في سياق استرسال الثورة التكنولوجية، ونشوء مجتمعات المعرفة، انبثقت في المنتصف الثاني من القرن العشرين الثورة المعلوماتية، التي لم تلبث بوسائطها التواصلية السمعية والبصرية والمكتوبة، أن أمست حدثا كونيا مثيرا، أفضى نتيجة تأثيراته الحضارية السريعة بالإنسان، إلى ارتياد عوالم رقمية، لم يكن له عهد من قبل بمجالاتها المعرفية والخدمية والترفيهية، وإلى معايشة بموازاة حياته الواقعية حياة افتراضية، تتزامن فيها الأزمنة، وتتوحد الأمكنة، وتلغى المسافات والحدود بين المحلي والكوني، ويتآلف الآني والتاريخي، ويتجانس الحقيقي والخيالي، ويتحقق التعارف مع الغير النائي، وتبادل الآراء والمشاعر معه، والترفيه عن النفس بعفوية وحرية...
إن هاته الحياة المستحدثة نتيجة الرقمنة، بعثت الإنسان على فك جل الأطواق التعبيرية، التي كانت تحول دون تواصله مع بني الإنسان ومع محيطه، إذ أمكنه ابتداع معدات إلكترونية رقمية ذكية، أسعفته على التواصل السريع المتعدد القنوات والأغراض، وتدبير شأنه الذاتي، وشؤونه الموضوعية، و استشراف بتلقائية و خبرة علمية عالية آفاق حياتية رحبة، وابتداع عوالم ابداعية تفاعلية ذات تناسقات جمالية حركية، ترتهن بسيرورة التلقيات واحتمالاتها.
ولما وجد هذا الانسان فيها استجابة لأفق انتظاراته، داوم عليها في مختلف أنشطة حياته، وفي فترات ترويحه عن نفسه، إلى حد أنه أصبح ينعت بنعت الكائن التواصلي.
أفق جديد لفن الرسم:
في سياق هاته الثورة المعلوماتية، لم ير الرسام المعاصر بُدا من اشتراع لنفسه تجربة فنية مغايرة،
ترتقي بهدفه التواصلي إلى مدارج أعلى حيث يشرئب إلى ما يستجيب لحاجات تجددت في الوعي الجمعي، لذا تطلع إلى فن الرسم الرقمي، وابتداع الرسوم الاحتمالية، التي تنجز بفضل أنظمة معلوماتية تقوم بترميزها بلغة برمجية، تيسر لها ما لانهاية له من الاحتمالات، التي تخرجها من نطاق الكمون إلى نطاق التحقق الافتراضي، بجمالية ذات لمسات وتأثيرات مثيرة، سرعان ما تحدث تأثيرها التواصلي في المتلقي، وتبعثه على افتراض تحققات رقمية أخرى، وهذا وذاك بواسطة الكومبيوتر، الذي يجهز ببرامج مسعفة ك"أدوبي فوتوشوب" (Adobe Photoshop)، و"أدوبي إليستراتور" (Adobe Illustrateur)، و"جيمب" (GIMP)، و"فوتوفلتر" (Photophiltre)، و"مايا" (Maya)، و"بلاندر" (Blender)، و"بيفوت" (Pivot)...
ويفيد الرقمي الذي تستهدفه هاته البرامج العدد والتعدد، فهو ترجمة للفظ اللاتيني Numerus، الذي يدل على تمثيل بواسطة الأعداد، لذا يراد بالرسم الرقمي حركة تشكيلية تترجم رؤيتها الإبداعية إلى لغة رقمية، أو شفرة معلوماتية مزدوجة إلى الرقمين (1و0) ، أي إلى قيم رقمية، لها طواعية تمثيل المعلومات،التي تفك بواسطة برامج معلوماتية مدمجة، أو تم إدماجها في الكمبيوتر لتتجاوب مع المستحدث منها، كما يراد بالتصوير الافتراضي، حركة تفترض صورا تطابق الصور الفوتوغرافية مطابقة تامة، بينما هي لم تؤخذ بآلة التصوير، وغيرمطابقة لشيء واقعي، إلا أن هاته الحركة كثيرا ما تنعت بالرقمية.
