قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا، ما ضرّ لو كان جلس؟!
أبو نواس (الديوان، تحقيق الغزالي، ص 134)
تعود السخرية في معناها العام إلى العصور القديمة، أي منذ أن تنامى لدى الإنسان/المبدع، الإحساس بذاتيته، فتبين عيوب خصمه وصب عليها جام نقده، وهي غالبا ما تقترن بظاهرة الهزل والعبث لذلك حفلت الآداب القديمة بأنواع مختلفة من السخرية،منها الكوميديا والهجاء الانتقادي (Satire).
وفي الثقافة العربية ترد لفظة السخرية في القرآن الكريم غير ما مرة، وهي غالبا ما تأتي في سياق استهزاء الكفار بالمقدسات الدينية سواء كانت معجزات أو أنبياء أو مومنين. أما في لسان العرب فتأتي مرادفة للهزء والضحك والاستخفاف(1).
ومن الشعرية الحديثة ننتخب التعريف التالي لهنري موريي (H.Morier) :
"السخرية هي تعبير ضمير مأخوذ بالنظام والعدل عن سخطه إزاء انقلاب وضع يخاله طبيعيا، عاديا، واضحا ومعقولا. وقوام هذا التعبير هو الضحك باستخفاف من مظهر الخلل أو الضعف هذا، عن طريق التنديد به وفضحه بطريقة انتقامية ترتكز بدورها على قلب دلالة الكلمات (Antiphrase) أو على وصف لوضعية متعارضة كلية مع الوضعية الواقعية (Anticatstase) وبذلك تتم إعادة الأمور إلى نصابها"(2).
تتلبس السخرية بالعديد من المفاهيم التي تقوم مقامها أحيانا مثل الفكاهة (Humour) أو المحاكاة الساخرة (Paradie)، أو تلك التي تعين درجة من درجاتها مثل الضحك والابتسامة أو الفكاهة السوداء، وهي كلها شكلت مركز جذب للعديد من الدراسات، بحيث تمت مقاربتها من وجهات نظر متعددة: فلسفية، بلاغية، لسانية وتداولية وتأويلية.
وسنعمل من جانبنا ضمن هذه الدراسة على الإفادة من بعض وجهات النظر هاته في تناولنا لبنية السخرية وأبعادها داخل المتن الشعري لأبي نواس، ونحب أن نصرح مبدئيا، أن السخرية لدى أبي نواس(3)، لا تقف عند حدود كونها صورة بلاغية أو تنميقا أسلوبيا، وإنما هي في الحقيقة عكس لموقف الشاعر من مجتمعه، ذلك الموقف الذي وصل فيه الشاعر جمالية الشعر بمغامرة الفكر، مما جعل السخرية عند أبي نواس "تصبح مفهوما للعالم ونظرة، كأنما أراد لها أن تحل محل الفلسفة والأخلاق"(4).
شكل كل من النموذجين: القيمي و الفني، نهبا مشتركا لسخرية أبي نواس، ونفضل في هذا الصدد التركيز على النموذج الثاني، لكونه أكثر اتصالا بشعريته، فضلا عن كونه خلافيا ومثيرا للكثير من الجدل.
كان ضربة لازب لكل دارسي أبي نواس، أن يقفوا عند مسألة الوقوف على الأطلال في شعره، لذلك كنا نجد كثيرا من التفسيرات والاجتهادات التي حاولت انطلاقا من هذه المسألة أن تنجز قراءتها لشعرية أبي نواس، وضمن هذا الإطار نستحضر بعض هذه التفسيرات، حتى يمكننا اختبارها وفحص أسسها على اعتبار أن أبا نواس اشتهر بسخريته من الوقوف على الأطلال.
يرى محمد مندور في كتابه النقد المنهجي عند العرب أن سخرية أبي نواس من البكاء على الأطلال، لم تكن دعوة إلى التجديد، وإنما هي في الواقع محازاة للقديم والمحازاة أخطر من التقليد، لأن أبا نواس في رأيه حافظ على الهياكل القديمة للقصيدة العربية مستبدلا ديباجة بأخرى(5).
