تمهيد:
يمثل تاريخ 1895 البداية الفعلية للسينما أين تم عرض أول فيلم سينمائي على يد الأخوين أوغيست ولويس لوميير (Auguste and Louis Lumière) بتصويرهما مشاهد من الحياة الواقعية في فرنسا سموها الواقعيات تمثلت في صور لقطار يصل المحطة، وعمال ينصرفون من عملهم، وصبي شقي يقف على خرطوم مياه بستاني مما يقذف الماء في وجه البستاني[i]، ثم ازدهرت السينما بعد ذلك بسرعة؛ بفضل تطور تقنيات التصوير مع توماس إيديسون (Thomas Edison)، فانتقلت من السينما الصامتة إلى السينما الناطقة، ومن السينما غير الملونة إلى السينما الملونة، ثم كان عام 1902 أين انتقلت السينما من مرحلة السينما التسجيل إلى مرحلة السينما الروائية مع الفرنسي "ميلييس" (George.Mélès) الذي أنتج أكثر من 500 فيلم[ii] كانت المشاهد فيها مرتبة ترتيبا مصطنعا، ومع تطور وسائل عرض الصورة تطور الفن السينمائي، وفي ظرف قياسي صارت السينما صناعة وفناً وأيديولوجيا تتحكم فيها رؤوس الأموال الكبيرة، والشركات العملاقة التي توجه نشاطها وفقاً لاقتصاديات السوق، وتطورات التقنية الحديثة، ومتغيرات الواقع.
1. السينما والتلقي:
على الرغم من انتشار وتطور أجهزة الصورة وعرضها فإن السينما ما تزال توصف بالوسيلة الأكثر شعبية وارتباطاً بالأحداث والمستجدات الكونية إلى جانب أن الصورة المتحركة تختزن بالثراء العلاماتي، والتكثيف الدلالي الذي تكشفه القراءة المتأنية للنسيج البصري، حيث تتم فيها إعادة إنتاج المعنى والتأويل الذي يتطلب كفاءة وفهماً واعياً وقدرة على تفكيك الخطاب البصري وتحليل بنيته العميقة باعتبار أن أيديولوجيا الصورة نابعة من بنية المنظومة الكلية للخطاب؛ لأن طريقة العرض السينمائي تفرض طقوسا خاصة على التلقي الذي يبدأ طقسه بالتوجه إلى صالة العرض، والدخول التدريجي في مرحلة الاستعداد، والتهيؤ للمشاهدة، والانعزال شبه الكامل في الظلمة عن الآخرين، والتوحد مع الشاشة، حيث التتابع في تلقي شبكية العين لصدمات النور والظلمة، مما يؤدي إلى التركيز، (( وأما ما تفضي إليه عملية التلقي للعلامة المرئية فهو الجو الشعوري (الإيتوس) شديد التعقيد بمستوياته الثلاثة: المستويان الافتراضيان وهما: الجو الشعوري النووي أو الثلاثي الناتج عن بنية الشكل، ولا يوجد إلا كعلامة ببنية خالصة، والجو الشعوري المستقل الذي يتناول التشكيل الفني كنموذج معزول لا سياق لهن والمستوى التكويني الذي هو وظيفة بنية الشكل، والمواد التي تكونه، والسياق الذي يندرج فيه.. وقد يكون التلقي بهذه الطريقة عميق لأنه يركز على أن إدراك انتظام الشكل الفني ليس تلقائيا، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بإدراك ما يحقق بلاغة العلامة بدءًا من الوحدات اللونية الصغرى ومكوناتها. )) [iii]
