات عليها ومن جاورهم من الممالك"(45).
    إلى جانب الأسرى، لعبت السفارات دورا مُهمًّا في بلورة قصص الرحلات وتطويرها في القرن الثالث الهجري. من تلك السفارات؛ سَفارة يحي بن الحكم الغَزَال البكري (ت250ه) إلى بلاد الشَّمال، بأمر من أمير قرطبة لذلك العهد عبد الرحمان الثاني، لعقد صلح مع ملك (النورمان) (46). وتحفظ لنا هذه الرحلة جهود عرب المغرب في التعرف على الغرب والكشف عن بلاده غير المعروفة لهم(47). ومن الرحلات التي صُنِّفت أسطورية(**)؛ رحلة سَلَاَم الترجمان أو سَلَاَّم الترجمان (ت230ه) بأمر من الخليفة العباسي الواثِق، للتعرف على سد يأجوج ومأجوج.
    تطورت قصص الرحلات من قصص واقعية إلى قصص اختلطت بالأساطير الجغرافية، وارتبطت هذه القصص بحكايات البحارة والتجار عن البلدان القاصية؛ كالهند والصين وأرخبيل الملايو وجزيرة سيلان وسواحل مليبار، أو بلدان سواحل أفريقيا الشرقية كبلاد الزنج ومقديشو وزنجبار؛ أي بالمناطق التي كانت تُمثِّل المجهول لدى الجمهور، وتحفَل في نفس الوقت بكل ما هو غريب وعجيب. شكَّلت هذه القصص نمطا متميزا بذاته في الأدب الجغرافي العربي؛ ألا وهو قصص الرحلات البحرية، أو اختصارا: "القصص البحرية".
    ازدهرت هذه القصص خاصة في موانئ الحواضر التي كانت لها تجارة مع هذه البلدان؛ كالبصرة ومسقط وسيراف. وأشهر من مَثَّل هذا النوع من القصص هو سليمان التاجر، الذي سافر إلى الصين والهند بغرض التجارة، وترك وصفا دقيقا للطريق الذي سلكه، كما ترك أيضا وصفا حيًّا للسواحل والجزر والموانئ المختلفة والمدن وسكانها والمحاصيل والمنتجات وسلع التجارة(48). ويُعَد كذلك من الرُّوَّاد في هذا النمط رحالة آخر هو بزرك بن شهريار الناخذاه الرامهرمزي(49) (توفي بعد 340ه)، الذي ألَّف كتابه المشهور: "عجائب الهند بره وبحره وجزائره".
    منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ظهر نمط جديد في الأدب الجغرافي العربي؛ ألا وهو "نمط الخِطَط". ويهتم هذا النمط بوصف الأحياء والنواحي للبلدان، وقد وُلِد على يد المؤرخين، واستمر هذا النمط في سيل لا ينقطع "بل ليس من العسير أن نتبين آثار مولده لدى أول مؤرخ لمصر وهو ابن عبد الحكيم (ت257ه) في كتابه (فتوح مصر) وهو يقع في خمسة أبواب يفرد الثالث منها لوصف خطط الفسطاط والجيزة والاسكندرية"(50). وأهم من ألَّف في هذا النمط قاطبة: أبو العباس تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ت845ه) صاحب كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخِطَط والآثار" في القرن التاسع الهجري.
1-2-3-القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي):
    يُجمِع أغلب الباحثين والمؤرِّخين أنَّ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) يُمثِّل مِن الناحية السياسية عصر اضمحلال الخلافة الإسلامية، لكنه مثَّل بالنسبة للحضارة عصر ازدهار، خاصة في ميدان العلوم: "وفي القرن العاشر كذلك بلغ الأدب الجغرافي العربي أَوجه في مجال تطوره الخلاَّق كحركة مستقلة قائمة بذاتها أو (النهضة الإسلامية) Renaissance of Islam"(51).