وسيرا في نفس الاتجاه يجد الدكتور عبد القادر القط تفسيرا أخلاقيا لسخرية أبي نواس من وصف الأطلال، مؤداه أن هذه السخرية، لم تكن تعبيرا عن تجديد فني خالص، أو ثروة على القيم الشعرية القديمة. بل هي لا تعدو أن تكون "سلوكا ذا دلالة حضارية ونفسية خاصة، لذلك لا يقابله بالدعوة إلى مذهب فني، بل إلى سلوك آخر يناقضه، فإذا كان الشقي قد عاج يسائل الرسم، فإن الشاعر قد عاج ليسأل عن خمارة البلد، وهو لا يريد أن يبكي ليلى أو يطرب إلى هند، بل يقدم بديلا من ذلك دعوة إلى الشراب. وهكذا نراه يكرر بعد كل دعوة إلى نبذ الوقوف بالأطلال أمرا بسلوك خلقي لا اتجاه فني، فيقول "واشرب على الورد من حمراء كالورد، واشرب من الخمر أنت أصفاها، واله بابنة العنب" أو تعبيرا عن رغبة وشعور نفسي كما في قوله "لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة ولكن سبتني البابلية، أحسن من ذلك بنت صافية". ويطرد هذا الصنيع في أغلب تلك المطالع الساخرة، ومعنى ذلك أن الشاعر يتخذ من الوقوف على الأطلال رمزا لسلوك خاص يمثل التزمت والتخلف عن مسايرة العصر الذي يعيش فيه"(6).
هكذا نستنتج أن الناقدين يهونان من شأن سخرية أبي نواس من الوقوف على الأطلال، وينكران بالتالي كل دلالة لها على تحول فني ما. والطريف أنهما يصدران في حكمهما هذا عن رؤية معيارية واحدة، فالأول بعد أن عدد أسباب إخفاق محاولة أبي نواس التجديدية، خلص إلى القول: "ومن ثم عدم قيام خصومة قوية حول هذا المذهب، على نحو ما قامت حول مذهب أبي تمام"(7). والثاني يقول: "[…] فلم يحس معاصروه بأنه قد خرج على مقومات الشعر المعروفة، أو أتى ببدع ينكره المتعصبون للقديم، لذلك لم تثر حوله خصومة بين القديم والجديد، ومع أن كثيرا من النقاد قد عدوه فيما بعد رائدا من رواد مذهب أبي تمام، فإنهم قد قصروا دوره على ما في شعره من مجازات وتشبيهات؟(8).
لن ننشيغل بالسؤال: هل جدد أبو نواس أم لا؟ ولكن ما يهمنا أكثر هو السؤال التالي: هل سخر أبو نواس من الوقوف على الأطلال لمجرد السخرية، أم أن سخريته هاته تمت في إطار رؤية معينة للشعر تحدد مادته، بنيته ووظيفته؟؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال نحب أن نقدم إضاءة بشأن اعتراض غالبا ما يثار عند مناقشة سخرية أبي نواس من الوقوف على الأطلال، وهذا الاعتراض يتقدم كالتالي: إذا كان أبو نواس قد سخر من الطلل، فقد احتفى به في كثير من شعره خاصة في مدحياته وبعض خمرياته!!