فالصورة إذن توفر إمكانية التفكير والفهم لعدد كبير من الهواجس المعرفية بسبب كثافتها الدلالية وتراثها الرمزي، فهي لا تكتفي بإظهار ما هو مرئي، بل تدخل في ضمن لعبة التوتر الدلالي التي تفرضه متعة ولذة القراءة[iv]، إذ على مر سنين متعاقبة شهد الخطاب المرئي تطورات متلاحقة جعلت منه أداة للنفوذ والهيمنة بفعل إمكاناته في إنتاج المعرفة، وامتلاك المعلومة والتحكم بها سواء أكانت اجتماعية، سياسية، عسكرية، ثقافية أو تربوية، فإن محصلة هذه التقنيات أدت إلى تقارب كوني للمجتمعات الإنسانية رغم اختلاف لغاتها، وقومياتها، وأهدافها، فثقافة الصورة قد تجاوزت كل الحواجز وألغت الحدود الزمكانية، وسجلت وقائع التاريخ لحظة بلحظة، إنها الوسيلة الأكثر اتصالاً وإبلاغاً وتثقيفاً، وعلى الرغم من اتساع أدوارها وآثارها إلا إن تلك الأدوار ما زالت مادة خصبة للبحث والتحليل، والاكتشاف بمنظور لا نهائي كمدرك بصري يستثير المدرك الداخلي المفسر لوجودها لتخرج قيماً تراكمية تشكل وعي الإنسان فرداً وجماعة، وتؤثر في قراراته[v]؛ لأن لغة السينما ليست وسيلة تبليغ فحسب، بل إنها تقر بأن يشترك المتفرج في إنتاج المعنى فيصبح دوره إيجابيا في عملية التلقي[vi]، خاصة أن المادة التي تقدمها السينما ذات بنية معقدة من تتكون رموز وإشارات يمكن أن تصنف إلى نوعين من المفردات، النوع الأول: مفردات لغوية كالصوت البشري، واللغة، الموسيقى، والضوضاء، والنوع الثاني: مفردات بصرية التي تظهرها فنون التعبير الحركية، والأشكال الهندسية، والألوان المختلفة.
وعليه فإن السؤال الذي يطرح في نظرية التلقي، هو كيف يتلقى المشاهدون الفيلم بمعنى الاستجابة له؟ وهو سؤال مشروع ظهر مع تيموثي كوريغان (Timothy Corrigan)، ومريام هانسن (Miriam Hansen)، وجانيت ستيغر (Janet Steiger) التي ذكرت في كتابها "المشاهدون الضالون" أن مسألة تلقي الفيلم تخضع لعدد من العناصر منها: نوع الفيلم، وطريقة العرض، وطبيعة المشاهد، وتركيبة الجمهور، مستوى التماهي، المنظور العقائدي، الاعتبارات الجمالية، استراتيجيات التسويق، بل إن الكاتبة تذهب إلى التوكيد على أن إيجاد نظرية شاملة في المستقبل حول تلقي الأفلام أمر ضعيف الاحتمال في ظل تنوع جمهور السينما الذي ضم إضافة المشاهد المطلع والمتعاون شريحة جديدة تسمى المشاهد الضال الذي يقوم بما هو غير متوقع متجاوزا المعايير التي وضعها الأكاديميون فيخوض تجربة الفيلم على مستوى أعمق بكثير من النخبة المثقفة[vii]، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن المشاهد الضال أكثر حضورا في دور العرض من بقية أنواع المشاهدين الذي يتحركون ضمن أطر وضعت سابقا من قبل باحثين أو نقاد أو دارسين أو ربما انتظروا حتى يقرؤا في الصحف والمجلات النقد الذي يصدر من مختصين دون أن يغيروا من الأحكام النقدية شيئا.