    وهذا العصر لم يشهد ظهور أنماط جديدة في الأدب الجغرافي العربي؛ بل ميَّزه تطور الأنماط السابقة(52) ونضجها. مِن ذلك تطور نمط "الرحلات"، حيث انتشرت الرحلة في هذا العصر، وأخذت معالمها (من ناحية التأليف) في التبلور والنضج، وبدأت تأخذ "قيمتها الأدبية وأسلوبها السلس ولغتها الحية المُصوِّرة"(53). من أشهر هذه الرحلات: رحلة أحمد بن العباس بن راشد بن حماد، المشهور بابن فضلان. وهذه الرحلة هي رحلة سفارة، أرسلها الخليفة العباسي المقتدر سنة (309ه) إلى "بلغار الفولغا"، الذين أرسل مَلِكُهم وفدًا إلى الخليفة المقتدر، يطلب منه إرسال بعثة من قِبَلِه "تُفقِّهه في الدين وتُعرِّفه شرائع الإسلام وتبني له مسجدا، وتنصب له منبرا تقيم عليه الدعوة للخليفة في جميع مملكته"(54)؛ فأرسل لهم الخليفة وفدا كان فيه ابن فضلان فقيها، وقد كتب رسالة سُمِّيت "رسالة ابن فضلان" وصـف فـيهـا طريق رحلته، كما وصف فيها الشعوب والأجناس التي رآها وعاداتها.  
    وفي نفس العهد الذي ارتحل فيه ابن فضلان إلى "بلغار الفولغا"، خرج من "بخارى" في رحلة إلى الصين رجل آخر هو: أبو دُلَف اليَنْبُعي الخَزْرَجي (ت390ه) الشاعر، واشتهر كذلك باسمه العربي الخالص: مسعر بن المهلهل. اغتنم أبو دُلَف وصول سفارة من الصين حوالي عام (331ه) إلى بلاط الحاكم نصر بن أحمد الساماني (حَكَم مِن 301ه إلى 331ه)، الذي كان في ضيافته لمدحه، فرافقها، ودخل الصين برًّا عن طريق التِبِتْ(55). ترك أبو دُلَف رسالتين: الأولى في وصف الصين، والثانية في وصف آسيا الوسطى، ضمَّهما كتابُه "عجائب البلدان"(56).
    وفي هذا العصر كذلك، شهد نمط "المسالك والممالك"، الذي اعتمد على تقسيم العالم الإسلامي إلى أقاليم، ثم وصفها وصفا دقيقا، ومن ثمَّ وصف الطرق المؤدية إليها؛ شهد تطورا لافتا، على أيدي ثلاثة من أهم مُؤلِّفِي هذا النمط؛ هم: أبي زيد البلخي (ت322ه)، بكتابه الذي اخْتُلِف على عنوانه بين المصادر؛ إذْ هو كتاب مفقود، فتارة هو "صور الأقاليم"، وتارة هو "أشكال البلاد"، وأخرى هو "تقويم البلدان"، وأبي إسحاق الإصْطَخْري (توفي بعد عام 340ه) بكتابه "كتاب المسالك والممالك"، وأبي القاسم بن حَوْقَل (توفي بعد عام367ه) بكتابه "كتاب المسالك والممالك"(57). شَكَّل هؤلاء الثلاثة سلسلة متصلة الحلقات، ساهمت مساهمة جوهرية في وضع أُسُس هذا النمط حتى سُمِّيَت "مدرسة"، حَذَا حذْوَها من جاء بعدهم من مُؤلِّفي هذا الطراز "ومن الطبيعي أن يكون تأثير هذه المجموعة الأصيلة كبيرا جدا؛ وهناك مبرر كاف لأن يُطْلَق على ممثليها الذين يرتبطون فيما بينهم ارتباطا وثيقا اسم (المدرسة الكلاسيكية) للجغرافية الإسلامية"(58).
    ظهر في هذا العصر نمط امتاز إلى جانب الجِدَّة بالطَّرَافة؛ إذ اجتمعت مادته في كتب عنِيَت بجمع الأشعار التي وَرَدَ فيها ذكر الأَدْيِرَة المشهورة، وشروح وافية لها، وقد سُمِّي هذا النمط بــ "كتب الدِّيارات". وهي دون رَيْب لم تجتذب اهتمام المجتمع العربي والشعراء العرب بوصفها أماكن لعبادة المسيحيين، بل اجــتـذبتهم بسبـب الشهــرة التي نالـتها في إنـتاج النبيذ وبَيْعِه(59)، واشتهر من بين هذه الكتب: "كتاب الدِّيارات" لأبي الحسن علي بن محمد الشَّابَشْتي(ت388ه) (60).