لا نشك في أن التزام أبي نواس للمقدمة الطللية في قصائده المدحية، راجع بالأساس إلى إكراهات المؤسسة النقدية التي تعضدها سلطة الممدوح، ولا أدل على ذلك من هذا التصريح الذي لا مواربة فيه(9):
أعر شعرك الأطلال والدِّمن القفــرا فقد طال ما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى وصف الطّلول مسلّـــــط تضيق ذراعي أن أجوِّز له أمــــرا
فسمع أمير المؤمنينا وطاعــــــــــة وإن كنت قد جشّمتني مركبا وعرا
أما بخصوص إيراد المقدمة الطللية ضمن نسيج القصيدة الخمرية، فالراجح أن الأمر لم يكن يتعلق بالطلل السائد، وإنما هو طلل آخر استوحاه أبو نواس من واقع تجربته الذاتية وهمومه الروحية والفكرية الخاصة، وفي هذا الصدد نحيل على قراءة عبد المعطي حجازي الرائعة(10) لقصيدة أبي نواس (ذهب منسكب):
عفا المصلى وأقوت الكثــــــب مني فالمربــدان فاللبـــــــــب
فهي تنقع الغلة وتدلل على هذه النتيجة، ونفس الشيء ينسحب كذلك على قصيدته السينية المشهورة (أطلال حانة) حيث وقف فيها على أطلال حانة مهجورة:
ودار ندامى عطلوها وأدلجـــــــــوا بها أثر منهم جديــــد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى وأضغاث ريحان جني ويابــس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم وإني على أمثال تلك حابس(11)
إن الطلل هنا، وضمن السياق العام للقصيدة يمثل طرفا في جدلية الحياة والموت بكل قسوتها ورهبتها… لقد خلت الدار وصارت أطلالا دارسة لم يبق فيها من الندامى الذين هجروها سوى آثار من جر الزقاق على الثرى وبقايا ريحان.
فرادة أبي نواس إذن تتمثل في تطويعه لتقليد فني سائد واستلهامه في بناء شكل جديد يتساوق وتجربته الحياتية والإبداعية، والأكيد أن هذا الطلل "الجديد" ليس هو الطلل الذي ما فتئ أبو نواس يسخر من الواقفين عليه:
-قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضرّ لو كان جلـــس؟
اترك الربع وسلمى جانــــــبا واصطبح كرخيّة مثل القبـس(12)
-صفة الطّلول بلاغة القـــــدم فاجعل صفاتك لابنة الكــرم
(…)
تصف الطّلول على السّماع بما أفذو العيّان كأنت في العلـــم
وإذا وصفت الشيء متبعـــــــا لم تخل من زلل ومن وهــــم(13)
-صاحٍ…مالي وللرّسوم القفــــار ولنعت المطيِّ والأكـــــــــوار
شغلني المدام والقصف عنهــــا وصراع الطّنبور والأوتـــــــار(14)
إن البكاء على الرسم وصفة الطلل ونعت الأكوار والمطي من صميم مكونات المقدمة الطللية كما أصّلها الشعراء الجاهليون، وأبو نواس لا يهاجم الطلل في حد ذاته، وإنما يهاجم موقفا معينا، وشاعرا معينا، بل اتجاها شعريا معينا تعيّنه بلاغة الفدم. ولا ينبغي أن ننخدع بقول أبي نواس: قل لمن يبكي على رسم درس، واقفا ما ضر لو كان جلس؟ ونقول: لو كان الباكي جلس لما قال له أبو نواس ما قال. ولكن الوقوف هنا ليس حالة فيزيائية. وإنما هو رمز لنمط معين من الشعر، يعيد إنتاج القديم ويكرس سلطة السماع والأتباع، ومن ثم فهو لا يلقي بالا للمعاناة والمعاينة: "إن الشاعر "الفدم" هو الذي ينظم ما لم يعانه، أما الشاعر المحدث فهو الذي يفترع القصيدة من معطيات عالمه هو، فلا تشتبه قصيدته على سامعها"(15).