2. الصورة السينمائية وخداع العين والعقل:
الصورة السينمائية علامات لفظية وبصرية وأيقونية مختلفة، تقوم بنقل لنا العالم المرئي تعيينا أو تضمينا، وترد في لقطات متتابعة ومتحركة ومتنوعة (بانورامية، عامة..)، وبكاميرات في وضعيات مختلفة (ثابتة، متحركة، علوية، سفلية..)، وهو ما يجعلها تتميز بلغة مشهدية، وفيلمية لفظية، أو فيلمية بصرية، وتتوفر على سنن خاص بها، لذلك نجد تفكيكها يقوم الخلفية الثقافة والمعرفة للمشاهد، مما يستدعي تفكيكها وتركيبها في ضوء سياقاتها الداخلية من جهة، ومعطياتها الإحالية والمرجعية من جهة أخرى؛ لأنها من خلال العرض تتحول إلى إرسالية موجهة من الفيلم (المرسل) إلى المشاهد (المرسل إليه)، وعليه فإنه يمكن الاستعانة بالنموذج التواصلي عند رومان جاكبسون (R.Jakobson)، لفهم مختلف العناصر التواصلية ووظائفها الذرائعية، فهي ليست إمبراطورية من العلامات المنغلقة على نفسها، أو عالم بدون تواصل بين الذوات[viii]، بل إنها رسالة تواصلية، منفتحة على عالمها المحيط بها، لذلك فإن (( ما يجب تأكيده أنّ السينما فن له إمكانيات ليست بالضرورة متوفرة في باقي الفنون الأخرى .. هي تواصل وجداني بقدر ما هي لقاء فكري وتفاعل جمالي مع الصورة .. وهذا هو ما على الناقد السينمائي بلورته وشحذه في ذهن المتفرج للانتباه إليه وتعاطيه ))[ix] خاصة أن هذا المتفرج أو المشاهد ليس خالي الذهن، بل هو مشحون بتجارب سابقة، ومعارفة، واتجاهات تجعل من الصعب اقناعه بالأحكام النقدية التي يتوصل إليها الناقد السينمائي الذي سيجد نفسه أمام تفسيرات كثيرة ومتنوعة وربما متناقضة أثناء مناقشته للفيلم.
ولأن الصورة الفيلمية في تركيبها عبارة عن (( متوالية الفطوغرامات الموجودة بين عين الكاميرا وانغلاقها ))[x]، فإنه يمكننا الحديث عن أنواع عديدة من الصور داخل الفيلم السينمائي، منها: الصورة الثابتة، والصورة المتحركة، والصورة الوقفة (Pause)، والصورة الأيقونية، والصورة الرمز، والصورة الإشهارية، والصورة الصوتية، والصورة الفوتوغرافية، والصورة السينوغرافية .. إضافة إلى صورة الممثل، وصورة اللغة، وصورة الحركة، وصورة الديكور، وصورة اللون.. وإذا كان الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (Henri Bergson) قد تحدث عن صورة الحركة وصورة الزمان، فإن جيل دولوز (Gilles Deleuze) قد قسم الصورة السينمائية إلى الصورة - الإدراك، والصورة – الانفعال، والصورة – الفعل، وهو ينظر إلى العالم على أساس انه عالم مخادع، كخداع السينما للزمان، والمكان عن طريق خداع الحواس[xi]، زد على ذلك أن السينما الحديثة استفادت من الصورة (( الرقمية فائقة الدقة والجودة (High Defenition) HD؛ وهي أصغر وحدة في الشريحة الالكترونية الماسكة للصورة تسمى بيكسل (Pixel)، وهذه الشريحة مربعة الشكل، وتتكون الصورة من آلاف البكسلات المتراصة بشكل أفقي خطى فوق بعضها حتى تملأ مساحة الصورة، ونظام HD هو تصغير هذه الصور لمساحة وحجم متناهي الصغر حتى تحمل الشريحة عددًا أكبر وخطوطًا راسمة أزيد تصغير هذه البكسلات ومن هنا تتحسن كافة الخطوط المنحنية والمائلة وبالتالي دقة الصورة وبالذات عند تكبيرها ولقد وصل الحال الآن أن الكاميرات الحديثة الرقمية HD درجة جودتها وصلت إلى مقياس 4K، وهو نفس جودة مقياس الفيلم السينمائي مقاس سوبر 35 مليمتر ))[xii]؛ وهذا يعني أن الخدع السينمائية صار بإمكانها إقناع المتفرج بالصورة المزيفة إلى درجة لا يمكنه معها أن يتبين المزيف من الأصل.