1-2-4-القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي):
    لمْ يأتِ القرن الخامس الهجري بأنماط جديدة في الأدب الجغرافي العربي؛ بل على العكس من ذلك اندثرت فيه بعض الأنماط، مثل نمط "الفضائل". كما ظهر فيه رحَّالون "جَوَّابون للآفاق". وأحسن من يُمثِّل هؤلاء: أبو حامد أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم المازني القيسي الغرناطي الأندلسي الأقليشي القيرواني، المشهور بأبي حامد الغرناطي (ت565ه) (61).
    أحيا "الغرناطي"(62) نمطا قديما في الأدب الجغرافي العربي؛ ألا وهو نمط "العجائب"، الذي اختَصَّت به "القصص البحرية"، كما مَرَّ معنا فيما سبق. عُرِف هذا النمط باسم "عجائب البلدان" أو "علم عجائب البلدان". والغرناطي بهذا ربما كان "واضعُ لبنة جديدة في الأدب الجغرافي العربي"(63). أمَّا مُؤلَّفُه فعنوانه يُعبِّر أحسن تعبير عن النمط الذي ينتمي إليه: "تُحْفة الألباب ونُخْبة الإعجاب"، وهو مُؤلَّف ذو طابع كوزموغرافي بَحْت. وهذا النمط يهتم بوصف ممالك الأرض كلها، والأجناس التي تسكنها، سواءٌ في ذلك مملكة الإسلام أو غيرها، ويُولِي كذلك اهتماما بالغا بالعجائب والغرائب في البنيان والمخلوقات البرية والبحرية. وهذا النمط الذي ابتدعه الغرناطي انتشر وسار المؤلفون على نهجه من بعده؛ فهو "قد اكتسب شهرة عريضة لدى جمهرة القراء لأن المنهج الذي ابتدعه في الجمع بين معطيات واقعية دقيقة وضروب من مختلف العجائب في وحدة كوزموغرافية قد راق كثيرا للأجيال التالية"(64).
    مَـثـَّل هـذا القرن، كـذلـك، عـصـر الانـتشـار بالنسبة لـنمطٍ قـديمٍ نـال الـقَبُول لدى الطبقات الشعبية؛ أقصُد وصف الرحلات، أو "نمط الرحلات". تردَّدَت بوضوح في هذا العصر لفظة "رِحْلة" في المُؤلَّفات التي عنِيَت بهذا النمط، كما أخذت طريقة جديدة في التدوين؛ إذ لم تُدَوَّن الرحلات على هيئة "كتب المسالك والممالك المعروفة لنا بل دُوِّنَت على هيئة (مُذكِّرات يومية) مع تفاوُتٍ في الدِّقة فيما يتعلق بتدوينها من يوم لآخر"(65).  وأَشْهَر من مَثَّل هذا الاتجاه قاطبة، وشَكَّلَت رحلته أكثر الآثار قيمة دون منازع: محمد بن جُبَيْر الأندلسي (ت614ه).
    ويذهب كراتشكوفسكي إلى أنَّ ابن جبير رغم ريادته في هذا الفن، إلا أنه لم يكن أول من أسَّس لهذا الفن؛ فأول من وضع الأساس لهذا الفن حسبه، وكان ذلك قبل نصف قرن من ابن جبير "هو الفقيه أبو بكر محمد بن العربي (468ه-543ه) ... أما وصف رحلته فمفقود، وكان يحمل عنوان (الرحلة) أو (ترتيب الرحلة)، وقد نقل عنه ابن خلدون والمَقَّري. ويَنقُل عنه الأخير وصفا شَيِّقا لغرق سفينتهم عند سواحل أفريقيا"(66).