وبعد، فإن من يجشم نفسه عناء "الوقوف" في الوقت الذي هو في مستطاعه أن يجلس، هو من يرثي أبو نواس لحاله في سخرية مرة، يقول مخاطبا إياه دائما:
أيا باكي الأطلال غيرها البلــى بكيت بعين لا يجف لها غرب
أتنعت دارا قد عفت وتغـيــرت فإني لما سالمت من نعيها حرب(16)
ويمعن في الهزء وتقريعه هذا التقريع اللاذع:
انس رسم الديار ثم الطلــــــولا واهجر الربع دارسا ومحيـلا
هل رأيت الديار ردت جوابــا وأجابت لذي سؤال ســؤولا(17)
ههنا يتلازم الوقوف مع العفاء والخرس ليصبح عجزا عن مسايرة ما استجد في الزمان والمكان. ومع ذلك سيكون من المبالغ فيه أن نخلص مما سبق إلى ما خلصت إليه أحلام الزعيم إذ تقول: "هكذا كان أبو نواس يتعرض إلى مقدس العرب الفني… وهكذا كان يعلن رفضه لقيمهم الفنية مؤكدا اختياره لطريقته الجديدة وفنه الجديد، طارحا بديله عن هذا الموروث[…]"(18). وذلك لأن أبا نواس بكل بساطة لم يرفض القيم الفنية العربية كقيم في حد ذاتها، وإنما رفض، من خلال سخريته، إعادة إنتاجها واستنساخها في الحاضر، آخذا بعين الاعتبار زمن القول، وواصلا تجربته الإبداعية بتجربته الشخصية في الحياة. يصبح الحاضر مع أبي نواس سيد الأزمنة كلها، به واجه الماضي قيميا وفنيا، إنه زمن التوهج والنبض الحي، زمن الحياة الممهورة بإيقاع اللذة وعنفوان المتعة. لا يريد الشاعر من وجوده سوى اللحظة الراهنة. لذلك فهو يسعى لتأمينها ونفي كل ما من شأنه أن يهدمها بذا وحده نفهم سر ثورته ورفضه للتقاليد: إنه يطلب من عذاله الإقلاع عن لومه الآن، كما يطلب من الشاعر المعاصر له أن ينبذ الطلل الآن، لذلك وجدناه يزجي دائما بفعل أمر يفيد الآنية والامتداد: "فاجعل صافتك لابنة الكرم" و "اصطبح كرخية مثل القبس".[…]
لعل كثيرا من جوانب شعرية أبي نواس لا يمكن فهمها الفهم الصحيح ما لم ننتبه إلى هذه الوشيجة العميقة، وهذا الاندماج الوثيق بين أعمال الشاعر وتجربته في الحياة، وأبلغ ما يجلو هذا المعطى قصائده الخمرية، التي كانت خير معبر عن هواجس الذات وملامح المرحلة، وربما يكون طه حسين أول من فطن إلى المطابقة بين الشعر والحياة عند أبي نواس، يقول:
"من الحق أن نعرف لأبي نواس شيئا غير هذا الفسق والإغراق في المجون، وهو أنه كان يريد أن يتخذ ويتخذ الناس معه - في الشعر مذهبا جديدا وهو التوفيق بين الشعر والحياة الحاضرة، بحيث يكون الشعر مرآة صافية تتمثل فيها الحياة، ومعنى ذلك العدول عن طريقة القدماء وما ألفوا، أراد أبو نواس أن يشرع للناس من هذا المذهب فجدد فيه ووفق التوفيق كله، واتخذ وصف الخمر وما إليها من اللذات وسيلة إلى مدح طريقته الحديثة وذم طريقة القدماء"(19).
إذا كنا قد نتفق مع طه حسين في هذا التحليل قليلا أو كثيرا، فإننا لا نذهب معه إلى مداه حيث يقول:
"على أن هذا المذهب الجديد على حسنه واستقامته، وعلى أن أبا نواس موفق فيه، لم يسلم من أشياء تمكننا من أن نفهم بغض الناس له ونعتهم عليه، فهو ليس مذهبا شعريا فحسب، وإنما هو مذهب سياسي أيضا"(20).
إن تعامل أبي نواس مع السخرية كفعل لغوي(21)، حمال لموقف فكري لم يفض به قط إلى إلغاء الموروث الفني كلية، بل إنه نزع عن الطلل -كمكون أساسي من مكونات هذا الموروث- قداسته، وخلعها على الخمرة مثلما فعل بالمقدسات الدينية في أغلب قصائده:
عاج الشقي على طلل يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
بنية التقابل في هذا البيت الأول تقوم على التضاد التالي:
الشاعر ¹ الشقي، الخمارة ¹ الطلل، عجت ¹ عاج، الحاضر ¹ الماضي.