ولعل الرسم يكون هنا وهناك رقميا نتيجة علاقة جدلية بين معطيات معلوماتية رقمية تعطى، وأخرى تخيلية تبنى إثر تفاعلية مشتركة بينها وبين الرسام من جهة، وبين المتلقي والرسم الرقمي الذي أنجزه هذا الفنان من جهة أخرى.
بيد أن الفنان هنا لا يقتصر دوما في رسمه على واسطة الكمبيوتر، فهو قد يرسم على لوح لمسي (Tablette tactile)، أو لوح بياني (Tablette graphique) يوصلان مباشرة بالكمبيوتر ، بل قد يرسم رسما أوليا بوسائل أخرى تقليدية كقلم الرصاص، والفرشاة، والصباغة، والأقمشة، أو الأوراق... وبواسطة الماسح الضوئي، ينقل بعد حين ما رسمه إلى الكمبيوتر، ليجري عليه تعديلات رقمية، قد تتمثل في التلصيق، أوالتقطيع، أوالمونتاج، أو التحوير والتحريف، أو الطي، أو التعديل.
وقد يدعم الرسم أثناء الرقمنة بدعائم فنية إلكترونية، كالصوت، والفيديو، والبعد الثالث، والرسوم البيانية، والصور الثابتة أو المتحركة.. فبهاته وتلك يصطبغ بصبغة جمالية مثيرة، إذ تتعدد أبعاده التعبيرية، وتتراحب تراحبا يهبه طواعية التجانس مع مختلف الفنون الجميلة والأشكال التعبيرية، بل والتعايش مع فنون أخرى استحدثها العالم الرقمي، كفن الصورة الافتراضية المفرطة، التي لا تؤخذ بآلة التصوير كما هو معهود، وإنما تبتدع رقميا بدقة متناهية، دون أن تمت بصلة إلى موضوع واقعي بذاته، وفن التنصيب الذي يشير إلى إبداعات أبدعت لتلائم مكانا معينا، ولتتلاءم فيما بينها دالة على موضوع محدد يتفاعل معه المتلقي، وفن الصباغة السريعة الذي يعتمد على اللوح البياني الموصول بالكومبيوتر، وينجز بواسطة برنامج معلوماتي يسجل صيرورة الرسم من بدايتها إلى نهايتها، ثم يبثها وهي في حركة سريعة دائبة، والفن التوليدي الذي يتمثل في إبداعات فنية متباينة المناحي أنشئت تلقائيا بواسطة خوارزمية، أي برنامج معلوماتي أبدعه الفنان نفسه، قصد إدراج في تجربته فنونا عدة، وكذا تصاميم الهندسة المعمارية ...
وقد ترتب عن التغير الذي شهده فن الرسم في ظل الثورة المعلوماتية، تغيران فنيان مزدوجان:
أولهما، تغير الرؤية إلى الواقع، إذ أصبح الفنان الافتراضي يراه في استرساله الزمني متعددا، ومرتبطا بجدلية الصيرورة المجتمعية، التي تبدع - بدل أن تحاكى- في واقع افتراضي بديل، تنتهك فيه الحدود بين الخيالي والواقعي.
ثانيهما، تغير الرؤية إلى الرسم، إذ أضحى الإنسان ينظر إليه في اشتغاله الرقمي، وفي علاقته بالواقعي، باعتباره احتمالات تعبيرية حركية، تنزاح باستمرار عن النمذجي ، منشرعة بجمالياتها على المتعدد الواقعي.
ولعل من الفنانين الذين نحوا منحى الرسم الرقمي أوالافتراضي، وبرعوا فيه، الفنان الياباني: "كاجايا يوكاتا" (Kagaya yukata )، والفنان البلجيكي "بن هاينه"(Ben Heine) ، والفنانين الأمريكيين "كارل سيمز" (Karl sims)، و"بيري هوبرمان" (Perry Hoberman)، والفنان الألماني "هيلدبراند فولكر" (Volker Hildebrandt)،والفنان الكندي "ديفيد روكيبي" ( David Rokeby)، والفنان الأسترالي "جيفري شو" (Jeffrey shaw)، والفنانين الفرنسيين "جاك بيركونت" (Jacques Perconte)، و"ميغيل شوفالييه" (Miguel Chevalier)، و"موريس بنعيون" (Maurice benayoun)، ويضاف إلى هؤلاء الفنانين الذين ذكرناهم على سبيل التمثيل لا الحصر،الرسام "كرستيان بافيت" (christian Pavet) الذي سنتخذه عمدة بحثنا هذا.