    أمَّا ابن جُبَيْر؛ فهو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الشاطبي، البَلَنْسي، الأندلسي(67)، من الكُتَّاب الأدباء ورجال الدواوين المُثقَّفين أيام حكم المُوَحِّدين للأندلس؛ إذ شغل منصب كاتب لدى حاكم غرناطة أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن من المُوَحِّدين(68). أمَّا رحلته؛ فهي رحلة حَجٍّ إلى بيت الله الحرام، دَوَّنَها على طريقة اليوميات، وسَجَّلها في مُؤلَّفٍ له بعد عودته من رحلته. ولهذه الرحلة عنوانان؛ أحدهما: "اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك"، والآخر: "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار".
1-2-5-القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي):
    ظهر في هذا القرن نمط جديد من أنماط الأدب الجغرافي العربي؛ ألا وهو "نمط المعاجم الجغرافية". وهذا النمط جديد من ناحية الشكل؛ إذْ لم يظهر في الأنماط التي سبقته مثيل له، لكنه من ناحية المنهج امتداد لجهود اللغويين الذين اهتموا بجغرافية الأماكن، خاصة الجزيرة العربية؛ أمثال عرَّام بن الأصبغ السُّلمي الأعرابي (ت331ه) صاحب كتاب "أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من القرى وما ينبت عليها من الأشجار وما فيها من المياه"(69).
    ورائد هذا النمط بلا منازع في هذا العصر: أبو عبيد الله عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو البَكْري الأندلسي (ت487ه)، بمصَنَّفِه: "مُعجَم ما استُعْجِم"؛ يقول في مقدمة كتابه: "هذا كتاب مُعجَم ما استُعجِم ذكرتُ فيه إنْ شاء الله جملة ما ورد في الحديث والأخبار والجبال والآثار والمياه والآبار والدارات والحرار منسوبة محددة ومبوَّبة على حروف المعجم مقيَّدة. فإني لما رأيت ذلك قد استُعجِم على الناس أردتُ أن أُفصِح عنه بأن أَذكُر كل موضع مُبيَّن البناء معجم الحروف حتى لا يدرك فيه لبس ولا تحريف"(70).
    وعلى طريقة علماء اللغة، عالج البكري في معجمه جزيرة العرب بوجه خاص؛ فعمد إلى ذكر الأسماء التي ذُكرَت في القرآن الكريم والحديث النبوي وفي الشعر العربي وقصص المغازي، مع شرح كل الشواهد المتعلقة بها. وريادة البكري في هذا النمط تأتَّت من استعماله الطريقة الأبجدية في تصنيفه؛ وفي هذا يقول كراتشكوفسكي: "وإذا كان معجم البكري هو أول ما وصلنا في هذه السلسلة فإن هذا بالتأكيد لا يعني أنه كان أول من سبق في هذا المضمار؛ إذ من العسير اعتباره أول من ولج باب هذا الفن من الأدب الـجغــرافي. ولـكن مـن المـرجـح أن يكـون أول مـن استعمـل الـطريقة الأبجدية في هذا الباب وإلا لما شرحها بمثل هذا التفصيل في افتتاحيته"(71).
1-2-6-القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي):
    إضافة إلى أنماط الأدب الجغرافي العربي، السائدة من قبل-كما ذكرنا سلفًا-تطور في النصف الأول من هذا القرن نمط "المعاجم الجغرافية"، الذي يُذكِّرُنا من ناحية الشكل بالمعاجم اللغوية-كما سبق الحديث عنه مع البكري-رائد هذا الفن في القرن السادس الهجري. وأحسن من يُمَثِّلُ هذا النمط في هذا العصر واحد من أعلى القامات العِلْمِيَّة في ذلك الزمن؛ ذلك هو شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، واشْتُهِر في الدوائر العلمية باسمه: ياقوت الحموي (ت626ه).
    ويستمد ياقوت قيمته العلمية، بل التاريخية بسبب جمعه للمادة الجغرافية للعصور والكُتَّاب الذين سبقوه، قُبَيْل منعطف تاريخي حاسم بالنسبة للحضارة الإسلامية؛ أقصدُ بذلك الهجْمة الهمجية للمغول على بلاد الإسلام، وما تلاها من ضياع قسم هائل من المؤلَّفات العلمية، وما حَوَته من مختلف العلوم في شتى الميادين(72)؛ إذ جمع ياقوت هذه المادة الجغرافية في سِفْرٍ ضخم في صفة مُعْجَم، وسمَّاه: "معجم البلدان".