ويستطرد الشاعر قائلا في نفس القصيدة قائلا:
دع ذا عدمتك، واشربها معتقة
صفراء تعنق بين الماء والزبد
إن الألفاظ التي تدل على السخرية هي "الشقي"، في عرف الشاعر هو من يبكي الديار، ثم هناك صيغة "دع ذا" وهي عبارة كان الجاهليون يتخلصون بها للدخول في المدح، واستعمال الشاعر لها لا يفسره سوى الرفع من نغمة السخرية من الشقي/المتبع. أما "عدمتك" فصيغة دعائية، يتمنى من خلالها الشاعر الفقد لهذا الشقي.
يمكن القول إن سخرية أبي نواس جسدت حالة حساسية جديدة، لا يدرك فيها التعارض بين الماضي والحاضر كتعارض زمني، وإنما كتعارض إبداعي فكري يعكس رؤية جمالية مخصوصة لها موقفها الخاص من مشكلات الحاضر، هذا الحاضر الذي أراده الشاعر ركحا وأفقا لعلاقة الذات بالآخر، والناظر في شعر أبي نواس يقف في أكثر من مناسبة على إفادة النواسي في تشكيل معمارية شعرية وإغناء نسق إدراكه من كل أشكال الفكر المعاصر له، عربيا كان أو غير عربي، خاصة على مستوى اللغة، المعجم والصور.
إن الموروث الثقافي كان بالنسبة لأبي نواس -في جزء غير يسير منه- ذلك الركام من الأجوبة التي أضحت تعاليم ومسلمات تتعلق بمشكلات لا يطرحها عالمه الراهن، لذلك لم يرد قطعا أن يكون شعره جوابا على أسئلة لا يجترحها حاضره، ومن هنا انبثق الشك في نفسه، ووضع تلك المسلمات موضع السؤال فكانت السخرية وكانت تجربة إبداعية جديدة مرتكزها المحو والإثبات: تمتاح من القديم ما يتجاوب وإدراك الشاعر المحدث، وفي نفس الوقت تتجاوز هذا القديم لتنفتح على منجزات العصر.
هكذا يتضح أن سخرية أبي نواس لم تكن مجرد دعوة لاستبدال ديباجة بأخرى كما اعتقد منذور، ولا دعوة لإحلال سلوك خلقي جديد محل آخر قديم كما ذهب إلى ذلك القط، وإنما كانت بالأساس قرينة تحول فني مس بنية الشعر ووظيفته في المجتمع، وخلق بالتالي صدمة لدى جمهور واسع من المتلقين(22).
على أن ناقدا ألمعيا كالجاحظ كان أوفق في إدراك حس المغايرة الذي مثلته شعرية أبي نواس، فهو (أي الجاحظ) يبني أحكامه على أساس عقلي مستمد من الفكر الاعتزالي، ومن ثم ينعي على النقاد التقليديين احتكامهم إلى معيار الزمن في تقييم الجودة. لذلك حينما انتصر لشعر أبي نواس استند إلى خصيصة داخل نصية عمادها جودة السبك وإتقان الصنعة، وهي ما يسميه بـ "الصياغة"(23). وينضاف إلى الصياغة بعد "التصوير"(24). ولا نستبعد أن يكون الجاحظ قد استمد صياغته النقدية لمفهوم الشعر من خلال قراءته لأبي نواس خاصة سينيته التي أشاد بها كثيرا، يقول:
"ما أعرف لأبي نواس شعرا يفضل هذه القصيدة:
ودار ندامى عطلوها وأدلجــــوا بها أثر منهم جديـــد ودارس(…)
تدار علينا الكأس في عسجديـة حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتهــــا مما تدريها بالقسي الفــوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبهــا وللماء مادارت عليه القلانـس(24)
ومن شدة إعجابه بالصورة الحضارية الجميلة المتضمنة في هذه القصيدة, مضى ينشدها على أصدقائه، ومن بينهم أبو شعيب القلال، وكان عالما شاعرا فلم يملك إلا أن يقول: يا أبا عثمان، هذا شعر لو نقر عليه لطنّ!(25)
لقد توخينا من وراء تقديم قراءة الجاحظ لشعرية أبي نواس، التدليل على أن سخرية أبي نواس من الأطلال، والتي كانت من مياسم القصيدة الخمرية، بل إحدى مكوناتها البنيوية، لم تخل من أبعاد ونتائج لا يمكن أن نتغافل عنها أو نتجاهلها، إنها سخرية تطرح البديل، وهذا البديل يتمثل في مثل هذه القصيدة-الصورة، وغيرها من القصائد التي عكست طرائق جديدة في الإبداع خلخلت أطر القصيدة السائدة، مما أشّر لتحول في مفهوم الشعر ووظيفته، هذا التحول كان خلفه تفاعل عميق مع مكتسبات الحياة الجديدة وما اشتملت عليه من ألوان ثقافية كالرسم والتصوير وفن الخط وغيرها من الفنون التي اكتسحت فضاءات المجال الحضاري العربي الإسلامي مثلما اكتسحت فضاءات القصيدة النواسية.