وقد ذكرنا في بداية حديثنا عن الصورة أنها تفعل في متلقيها فعل السحر بتمظهراتها التي تخدع العين والعقل معا، ولندلل على ذلك هناك أمثلة كثيرة على خداع الصورة، فبعض الأفلام السينمائية الأمريكية التي اكتسحت دور العرض، وسيطرت على شاشات التلفزيون تكاد تعرض من بدايتها إلى نهايتها صورا محاكية وغير حقيقية؛ صور تلعب فيها الرقمية دورا كبيرا حتى يخيل إلى المشاهد أن الحدود الفاصلة بين الصورة الأصل والصورة المصنعة ملغاة، بل إن تاريخ السينما الأمريكية على سبيلا التمثيل قد مال ميلا عظيما تلقاء الصورة الرقمية التي تطابق الخيالي بالواقعي بما امتلكته من تقنية وفنية عالية الدقة، ونذكر من الأفلام التي اعتمدت على الرقمية اعتمادا كليا فيلم "الأفتار" (Alovtar)، وفيلم "الدراج الشبح" (Ghost rider)، وفيلم الرجل الأخضر "هالك" (Hulk)، وفيلم "الرجل الحديدي" (Iron Man).. وذكر هذه النماذج إنما جاء على سبيل التمثيل لا الحصر؛ لأن الساحة السينمائية تعج بالأفلام على هاته الشاكلة.
الهوامش:
[i] - برنار ف. ديك، تشريح الأفلام، ترجمة: محمد منير الأصبحي، ط07، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامة للسينما، دمشق، سورية، 2012، ص15.
[ii] - سمير الزغبي، جماليات السينما وتقنية إنشاء الفيلم، ط01، دار نقوش عربية للنشر، تونس، 2010، ص32.
[iii] - مجموعة مو: فرانسيس إدلين، جان- ماري كلينبكنبرغ، فليب مانغيه، بحث في العلامة المرئية من أجل بلاغة الصورة، ترجمة: سمر محمد سعد، مراجعة: خالد ميلاد، ط01، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، 2012، ص10-11.
[iv]- مخلوف حميدة، سلطة الصورة، ط01، دار سحر، تونس، 2004، ص10.
[v]- أحمد بن عبدالرحمن آل أحمد الغامدي، ثقافة الصورة الفنية وأثرها الاجتماعي والتربوي، بحث مقدم إلى مؤتمر جامعة فيلادلفيا الدولي الثاني عشر (ثقافة الصورة في الأدب والنقد)،عمان، الاردن، 24 أفريل2007.
[vi] - رائد عبد ربه عكاشة محمد صالح، مدخل إلى السينما والتلفزيون، ط01، الجنادرية للنشر، عمان، 2009، ص12.
[vii] - برنار ف. ديك، تشريح الأفلام، ترجمة: محمد منير الأصبحي، ط07، منشورات وزارة الثقافة، الهيئة العامة للسينما، دمشق، سورية، 2012، ص577.
[viii] - François Jost :(Sémiologie du cinéma et de la télévision ?), Vocabulaire des études sémiotiques et sémiologiques, Sous la direction de Driss Ablali et de Dominique Ducard, PUF, Paris, 2009.P :133-138.
[ix] - لوزيت فارينو: من كتـاب: لغة الصورة، لروي آدمز، ترجمة: سعيد عبد المحسن، ط01، الهيئة العامة للكتاب، مصر، 1992، ص08.
[x] - Serge Eisenstein, Oeuvres Choisies, 6 Tomes. T.2.M. Iskousstro G4691^ P. 290
[xi] - ينظر: Henri Bergson :Matière et mémoire. Essai sur la relation du corps à l'esprit, Œuvres, Paris, PUF (1896) ,1963
وينظر أيضا: Gilles Deleuze, L'Image-mouvement et l'Image-temps, ED. Minuit, France, 1983 et 1985.
[xii] - الصورة السينمائية من السينمائية الصامتة إلى السينمائية الرقمية، سعيد شيمي، تقديم: أحمد الحضري، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2013، ص285.