        أمَّا الكتاب؛ فقد رتَّبه ياقوت الحموي على حروف المعجم، بعد أن قسَّم مادته إلى ثمانية وعشرين كتابا على عدد الحروف، تسبقها مقدمة وخمسة أبواب. وأمَّا عن منهجه في تصنيف كتابه؛ فيقول: "ثم أعودُ إلى الغرض فأُقسِّمُه ثمانية وعشرين كتابا على عدد حروف المعجم، ثم أُقسِّمُ كل كتاب إلى ثمانية وعشرين بابا للحرف الثاني للأول، وأَلتزمُ ترتيب كل كلمة منه على أول الحرف وثانيه وثالثه ورابعه، وإلى أي غاية بلغ، فأُقدِّمُ ما يجب تقديمه بحكم ترتيب: ا ب ت ث ... على صورته الموضوعة له، من غير نظر إلى أصول الكلمة وزوائدها، لأن جميع ما يَرِد إنما هي أعلام لمُسَمَّيات مفردة، وأكثرها عجمية ومرتجلة لا مساغ للاشتقاق منها"(73). ونمط المعاجم الجغرافية نمط عربي أصيل، لم تسبِق إليه أمم أخرى(74).
1-2-7-القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي):
    ما يُميِّز هذا العصر هو ما آل إليه العالم الإسلامي من تضعضع سياسي بعد النكبات التي أصابته، منذ هجوم المغول على المشرق، إلى تقلص حكم الإسلام بالأندلس، غير أن هذه الحال لم تمنع من تطور أنماط الأدب الجغرافي العربي في حواضر العالم الإسلامي، الذي ظل أهله يُحِسُّون بوحدة الانتماء والمصير، على الرغم من التشتت والانقسام الذي يعيشونه.   
     فمن الأنماط التي حافظت على حيويتها، نلتقي بنمط "الرحلات" الذي بدأت اهتماماته في النصف الأَوَّل من هذا القرن تتشعب؛ فبعد تركيزه في العصور الأولى على الأساطير، في الرحلات البحرية، ثم على السفارات والاكتشافات، إلى رحلات الحج والزيارات، نصادفه في هذا العصر يهتم بالعلوم والعلماء. ومن أمثال هذه الرحلات: رحلة محمد بن رَشِيد الفِهْري الأندلسي السبتي (ت721ه)، صاحب الرحلة التي عَجَّت بذكر العلماء، وعنوانها "مِلْء العيبة بما جُمِع بطول الغيبة في الوِجْهة الوجيهة إلى الحرَمَيْن مكَّة وطَيْبة"(75).
    بعد خراب بغداد على يد المغول، وانحسار رقعة الأندلس في حاضرة أخيرة هي غرناطة، تَعزَّز مركز القاهرة كعاصمة بديلة وجامعة للعلماء الفارِّين بأنفسهم وبعلومهم من هذه الأوضاع الجديدة. في هذه البيئة، وتحت حُكْم المماليك، ظهر في النصف الثاني من هذا القرن نمط جديد من الكتابة العلمية، أُفْرِد فيه للجغرافيا الوصفية والأدبية نصيب وافر، عُرِف باسم "نمط الموسوعات". والموسوعات كنمط أدبي "وليدة تاريخ طويل مُعقَّد فهي ترتبط بعض الشيء بتلك المجموعات التي وُضِعت في الإدارة والجغرافيا... وهي بلا شك أوسع مجالا من المؤلفات السابـقـة لهـا، كـمـا أنهـا تعـالـج مسائـل أعـم وأكثـر شمـولا في جمـيع فروع العلوم"(76).
    وقـد غـلـب عـلى هذه الموسوعات الاهتمام بالأسلوب الأدبي؛ إذ اعتُمِد لفظ "فن" بدلا من "باب" أو "كتاب" في تقسيم محتويات هذه الموسوعات. وأحسن من مَثَّل هذا النمط في ذلك الوسط رَجُلان: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النُّوَيْري (ت732ه)، بمصنفه: "نهاية الأرب في فنون الأدب"، وشهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي (ت821ه)، بمصنفه: "صُبْحُ الأعشى في صناعة الإِنْشا"(77). 