هوامش
1 - ابن منظور، لسان العرب، مادة سخر، المجلد السادس، دار صادر/ دار الفكر، بيروت، ب.ت.
2 - Henri Morier, Ironie, in dictionnaire de poétique et de rhétonique, 3ème édition, P.U.F, Paris 1981, p. 597.
3 - لسنا بحاجة إلى التدليل على طبع أبي نواس الساخر، بحيث أن أخباره ونوادره تعكس هذا المعطى بجلاء.
4 - أدونيس، مقدمة للشعر العربي، الطبعة الثالثة، دار العودة، بيروت 1979، ص 40
5 - محمد منذور، النقد المنهجي عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، 1948، ص 59.
6 - عبد القادر القط، حركات التجديد في الشعر العباسي ضمن كتاب، إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين، إشراف عبد الرحمن بدوي، دار المعارف، مص 1962، ص 416-417.
7 - محمد منذور، المرجع السابق، ص 59
8 - عبد القادر القط، المرجع السابق، ص 418-419.
9 - ديوان أبي نواس، تحقيق عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت 1992، ص 21.
10 - أحمد عبد المعطي حجازي، محاولة في قراءة أبي نواس: الزمن والخمرة، مجلة آداب، عدد 1 و2، 1977 السنة 25، ص 65
11 -12-13-14- الديوان، ص 37 و134 و57-58 و676.
15 - جابر عصفور، قراءة في التراث النقدي، الطبعة الأولى، دار سعاد الصباح، الكويت/القاهرة 1992، ص 149
16 - 17 - الديوان ، ص 10 و673
18 - أحلام الزعيم، أبو نواس بين العبث والاغتراب والتمرد، الطبعة الأولى، دار العودة، بيروت 1981، ص 127.
19 - 20 - طه حسين، من تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، بيروت 1979، ص 191، نزعم أن أبا نواس لم تكن له اهتمامات سياسية، وحتى التاريخ لا يسعفنا في أخذ فكرة عن أبي نواس السياسي اللهم ما كان من الخصومة السياسية بين الأمين والمأمون، وكيف استغل هذا الأخير علاقة أخيه الأمين بأبي نواس ليشهر به.
21 - نجد السخرية باعتبارها فعلا لغويا لدى فيليب هامون Philippe Hamon في :
Ironie, in Sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Tome2, édition Hachette, Paris 1986, p.125.
22 - من النماذج الشهيرة لهؤلاء المتلقين نذكر تمثلا لا حصرا ابن شرف القيرواني، انظر، رسائل الانتقاد ضمن كتاب، رسائل البلغاء، اختيار وتصنيف: محمد علي مرد، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، مصر 1946، ص 319.
23 - الجاحظ، البيان والتبيين، الجزء الثاني، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي مصر 1940، ص 27.
24 - الجاحظ، الحيوان، الجزء الثالث، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي مصر 1940، ص 132
25 - 26 - ابن منظور، مختار الأغاني، الجزء الثالث، تحقيق عبد العليم الطحاوي، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1966، ص 26-27.