تجربة الرسم الرقمي لدى "كرستيان بافيت":
مهما تعددت مناحي الرسم الرقمي التي ينحوها "كرستيان بافيت"، تبقى دوما في مجملها مزدوجة إلى تجربتين:
أولاهما، تجربة الرسم الثنائي البعدين، الذي يرسم منشدا إلى بعدي الطول والعرض، وفق رسم مسطح على حيز منبسط تمثله بداءة الورقة، قبل أن ينقل بعد استيفاء معالمه إلى الحاسوب المعتمد، فالرسم ينجز هنا على فضاء تمثيلي يرتهن ببعدين غير واقعيين، أحدهما عمودي والآخر أفقي، لذا فهو يعتمد على التمثل الذهني، لمحور الارتفاع أو العمق، أثناء رسمه وأثناء قراءته.
إن هاته التجربة تدل عليها لوحات عدة، من بينها: لوحة"قادم من مكان آخر" (1996م)، ولوحة "بورتريه امرأة" )1997م)، ولوحة "مامي" (1996م)، ولوحة"اللبؤة" (1997م)، ولوحة "البطالي" (1997م) ، ولوحة "الأرملة" (1996م)، ولوحة "حرارة الصيف" (1996م) ، ولوحة "دون كيشوط" (1997م) ... وهي لوحات رسمها الرسام في بداية تجربته الفنية، ليسترسل بعدها في رسم اللوحات الثلاثية الأبعاد.
ثانيتهما، تجربة الرسم الثلاثي الأبعاد، الذي يرسم وفق مجسمات ذات أبعاد الطول والعرض والارتفاع، أوالعمق، أي وفق مجسمات ذات أبعاد واقعية، تبعث الرسام على إيلاء الاعتبار للظلال، حتى توهم مع الإضاءة، والأشكال الهندسية، بعمق البعد الثالث، وبعمق الفراغ، وبالتالي بواقعية المجسمات.
إن هاته التجربة تندرج ضمنها لوحات رقمية عدة، منها: لوحة "موت الفنان" (5200م)، ولوحة "الهجر" (2005م)، ولوحة "نظرة جديدة" (2006م)، ولوحة "أزرق" (2006م).
- الرسم الحركي، الذي يتمثل في تضمين لوحات عدة حركة متجانسة مع تآلف عناصرها التشكيلية ، ومتناغمة مع موسيقى مساوقة لها، بحيث يترتب عن حركة اللوحات، لوحة فنية حركية تستثير على شاكلة فيديو موضوعا معينا، من هاته اللوحات: لوحة "رقص طفل" (2000م)، ولوحة "الطفولة المغتالة"(2003م)، ولوحة "سكرة بيتهوفن" (2003م)، ولوحة "حلم" (2006م)، ولوحة "الغريب" (2008م)، ولوحة "الوجه" (2008م)...
- الرسم الافتراضي، أو ما يسميه "كرستيان بافيت" التصوير الافتراضي، وهو تصوير يقام بمعونة برنامج معلوماتي، يأتي بالرسم في منتهى الدقة، حتى أنه يكاد يطابق الصور الفوتوغرافية، وإن لم يؤخذ بآلاتها، وتكمن أهمية هذا الرسم في استيحاء مرسوماته من وحي الخيال، وتفاعله مع الذكاء المبرمج، بذا تكون الصور الافتراضية، لا صلة لها بمرجعيات واقعية، أو بنماذج سابقة عنها، وحتى نستدل على هاته الصور الرسمية، نشير إلى اللوحات التالية: لوحة "الطيران الأخير" (2001م)، ولوحة "عبيد الأرض" (2001م)، ولوحة "مصر" (2001م)، ولوحة "المرأة والولد" (2003م)، ولوحة "امرأة بؤرية" (2003م)...