    وفي النصف الثاني من هذا القرن كذلك تطوَّر "نمط الرحلات"، حتى بلغ أوجه مع رحالة مغربي، هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، المشهور بابن بطوطة (ت779ه). شَكَّل ابن بطوطة أهم وآخر الرحالة الكبار في تاريخ الأدب الجغرافي العربي؛ إِذْ انتظم مُحيطُ رحلاته عِدَّة بلدان مسلمة وأخرى غير مسلمة، حتى بلغَ الهند والصين، وقد شَكَّلت رحلته "تُحْفة النُّظَّار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار" التي أملاها على الكاتب ابن جُزَيء-على غير عادة رَحَّالِي ذلك الزمن-نَصًّا تأسيسيا "اكتملت من خلاله خصائص الجنس الأدبي متجاوزا – دون إحداث قطيعة نهائية – أدب المسالك والممالك، مُرَكِّزًا على تجربة السفر في أفقها الذاتي، مُؤَلِّفا بين طرائق الكتابة، وتعدد الموضوعات المتأرجحة بين الواقعي والعجائبي، الإثنوغرافي واليومي، التاريخي و الجغرافي، الأُتوبيوغرافي والبيوغرافي، أخيرا بين سيرة الذات وسيرة المكان"(78).
    وبنهاية هذا القرن ينتهي عصر الإبداع في أنماط الأدب الجغرافي العربي، فلم يظهر أي نمط جديد، وكل التصانيف التي تواترت بعد ذلك كانت ضمن الأنماط القديمة. وفي سياق تتبع التطور العام الذي شهدته أنماط الأدب الجغرافي العربي، يُورِد كراتشكوفسكي فقرة يشرح فيها مسيرة هذه الأنماط عبر العصور: "فإنه من الممكن أن نقرر على أســاس ما أوردنــاه من حـقــائــق أنَّ الـجغرافـيا الوصفية بدأت تتخــذ مــنــذ الـنصــف الـثـاني للـقـرن الـتاسع أنمـاطـا ثـابـتة كمـا هـو الحال مع الجغرافيا الرياضية التي سبقتها بقليل. ومنها انفسح المجال لا للفلكيين والرياضيين بل للغويين بصورة خاصة، فَهُم الذين وضعوا كتب الأنواء والرسائل الجغرافية اللغوية عن جزيرة العرب. وقد اتسع شيئا فشيئا وصف المدن والأقطار المختلفة من طراز (الفضائل) أو(الخصائص) الذي يرجع إلى العصر الأموي ليصبح (كتب البلدان)؛ وأحيانا تحت تأثير الموضوعات الأسطورية والرغبة في الإمتاع والتشويق ليتحول إلى (كتب العجائب). وأخيرا دفعت الرغبة المُلِحَّة في تنظيم المادة ووصفها على هيئة طرق إلى ظهور كتب (المسالك والممالك). وفيما بعد ستختفي من بين هذه المجموعة كتب(الأنواء) وحدها، أما الأنماط الأربعة الأخرى فقد أبدت جميعا حيوية فياضة عاشت بها فترة طويلة من الزمن ولم تطرأ عليها سوى تغييرات طفيفة"(79).

خاتمة:
     يمكننا مما سبق ذكره خلال البحث أن نستنتج أن الأدب الجغرافي العربي تراث سردي عربي، ارتبط ظهوره بانتشار الإسلام في الأقطار والبلدان، التي شكلت فيما بعد مملكة الإسلام. وهذا التراث السردي -كما رأينا-غني بالنصوص التي كتبها أدباء، وفقهاء، وعلماء لغة، وجغرافيون، وبحارة، ورجال من عامة الناس؛ استهوتهم الأسفار، وحب المغامرة، والشوق إلى البقاع المقدسة، وطلب العلم، والتعرف على أقاليم مملكة الإسلام. كما تمكن حب الارتحال من نفوسهم، وشكل لهم شغفا محفزا على السفر والرحلة. وارتبطت نصوص الأدب الجغرافي بجميع أنماطها؛ ابتداء من نمط الفضائل ونمط المسالك والممالك، إلى نمط المعاجم الجغرافية ونمط الرحلات، ارتباطا وثيقا بالجغرافيا بما تمثله من سيرة للإنسان والمكان. وأخيرا يمكننا القول إن الأدب الجغرافي لم يشكل إطارا مغايرا لأدب الرحلة، والجغرافيا الوصفية، وأدب المسالك والممالك، كما شاع ذلك لدى الدارسين؛ بل على العكس من ذلك، كان رَحِمًا توالدت فيه كل هذه الأنواع، وشكلت بذلك أنماطه الأساسية، التي أدى تطورها على مدى التاريخ إلى إنتاج نصوص مثلت علامات فارقة في الأدب العربي، وفي الأدب العالمي على السواء.

هوامش:
(1) – إغناطيوس يوليانوفيتش كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الديـن عـثمان هـاشم، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط2، 2008، ص 16.
(2) – ناصر عبد الرزاق الموافي، الرحلة في الأدب العربي (حتى نهاية القرن الرابع الهجري)، دار النشر للجامعات المصرية، مكتبة الوفاء، ط1، 1995، ص 37.
(3) – المرجع نفسه، ص 35.                                                              
(4) – المرجع نفسه، ص 37.
(5) – صلاح الدين الشامي، الرحلة عين الجغرافية المبصرة في الكشف الجغرافي والدراسة الميدانية، منشأة المعارف الاسكندرية، ط2، 1999، ص 155.
(6) – المرجع نفسه، ص 155.
(7) –عبد الفتاح محمد وهيبة، جغرافية المسعودي بين النظرية والواقع، من الأدب الجغرافي في التراث العربي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1995، ص 9.
(8) – عبد الرحيم مودّن، الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر؛ مستويات السرد، دار السويدي للنشر والتوزيع، ط1، 2006، ص 59.
(9) – المرجع نفسه، ص 59.
(10) – المرجع نفسه، ص 61.
(11) –عبد الرحمان حميدة، أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم، دار الفكر، دمشق، ط2، 1995، ص: 36.
(12) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 16.
(13) – أندريه ميكيل، جغرافية دار الإسلام البشرية؛ حتى منتصف القرن الحادي عشر، الجزء الأول، ترجمة: إبراهيم خوري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1983، ص 95. وينظر: حسني محمود حسين، أدب الرحلة عند العرب، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1983، ص 07.
(14) – المرجع نفسه، ص 20. وينظر: نقولا زيادة، الجغرافيا والرحلات عند العرب، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، لبنان، 1987، ص 17.
(15) – أحمد رمضان أحمد، الرحلة والرحالة المسلمون، دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع، جدة، ص 13. ينظر كذلك: شاكر خصباك، الجغرافيا عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1986، ص 50.
(16) – ينظر: جمال الفندي، الجغرافيا عند المسلمين، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1982، ص 26.
(17) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 21.
(18) – ينظر: فؤاد قنديل، أدب الرحلة في التراث العربي، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، ط2، 2002، ص 23. وكذلك: أحمد رمضان أحمد، المرجع السابق، ص 06.
(19) – شاكر خصباك، المرجع السابق، ص 06.
(20) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 45.
(21) – المرجع نفسه، ص 46.
(22) – شاكر خصباك، المرجع نفسه، ص 05.
(23) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 59.
(*) – لا يؤمن كراتشكوفسكي –باعتباره مسيحيا– بأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) نبيا، ولا أن ما جاء به هو من عند الله؛ لذلك اشتط به البحث إلى مغالطات لا يمكننا مسايرته فيها، من ذلك أنه يعزو كل معارف النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ما ورد في التوراة والإنجيل. يُنظر في هذا، الصفحات من: 50 إلى 66 من كتابه.
(24) – المرجع نفسه، ص 55. يقصد كراتشكوفسكي بالموضع(2631) سورة لقمان التي ترتيبها في القرآن (31)، لكنه أخطأ رقم الآية؛ إذ هو(27) وليس(26).