- الرسم الرقمي، الذي يتجلى، في اعتماد الكفاءة الإبداعية الذاتية المتفاعلة مع الحاسوب، بواسطة الفأرة أو القلم، لابتداع لوحة ذات أشكال هندسية، وأحجام، وظلال، وألوان دالة على فن الرسم، باعتباره فنا له جماليته الخاصة، ويكون الرسم هنا رقميا، باعتباره رسما تم الحصول عليه، ومعالجته، وتخزينه وفق صيغة مشفرة قابلة للتمثيل بواسطة أعداد أو قيم رقمية. ولنستدل على هذا الرسم يكفي أن نشير إلى اللوحات التالية: لوحة "حمض نووي" (2005م)، ولوحة "رسالة صديقتي الشجرة" (2006م)، ولوحة "تحقيق ثلاثة أبعاد" (2006م)، ولوحة "أسلوب مستقبلي للشعر" (2006م)، ولوحة "إدمان الكحول" (2006م)، ولوحة "تصارع" (2007م)...
- رسم الصورة التأليفية، التي تعبر عن نشاط ذهني، يستهدف تأليف الصورة من عناصر عدة، تجعل منها كلا مبنيا، ومتناسقا، ومنسجما في علاقته بمجال معين، ولعل هذا الرسم تدل عليه اللوحات التالية: لوحة "طلاق" (2007م)، ولوحة "حلم سمكة الأكواريوم" (2006م)، ولوحة "حيطان وعيك" (2006م)...
وينطلق كرستيان بافيت في تجربته الفنية هاته، وتلك من منطلق قولته التالية: "إن الرسم الرقمي ليس فحسب إبداع صور ثابتة، وإنما هو أولا وقبل كل شيء منهجية متعددة الأبعاد، تستخدم الصورة والصوت والحركة" مما يجعل لوحاته، تتحدد في ثباتها المكاني تارة، وفي حركتها الزمنية تارة أخرى، وتشتغل في علاقتها بفن من الفنون الجميلة، وهو فن الموسيقى الذي يضفي عليها جمالية خاصة، تبعث على نعته بنعت الواسطة التواصلية الجمالية.
ويصدر الفن لدى هذا الفنان عن رغبتين متظافرتين:
أولاهما، الرغبة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وإحقاق لكل ذي حق حقه.
ثانيتهما، الرغبة في دعم تجربته بتقنيات تعبيرية جديدة.
فهاته الرغبة ، تستشف من خلال التعقب البيوغرافي السابق، الذي أطلعنا على تحفز "كرستيان بافيت" بإصرار لارتياد آفاق إبداعية أرحب، فهو بعدما استكشف الرسم الرقمي عمد إلى تطعيمه بالرسم التقليدي، والوسائط الإعلامية المتعددة، وإلى تجريب الرسم الحركي، ثم الرسم التأليفي، والتصوير الافتراضي...
بينما الرغبة الأخرى، تستشف من خلال لوحاته، التي ارتسمت على أغلبها، رسوم توحي بما يمت بصلة إلى حقوق الإنسان وإحقاقها، ولعل من القضايا الحقوقية التي أوحت بها تلك اللوحات:
- قضية الديمقراطية: التي تتقنع حسب السياقات الإنسانية التي ترد فيها بعدة أقنعة، دون أن تكشف وجهها الحقيقي، الدال على ما يقصد بها، وما يحرك رغبة الشعوب فيها، ولعل لوحة "ديمقراطية" (2006م) تشكل أبين دليل على هاته القضية.
- قضية المرأة: التي ما فتئ الفنان إزاءها، يندد بالتضييق الذي تتعرض له حريتها في المجتمع، وبالنيل منها مرغمة جنسيا، وبتعنيفها، وتهميشها، واعتبارها متاع نزوة جنسية يباع ويشترى، فهاته القضية المركبة يمكن أن نستشفها بجلاء، ونحن نتقصى اللوحات التالية: لوحة "القفص" (2005م)، و لوحة "المأزق" (2006م)، ولوحة "الموجة" (2006م)، ولوحة "جروح الحياة" (2006م)، ولوحة "المرأة المصلوبة" (2006م)...
- قضية السياسة الجائرة، التي تقصر في الأخذ بما تقضيه المصلحة العامة، وتكون استبدادية، وانتهازية، تجعل من المواطن فردا منفعلا بقراراتها، غير فاعل فيها، ولعل هاته القضية توحي بها لوحة: "السياسة" (2009م).
- قضية العبودية التي تستلب الإنسان حريته المعيشية، وتفقده هويته الإنسانية، وتجعل وجوده رهن وجود الآخر الذي يتملكه، ويستنزف قواه يوما بعد يوم، وفق ما تدل عليه لوحة: "عبيد" (2009م).
- قضية الفقر الذي يجعل الإنسان لا يشبع حاجياته الأساسية، ويعيش حرمانا ماديا، يبديه انعزاليا في حياته، لا يشعر بالاطمئنان، ولا يقوى على اتخاذ القرارات، والتنعم بحريته في الوجود، فالفقير قد تدل عليه لوحات شتى وهو يعيش البطالة، أوالتهميش، أو التشرد، أو التسول، أواليتم، العائلي، وفق ما تدل اللوحات التالية: لوحة "البطالي" (2005م)، ولوحة "اللامبالاة" (2006م)، ولوحة "بدون أوراق" (2005م)، ولوحة "المتسولون" (1998م)، ولوحة "يتيم" (1999م)...
- قضية التمييز العنصري، وإقامة العلاقات بين بني البشر على أساس فروقات عرقية، أو جنسية، أو دينية، أو لونية... فهذا التمييز نبذه الفنان، ودعا إبداعيا إلى تعايش سلمي، كيفما كانت طبيعة تلك الفروقات، لذا نجد لوحة"أسود وأبيض" (2005م)، معبرة جدا عن هاته القضية.
- حق الشغل الذي يعتبر حقا من الحقوق المستحقة لكل فرد من أفراد المجتمع، فهو الذي يكفل لهذا الفرد العيش الكريم، ويدمجه في المجتمع، ويجعله فاعلا فيه، لهذا إذا حرم منه الفرد يعيش عالة على أسرته ومجتمعه، ويعيش عزلة وانغلاقا وتعاليا عن واقعه المعيش، ولعل هذا ما تعبر عنه بجلاء، لوحتا "شغل" (2006م)، و"البطالي" (2005م)، بتضمنهما رؤيتين إلى ما يترتب عن عدم إحقاق حق الشغل.
هذا بالإضافة إلى قضايا أخرى، لا يتسع المجال لتعقبها هنا، لذا نكتفي باختزالها في التضامن الاجتماعي، وحرية الإدلاء بالرأي، والطلاق، واغتصاب الطفولة، وحرية المعتقد الديني، والترفيه، والصحة، والتربية...
الإلهامات الإبداعية للفنان :
في كتابه المعنون بالرسم الرقمي، وفي العديد من استجواباته، يستحضر "كرستيان بافيت" مجموعة من الأنشطة الموازية لتجربته الإبداعية، والتي بفضلها أمكنه أن يوقظ إلهامه الفني ويجعله متحفزا لفعل الإبداع، فما الموقظات الإلهامية لهذا الفنان؟
أولا، تشغيل ملكة التخييل ، وتطويع الخيال ليفي بالكشف عن كوامن النفس، وإضفاء جمالية على الوجود الإنساني، فبفضل الخيال يتفاعل الإنسان مع هذا الوجود، ويصبح فاعلا فيه بعدما كان منفعلا به، لهذا يعطي له الفنان الاعتبار ويدعو إلى إيقاظه، لأن وظيفته كسلى تقتضي أن نستثيرها برفق، وبالتالي السهر على إبقائها يقظة وفاعلة.
ثانيا، رسم اللاواقع بدل محاكاة الواقع محاكاة مرآوية غير إبداعية، فالشخصية مثلا لدى الفنان لا ترسم وفق ما تبصرها عليه عيناه، وإنما ترسم وفق المشاعر التي تلهمه إياها، والعلاقة التي يقيمها معها، لذا فهو يعتبر المعطى اللاواقعي هو جوهر الفن، وليكشف بوضوح فكرته، يقول:" في لوحاتي أمثل دوما كائني المحبوب بالشمس التي أكرهها في الواقع بينما أحب المطر".
إن رسم اللاواقع، يفتح المجال أمام الذات المبدعة، لتعبر عن حريتها في تصور الواقع من منطلق اللاواقع، الذي يعطيه أبعادا جمالية.
ثالثا،استعمال التصوير الفوتوغرافي، وإضفاء على الصورة تعديلات رسمية خيالية، تجعل منها مزاوجة بين فن التصوير المطابق لما هو واقعي، وفن الرسم المطابق لما هو خيالي، بهذا تتحقق جدلية بين ما هو كائن وما يفترض أن يكون، وهي جدلية تصدر عنها صورة جمالية جديدة، تنزاح عن الصورة الفوتوغرافية، التي تم الانطلاق منها.
رابعا، الإنصات إلى الموسيقى قبل وأثناء مزاولة العمل الفني، إنها توقظ الإلهام، وتنعش النفس، وتهدئ المزاج، وتهب للفنان طواعية ترجمتها إلى رسم، يعبر عن تجاوب نفسي معها، ولعل الموسيقى التي تستهوي الفنان هي موسيقى "الفصول الأربعة" لعازف الكمان الإيطالي" أنطونيو فيفالدي"، فهو أثناء الإنصات إليها يرسم تأثيرها، أو المواضيع التي تلهمه إياها.
خامسا استيحاء المؤثرات الفنية لعباقرة الرسم، الذين أسدوا للإنسانية إبداعات خالدة، فعن الفنان الألماني "فينسنت فـــــان غـــوخ" (Vincent Van Gogh) استوحى كيفية تدبير ألوانه، وعن الفنان السوريالي البلجيكي" روني ماغريت" (René Magritte) استوحى من عمله الفني المعنون ب"العشاق"، الرسم البياني التواصلي، وعن الفنان البلجيكي "بول ديلفوكس" (Paul Delvaux)، استوحى شعرية وسرية العري الوديع، وعن الفنان السريالي الإسباني "سالفادور دالي" (Salvador Dali)اكتسب الجرأة الفنية، وعن الفنان الأمريكي"إدوارد هوبر"(Edward Hopper) تعلم كيفية التعامل مع الضوء.
سادسا، تأليف تأليفات إبداعية تبعا لتقنية الشفافيات، حيث الرسم الموجود في الواجهة الأمامية للوحة، يشف عن رسم أو جزء منه خلفه، مما يجعلنا إزاء لوحة تشتغل ضمنيا وظاهريا، أي إزاء لوحة لا يمكن أن تخطر إلا ببال فنان خصيب المخيلة.
سابعا، مزاولة قراءة الأشعار والمؤلفات الأدبية، فهاته القراءة واسطة مثلى للإيهام بالتصويري، ألا ترى أننا حين نشرع في رسم الرسوم البيانية لقصيدة ما، أو اختلاق غلاف مطابق لفحوى كتاب ما، أو رسم طبيعة اهتداء بكلمات تدلنا عليها، نكون قد استثرنا الإيهام، وبعثنا كفاءة التخييل على تخيل ما لم نعهد تخيله.
ثامنا، تجشم عناء إبداع الملصقات، التي تستتيح فرصة استيحاء موضوعات إبداعية متساوقة مع أحداث ،أو مواضيع ذات صلة بأنشطة اجتماعية معينة.
فلا شك أن الملصقات تجعل الفنان يحتك بفضاء فني مغاير لما اعتاده، وتجعله يتعامل أثناء الرسم مع رقعة ذات مساحة أرحب من المساحة المتعود عليها.
بهذا وذاك تمكن الفنان البلجيكي "كرستيان بافيت"، أن يستثير إلهامه وأن يرتاد بخياله آفاقا إبداعية رحبة، جعلته ذائع الصيت، فهو له في مجال الرسم الرقمي تجربة ثرية، ما فتئ بما أوتي من إرادة إبداعية غلابة، يشرعها على كل ما يمكن أن يدعمها، لذا فهي ليست معطى جاهزا ونهائيا، وإنما هي كيان يصير، ويتطور في استرسال زمني دائم.