(25) – ينظر: حسني محمود حسين، المرجع السابق، ص 10.
(26) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 68.
(27) – المرجع نفسه، ص 69.
(28) – أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، كتاب الأنواء في مواسم العرب، صحح عن النسخ المخطوطة في: مكتبة بودلين أوكسفورد1320م، مكتبة بودلين أوكسفورد1618م، مكتبة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1919م، ص 02.
(29) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 46. وينظر: مقدمة مصححي كتاب الأنواء للدينوري.
(30) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 74
(31) – أندريه ميكيل، جغرافية دار الإسلام البشرية، ج1، م س، ص 95.
(32) – جمال الفندي، الجغرافية عند المسلمين، م س، ص 25.
(33) – عبد الرحمان حميدة، أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم، م س، ص 68. وينظر: نقولا زيادة: الجغرافيا والرحلات عند العرب، م س، ص 11.
(34) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 113.
(35) – ينظر: ناصر عبد الرزاق الموافي، الرحلة في الأدب العربي، م س، ص 92.                                              (36) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 137.
(37) – أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: سعيد محمد اللحام، الجزء الأول، دار الفكر للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، 2005، ص 109.
(38) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 140.
(39) – السعيد الورقي، في مصادر التراث العربي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص 157.
(40) – ينظر: أحمد درويش، الاستشراق الفرنسي والأدب العربي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2004، ص 112.
(41) – شاكر خصباك، المرجع السابق، ص 48.
(42) – المرجع نفسه، ص 86.
(43) – ينظر: كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 145.
(44) – المرجع نفسه، ص 146.
(45) – المرجع نفسه، ص 149.
(46) – ينظر: عبد الرحمان حميدة، المرجع السابق، ص 168.
(47) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 152.
(**) – المقصود هو هدف الرحلة وليس الرحلة في حد ذاتها؛ ذلك أن سبب الرحلة هو رؤيا رآها الخليفة في منامه أن السد الذي بناه ذو القرنين قد انفتح، فبعث سلاَّمًا لاستقصاء الأمر. ينظر: كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 158، وما يليها.
(48) – المرجع نفسه، ص 162.
(49) – المقصود بالناخذاه: رئيس المركب، أمَّا رامهرمزي فمنسوب إلى ميناء رامهرمز بخوزستان على الخليج الفارسي. 
(50) – المرجع نفسه، ص 184.
(51) – المرجع نفسه، ص 190.
(52) – عبد الرحمان حميدة، المرجع السابق، ص 72.
(53) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 202.
(54) – عبد الرحمان حميدة، المرجع نفسه، ص 243.
(55) – ينظر: كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 204.
(56) – ينظر: عبد الرحمان حميدة، المرجع نفسه، ص 235.
(57) – شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، ج1، دار صادر، بيروت، 1977، ص 11.
(58) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 212. ينظر: نقولا زيادة، الجغرافيا والرحلات عند العرب، م س، ص 31.
(59) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 260.
(60) – المرجع نفسه، ص 261.
(61) – المرجع نفسه، ص 326.
(62) – عبد الرحمان حميدة، المرجع السابق، ص 368.
(63) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 326.
(64) – المرجع نفسه، ص 330.
(65) – المرجع نفسه، ص 330.
(66) – المرجع نفسه، ص 332.
(67) – عبد الرحمان حميدة، المرجع السابق، ص 409.
(68) – المرجع نفسه، ص 409.
(69) – ينظر: كراتشكوفسكي، نفسه، ص 139.
(70) – المرجع نفسه، ص 299.
(71) – المرجع نفسه، ص 301.
(72) – المرجع نفسه، ص 359.
(73) – المصدر نفسه، ص 15.
(74) – شاكر خصباك، الجغرافيا عند العرب، ص 51.
(75) – كراتشكوفسكي، المرجع السابق، ص 411.
(76) – المرجع نفسه، ص 435.
(77) – المرجع نفسه، ص 439 و450.
(78) – عبد الرحيم مودّن، الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر، ص 12.
(79) – كراتشكوفسكي، المرجع نفسه، ص 145.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة